في ربيع عام 2011، وفي ذروة الاحتجاجات الليبية ضد الدكتاتور سيئ السمعة معمر القذافي، كانت الأجواء في مركز عمليات بنغازي متوترة. وبينما كان الثوار يتجمعون في أحد الصباحات، لاحظوا مشهدا غير عادي. ففي إحدى الزوايا، كان هناك عدد قليل من الشباب العابسين يشربون القهوة ويتصفحون موقع “فيسبوك” على أجهزة الكمبيوتر المحمولة الخاصة بهم.
ولقد افترض الثوار أن هؤلاء مجندون جدد دفعهم حماسهم إلى التجول في هذه المنطقة الحساسة، فاقتربوا منهم، ليشرحوا لهم أهمية الأمن العملياتي أثناء الحرب. ولكن ضابطا أكبر سنا تدخل قائلا: “اتركوهم وشأنهم، إنهم أبناء الجنرال حفتر”.
كان الجنرال خليفة حفتر قد عاد لتوه إلى ليبيا، وهو الانقلابي الذي كان حليفا للقذافي ذات يوم ثم انقلب عليه واستحال عدوا له، وعرض قيادة القوات الثورية (بطريقة متطلبة للغاية). لذا، كان من المقرر أن يبقى أبناؤه “متوارين عن الأنظار” إلى أن تُحل القضايا المتعلقة بالقيادة. لكن سرعان ما نمت المعارضة للجنرال، الذي عُرف عنه آنذاك في ليبيا ارتكابه جرائم ضد شعبه أثناء الحرب التشادية في ثمانينات القرن الماضي، ونمت المعارضة أيضا إزاء أبنائه الذين كانوا يثيرون غضب أولئك القابعين في غرفة العمليات لرفضهم مد يد المساعدة لهم واستعراض مكانتهم وحصانتهم بعنجهية بدلا من ذلك، حيث كانوا يمضون الوقت في تصفح الإنترنت على أجهزة كمبيوتر غير آمنة. إلى أن جاء يوم، علت الابتسامات وجوه هؤلاء المتمردون أنفسهم. لقد حصلوا على الإذن بطرد أبناء حفتر.
اختفى أحد هؤلاء الشباب، صدام، عن الأنظار حتى وقت لاحق من ذلك العام. وفي خضم الفوضى التي أعقبت سقوط طرابلس في 2012، أصيب بجروح أثناء محاولته اقتحام “بنك الأمان”.
وبعد ما يقرب من ثلاثة عشر عاما، أصبح ذلك الشاب العابس، صدام حفتر، الآن عميدا ورئيسا لأركان القوات البرية للقوات المسلحة العربية الليبية.
مثل معظم قصص “النجاح” في بعض السياسات العربية الحديثة، فإن صعود صدام المفاجئ متجذر بعمق في المحسوبية ومحاباة الأقارب. وعلى الرغم من أنه لم يخضع قط لأي تدريب عسكري حقيقي ولم يتلقَ تدريبا لإعداده كضابط، فإنه كان مساعدا حاسما في الصراع الذي خاضه والده على السلطة، وذلك من خلال التناوب بين كونه دبلوماسيا، وكونه قامعا لمعارضيه، إلى جانب الإشراف على عمليات تجارية متعددة الجنسيات تدر أرباحا غير عادية بدءا من الخردة المعدنية ووصولا إلى البشر، حسب قول معارضين له.
لهذا السبب، ورغم أنه لم يكمل تعليمه قط، ولم تظهر عليه أية علامات ملحوظة تدل على امتلاكه شخصية كاريزمية، كما اقتصرت السياسة على أدوات العنف، فإنه يحظى الآن بدعم الجميع بما في ذلك واشنطن كي يصبح القيادي الأعلى القادم في ليبيا.
ابن الكرامة
بعد رفض الثورة له بقسوة وبأسلوب فج، غادر الجنرال حفتر ليبيا، ولم يعد إلى بنغازي إلا في عام 2014 محملا بنوايا محددة. ومن خلال تصوير فيديو هاو في قاعدة عسكرية، أطلق “عملية الكرامة”. وهي عملية مصممة بعناية فائقة كي تبدو وكأنها معركة محلية ضد التطرف الإسلامي، في حين كانت في الحقيقة مجرد عملية متعددة الجنسيات لإعادة الجمهورية الليبية الغارقة في الفوضى إلى حالة من الاستبداد العسكري.
وحلت لاحقا سنوات من حرب المدن الفوضوية والمدمرة، قبل أن يدخل حفتر الى بنغازي التي كانت تحت سيطرة قوات من تحالف متداعٍ من الثوار والإسلاميين والمتطرفين والشباب الفقراء الذين انتهى الأمر بهم ببساطة في الجانب الخطأ من الصراع. ورغم ادعائه في البداية بأنه سيتقاعد بعد “تحرير” بنغازي، فإن تحالف حفتر متعدد الجنسيات ضغط بشكل غير مفاجئ للاستيلاء على باقي أجزاء شرق ليبيا، وقام بإخضاع مدينة درنة بعنف من خلال سلسلة من الضربات الجوية المقدمة من الخارج وإطباق حصار خانق على المدينة. وبشكل تدريجي كان حفتر يستبدل السلاح بالذهب، وفي النهاية استولى على الهلال النفطي الغني في ليبيا وعلى مساحات شاسعة من جنوب البلاد من خلال تقديم وعود بالهيبة والثروات للقبائل الرئيسة إذا أصبحت صاحبة الامتياز المحلي لمغامرته العسكرية التي قدمها الآن كمشروع وطني.
وفي الوقت الذي كان معظم الاهتمام خلال هذه السنوات منصبا على ساحات القتال في ليبيا، أبقى صدام آلة والده العسكرية مزودة بالأسلحة والذخيرة والتمويل والدعم الذي تحتاجه لإكمال المهمة، فعمل منذ وقت مبكر على صقل مهاراته كمشغل دولي. ومن مكتب في حي راقٍ في دولة شرق أوسطية، شغل صدام منصب سفير “معركة الكرامة” الفعلي، حيث أدار الدعم المادي الموجه إلى حملة والده. ووفقا لفريق خبراء الأمم المتحدة المسؤول عن التحقيق في انتهاكات نظام العقوبات الليبي، كانت عمليات إعادة الإمداد العسكرية هذه تدار عادة من قبل شركات غامضة لتأجير طائرات، كانت تسافر عبر دول أخرى، إلى طبرق.
بعد رفض الثورة له بقسوة وبأسلوب فج، غادر الجنرال حفتر ليبيا، ولم يعد إلى بنغازي إلا في عام 2014 محملا بنوايا محددة
ومع استمرار نمو العمليات العسكرية، وكذلك تزايد كمية الذخائر والمعدات الإضافية المطلوبة، أصبح جليا أن حفتر سيحتاج إلى تفوق مادي ساحق للفوز بالحرب. لذلك، كان على صدام أن يبدأ في بناء قنوات شراء إضافية لتكملة الهبات التي يقدمها شركاؤه الأجانب. وكما أكد في وقت لاحق صقر الجروشي رئيس القوات الجوية لدى حفتر، حيث كان صدام هو الذي حصل على الأسلحة التي يعتمد عليها والده “من شركاء سريين ودول أجنبية” بالإضافة إلى صهره أيوب الفرجاني. وكما يعلم الجميع فالحرب مكلفة للغاية. في أوائل عام 2016، دعا رئيس مجلس النواب عقيلة صالح إلى إجراء تحقيق في كيفية تحويل حفتر لأموال وموارد الدولة، نظرا لأن عمليات الشراء كانت تديرها عشيرته، ويعاد توزيع تلك المشتريات بشكل يتناسب مع من كان مخلصا لها.
ذات مرة في بنغازي
في ذلك الوقت، قاد حفتر “عملية الكرامة” تحت رعاية ما أطلق عليه اسم الحكومة الليبية المؤقتة التي عينها مجلس النواب الذي يقع مقره في طبرق، الواقعة في أقصى شرق ليبيا.
أصبح استغلال موارد الدولة جنبا إلى جنب مع الافادة صدام من البنوك التجارية لتمويل مشترياته من خلال الديون الصادرة محليا سببا للقلق المتزايد، ليس بسبب ما كان ينفق وحسب، بل بسبب ما كان يشترى أيضا.
وبعد مرور ثلاث سنوات من الحرب للاستيلاء على بنغازي، تراجع حفتر عن ادعاءاته بـ”مكافحة الإرهاب”، في وقت توجه عناصر “داعش” باتجاه غرب ليبيا. ولكن دون استسلام للمعارضة الليبية، كانت قوات حفتر تحتجز أو تضغط على البرلمانيين والناشطين والموظفين القضائيين وأي شخص آخر له نفوذ، كما جيء بحكام عسكريين بدلا من رؤساء البلديات المدنيين.
وقد تزامن هذا مع انتقال صدام التدريجي من مقلد ليوري أورلوف (بطل فيلم “سيد الحرب”) إلى قيادة الهجوم الداخلي لثورة حفتر المضادة. وجرى تعيين صدام قائدا بحكم الأمر الواقع للواء طارق بن زياد، الذي يتألف إلى حد كبير من أتباع “السلفية المدخلية” الذين قاتلوا على الخطوط الأمامية في بنغازي (وهم أتباع التيار المدخلي المحافظ للغاية). وأصبحت هذه الوحدة نسخة حفتر من لجان القذافي الثورية المخيفة، حيث كانت تقدم عروضا لمعاقبة أي شخص ينتقد النظام الجديد علنا.
ومن مقر قاعدة لواء طارق بن زياد في سيدي فرج، شرقي بنغازي، أقام صدام نقوذه الخاص. وهنا أشرف على نظام موازٍ حيث لم يعمل على إعادة “تثقيف” الناشطين المدنيين وحسب، بل عمل أيضا على الضغط على رجال أعمال أو أفراد من عائلات بارزة.
وإلى جانب شقيقه خالد، ساعد صدام أيضا في تأسيس اللواء 106، الذي عمل كـ “حرس إمبراطوري” بحكم الأمر الواقع لصالح قوات حفتر. ونتيجة لهذا فقد امتاز بأنه من أفضل الوحدات تجهيزا في القوات المسلحة العربية الليبية. ومن الممكن أن نرى اندماج الدورين اللذين لعبهما صدام باعتباره وسيطا دوليا للأسلحة وطليعيا في “عملية الكرامة” وتطورها إلى جيش عائلي، متجليا بوضوح في المركبات المدرعة المتخصصة التي استخدمها اللواء 106 لاقتحام درنة.
وفي نهاية عام 2016، أصبح مستقبل صدام العسكري واضحا للعيان عندما جرى تصويره بزي نقيب وهو يحضر احتفالا عسكريا لتخريج دفعة من مجندي القوات المسلحة العربية الليبية الذين تلقوا تدريبهم في الخارج. وعلى الرغم من أنه لم يلتحق بأية كلية عسكرية قط، ولم يقضِ أي وقت في ساحات المعارك، فقد حظي بترقية إلى رتبة رائد خلال أقل من عام. وبعد فترة وجيزة، قام عقيلة صالح، الذي أصبح الآن مواليا بشكل واضح، بترفيعه بشكل غريب إلى رتبة مقدم، بينما كان الضباط العسكريون المخضرمون الذين انضموا إلى “عملية الكرامة” في البداية يراقبون بنظرات يملؤها الرعب والاشمئزاز.
الطريق نحو الصعاب
في نهاية عام 2017، أعلن قوات صدام حفتر النهاية الرمزية للحرب في بنغازي بطريقة مماثلة للنهاية الرمزية لثورة عام 2011، وذلك من خلال السيطرة على أحد البنوك.
وبعد إلقائه القبض على نائب وزير الداخلية في الحكومة المؤقتة، الذي كان مسؤولا عن تأمين البنوك، استخدم صدام اللواء 106 للضغط على البنك المركزي الليبي الشرقي، الذي يضم أكثر من 640 مليون دينار ليبي، و159 مليون يورو، ومليوني دولار أميركي، ونحو 6000 قطعة نقدية فضية ـ على الرغم من أن بعض هذه الأموال تضررت إلى الحد الذي جعل من المستحيل استخدامها بعد أن تسبب انكسار أحد الأنابيب في تسريب مياه الصرف الصحي حول القبو. ومن المثير للاهتمام أن الأمر لم يستغرق سوى ستة أشهر حتى بدأت أوراق عملة اليورو في الظهور في أوروبا، حيث كانت عموما في أيدي أولئك المرتبطين بالمافيا التركية، الأمر الذي يدل على أن الأموال المسروقة استخدمت لدفع المال لأولئك الذين عملوا كوسطاء في مشتريات من الذخيرة.
مع استمرار نمو العمليات العسكرية، وكذلك تزايد كمية الذخائر والمعدات الإضافية المطلوبة، أصبح جليا أن حفتر سيحتاج إلى تفوق مادي ساحق للفوز بالحرب
في هذه المرحلة، بدا صعود حفتر أمرا لا مفر منه. حيث سيطرت القوات المسلحة العربية الليبية ظاهريا على معظم الأراضي في ليبيا، كما نجحت في التأثير على البرلمان الوطني بالكامل، وتضخم الدعم الدولي لها ليشمل معظم القوى الكبرى، وحتى “الملتقى الوطني” الذي عقدته الأمم المتحدة خصيصا لإعادة إقلاع عملية الانتقال السياسي في ليبيا كان يميل إلى تمكين تلك القوات. ثم قرر حفتر مهاجمة طرابلس.
وبعد مرور أكثر من عام بقليل، كانت القوات المسلحة العربية الليبية في حالة من الفوضى، وانحل الدعم القبلي الذي كانت تحظى به، وشعر كثيرون في الشرق باستياء شديد بسبب الشباب الذين خُدعوا للمشاركة في القتال من خلال وعود بانتصار سريع وغنائم وفيرة، حتى إنه حصل تأجيل عودة أكياس الجثث. وقد أُنقذ حفتر والقوات المسلحة العربية الليبية ككيان من قبل مرتزقة روس الذين اشتراهم داعموه الآخرون في محاولة لإنقاذ العملية. ثم تدخلت دول لتقديم دعم دبلوماسي لحفتر في شرق ليبيا عن طريق مبادرات. نجا حفتر، ولكن بشق الأنفس، وهو الآن يعتمد بشكل كلي على مجموعة من المرتزقة الروس.
ورغم رتبته المثيرة، كان صدام بعيدا عن ساحات القتال في طرابلس في الغالب. حيث كان يستخدم مواهبه في مكان آخر، ويحافظ على الإمداد النقدي اللازم لتمويل حرب والده. وكما حدث في صراعات جيش حفتر السابقة، كان هذا الجيش يفتقر إلى الانضباط، حيث كان يعطى الأولوية للتدمير والتفوق على خصومه في إطلاق النار. واستنادا إلى محلل عسكري روسي ميداني، فقد أظهر مقاتلو القوات المسلحة العربية الليبية عدم احترافهم من خلال إطلاقهم “العشوائي” للنيران. إن إبقاء القوات المسلحة العربية الليبية مسرفة في استخدامها المفرط للذخيرة، أبقى صدام مشغولا.
ومنذ بداية الصراع، كان هناك شحن جوي يومي للذخيرة من الخارج للواء 106، ولواء طارق بن زياد فقط (التي تحتاج أسلحتهما المتقدمة إلى ذخيرة أميركية محددة). وإلى جانب هذا، كانت طائرتا شحن من طراز “إليوشن” تصلان كل يوم على الطريق القديم، محملتين بما يصل إلى 500 طن من الذخيرة الروسية لكل طائرة. ومن حين لآخر، كانت طائرة “هيركوليس-C-130” تابعة للقوات الجوية الفرنسية تهبط في بنغازي أيضا، من المحتمل أنها محملة بالمزيد من الذخائر للقوات التي تحاصر طرابلس.
وللحفاظ على هذه الآلة الحربية متعددة الجنسيات منسابة، ومع صعوبة الحصول على ديون إضافية بسبب الديون المتراكمة على بنوك شرق ليبيا (التي كادت تؤدي في أحد الأيام إلى انهيار النظام المصرفي الليبي بالكامل)، حاول صدام تكثيف أنشطة هيئة الاستثمار العسكري التابعة للقوات المسلحة العربية الليبية. وشمل نشاطها كل شيء بدءا من ركام البنى التحتية في بنغازي وتجميع أنقاض حروب والده السابقة من أجل بيعها إلى تركيا، مرورا بالبيع غير المشروع للنفط الخام والوقود وصولا إلى الاستيلاء على مشاريع زراعية في جنوب ليبيا.
وبحلول عام 2020، قيل إن صدام كان ينظم رحلات جوية لطائرة حفتر الخاصة إلى فنزويلا، ويستبدل حقائب السفر المليئة بالدولار الأميركي بالذهب للدفع لدائنيه.
الأعمال العائلية
لكن كل هذا لم يستطع أن يشتري النصر لوالده. وكان على حفتر أن يقوي موقفه، مع هزيمة جيشه وارتفاع الاتهامات المتبادلة. وبطبيعة الحال كان صدام أحد المستفيدين الرئيسين من حاجة والده إلى أن يجمع في أيدي العائلة كل المناصب العسكرية والمالية والاستراتيجية للقوات المسلحة الليبية، فيمنع بذلك أي منافس محتمل من الحصول على وسائل عسكرية مستقلة. ولم يقتصر ذلك على تقليم أظافر قبائل شرق ليبيا بالحد من وصول أبنائها إلى المناصب العسكرية العليا وإلى المعدات العسكرية، بل أيضا بإزالة أي شخص قد يتحداه. أو كان يوما أحد أكثر عناصر حفتر المرعبة في بنغازي، وشكل حوله مجموعة من الأتباع المخلصين. فكان لا بد من التخلص منه حتى يتمكن صدام من إخضاع القوات المتبقية في المدينة.
بعد ثلاث سنوات من الحرب للاستيلاء على بنغازي، تراجع حفتر عن ادعاءاته بـ”مكافحة الإرهاب”، عارضا بدلا من ذلك توفير ممرات آمنة لمقاتلي “داعش” باتجاه غرب ليبيا
ومنذ أواخر عام 2020، بات صدام وعلى نحو تدريجي معروفا كقناة اتصال جديدة مع الجيش الوطني الليبي، وبالتالي مع شرق ليبيا. ولم يكن سبب ذلك فقط أنه مع شقيقه خالد، كانا يسيطران على فلول الجيش الوطني الليبي وجميع أسلحته، بل أيضا بسبب علاقاته الدولية التي طورها منذ عام 2014، وعلى الأخص علاقاته مع الروس، أصدقائه الجدد، الذين سيساعدونه في تعزيز أنشطته الاقتصادية غير المشروعة.
وفي ربيع عام 2021، قطع حفتر العلاقات مع حكومة الوحدة الليبية المشكلة حديثا كما كان متوقعا، كي يبقي على الانقسام السياسي في ليبيا، وهو ما يحتاجه هو وداعموه الدوليون ليظلوا على صلة بالوضع الليبي وفاعلين فيه. ولكن مع تطويق البنك المركزي لفروع البنوك التجارية في ليبيا لمنع المزيد من الديون، بات حفتر في حاجة ماسة إلى التمويل. وسوف يملأ صدام إلى جانب “مجموعة فاغنر” آنذاك، هذه الفجوة. ويمكن استنتاج الدور الروسي في دعم هذا النمو، إذا أخذنا في الحسبان مدى ارتباط هذا الدور الوثيق مع حليف روسيا الإقليمي الآخر، الرئيس بشار الأسد في سوريا.
وفي أواخر أيام حرب طرابلس، تخلت “قوات فاغنر” بهدوء عن مواقعها على الجبهة كي تعيد الانتشار في المنشآت النفطية الرئيسة. وقد ساعد ذلك صدام كما قيل على تصدير كميات صغيرة من النفط الخام، وممارسة نفوذه على الشركات الشرقية التابعة لشركة النفط الوطنية الليبية، مما سمح له بزيادة تهريب الوقود. ونظرا لصعوبات طرح النفط أو الوقود الليبي المهرب في السوق العالمية، فقد مثلت سوريا أيضا زبونا جديدا مفيدا. وفي الاتجاه الآخر، تدفقت كميات كبيرة من الحشيش والكبتاغون (مادة الأمفيتامين التي تصنع في سوريا)، ووزعت في جميع أنحاء أفريقيا انطلاقا من موانئ طبرق وبنغازي. وإلى جانب المخدرات، بدأ ازدهار تجارة تهريب المهاجرين من مناطق بعيدة مثل بنغلاديش إلى قاعدة حميميم الجوية في سوريا ثم إلى بنغازي ومنها إلى أوروبا.
وإلى جانب نمو دور صدام في اقتصاد الظل، تحرك أيضا للسيطرة على المزيد مما تبقى من الاقتصاد الرسمي. فأنشأ “وكالة طارق بن زياد للخدمات والإنتاج”، على غرار نموذج “هيئة الاستثمار العسكري” التابعة للقوات المسلحة الليبية. سعت هذه الهيئة إلى الاستحواذ على أموال القطاع العام عبر عقود خدمية مع الدولة بدءا من صيانة الطرق وجمع النفايات إلى إعادة بناء المباني العامة في المدن التي دمرها الجيش الوطني الليبي.
كما استخدم صدام قوة الجيش الوطني الليبي للتغلغل في الشركات الرئيسة في شرق ليبيا مثل شركة طيران برنيق الجوية والبنوك التجارية المحلية. وهنا سهل بلقاسم، شقيق صدام، الذي كان يبني نفوذه على المؤسسات السياسية في شرق ليبيا، حصول “وكالة طارق بن زياد” على أكبر عدد ممكن من العقود الحكومية. كما فتحت هذه الوكالة المزيد من القنوات الدبلوماسية لحفتر، حيث استفاد صدام من العقود الفرعية لهذه المشاريع المربحة مع الشركات الأوروبية والإقليمية على حد سواء، لتعزيز علاقاته الاقتصادية والدبلوماسية معها.
وما قام به صدام من مزج بين الجانب الاقتصادي والدبلوماسي مع استخدام أساليب العنف القديمة، جعل منه الخليفة البارز لوالده الذي يزداد تقدما في الشيخوخة. ولم يكتفِ صدام بقيادة الجهود الدبلوماسية سعيا لانتخاب والده رئيسا خلال الفترة الانتخابية القصيرة والمحكوم عليها بالفشل في ليبيا عام 2021، بل سافر إلى إسرائيل مرات عدة، واعدا بالانضمام إلى “اتفاقات إبراهام” إذا ضغطت تل أبيب لدعم رئاسة والده حفتر. بالإضافة إلى ذلك، نشر قواته من “كتيبة طارق بن زياد” في مبنى محكمة سبها ليمنع ترشيح منافسه المحتمل سيف الإسلام القذافي.
ثم في صيف عام 2022، غيرت دول داعمة لصدام، قواعد اللعبة. ففي صفقة عقدت بينه وبين عائلة الدبيبة (التي قادت حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس)، وافق صدام على رفع الحصار الذي يفرضه الجيش الوطني الليبي على صادرات النفط الليبية مقابل استبدال رئيس المؤسسة الوطنية للنفط الذي خدم لفترة طويلة، وإحلال محافظ البنك المركزي السابق فرحات بن قدارة محله. فأزالت هذه الخطوة العقبات الأخيرة أمام تدهور الدولة الليبية، وسهلت الانهيار التدريجي للمؤسسة الوطنية للنفط مع ظهور وسطاء جدد لمبيعات النفط الخام، وتزايد التحايل على نظام تحويل مبيعات النفط الخام مباشرة إلى البنك المركزي، وتمكن صدام من السيطرة أكثر من أي وقت مضى على الشركات التابعة للمؤسسة الوطنية للنفط، وخاصة تلك التي تقوم بإعادة بيع الوقود.
إلى جانب شقيقه خالد، ساعد صدام أيضا في تأسيس اللواء 106، الذي عمل كحرس إمبراطوري بحكم الأمر الواقع لصالح قوات حفتر
ومع ازدياد حكم آل حفتر رسوخا، ازدادت أيضا نفوذ صدام. ولم يقتصر الأمر على الضغط غللا الأكاديميين والناشطين والمحامين وغيرهم، إنما طال أيضا شخصيات بارزة أخرى، مثل وزير الدفاع السابق مهدي البرغثي، الذي اعتدي عليه مع عائلته لمجرد عودته إلى بنغازي، ربما لأنه نظر إليه كمنافس محتمل لما يتمتع به من جذور قبلية وعسكرية، حسب قول معارضين لصدام.
لم يكن بؤس شخصية صدام وبؤس حكم حفتر أوضح مما كان عليه في مدينة درنة. ففي سبتمبر/أيلول 2023، تسبب إعصار في انهيار سد مهمل منذ فترة طويلة، كاد يمحو المدينة التي دمرتها حرب القوات المسلحة الليبية السابقة. وجاءت استجابة صدام الفوضوية، التي تركزت على الحفاظ على سيطرته أكثر منها على مساعدة الناجين، لتزيد من تفاقم الكارثة بالفعل. وعندما احتج الناجون وطلبوا المساعدة، ضرب صدام بقوة، واعتقل أعدادا كبيرة من الناس، وأغلق المدينة تدريجيا. وبعد أشهر عين البرلمان شقيقه بلقاسم مديرا تنفيذيا لصندوق إعادة الإعمار. واستخدم هذا المنصب كما هو الحال مع وكالة طارق بن زياد، كوسيلة سياسية لتأمين الدعم الأجنبي عبر عقود مربحة، بينما ترك المواطنون يعانون من إهمال شديد لم يحدث من قبل.
القائد الذي يريده الآخرون
يجلس صدام بصفته قائد أكبر قوة في الجيش الوطني الليبي وحارس الوصول إلى حقول النفط الرئيسة ومحطات التصدير في ليبيا، على قمة “بيت من زجاج” يمثل ليبيا الحالية. وعلى الرغم من اعتماده على روسيا في استعراض القوة، وعلى الأنشطة غير المشروعة للمحافظة على بقائه ماليا، فإنه يقدم ما يكفي من صورة وهمية عن الرجل القوي لمواصلة حشد الدعم له. وقد أغرت المكافآت المالية حتى تركيا للعمل من خلاله، وهي التي كانت ترى في عائلة حفتر ذات يوم العائق الأكبر أمام استقرار ليبيا. كما تمكن بسيطرته على تدفقات الهجرة من تدجين إيطاليا وغيرها من الأوروبيين الذين اتبعوا ذات يوم عملية سياسية وطنية. وقد جعله دوره المسؤول عن كتيبة طارق بن زياد قناة لمخططات أميركا للبدء في بناء قوة ليبية موحدة (على الرغم من المفارقة الروسية القائمة). وكل هذا تعززه دول عربية، بدعمها الدبلوماسي والمادي الكبير والطويل الأمد.
ربما كان صدام ثوريا غير نمطي، لكنه يجسد نمط السياسة الليبية في مرحلة ما بعد الثورة وعلاقاتها الدولية. حيث تتقدم المصلحة على الاستقرار، وحيث تحقيق التوازن في الشبكة الدولية حول ليبيا هو الجانب الأهم في أي نظام سياسي ليبي.
جندي من الجيش الوطني الليبي على متن دبابة في وسط مدينة بنغازي في 19 يوليو 2017
وصدام هو تجسيد حي لفشل السياسة الليبية منذ عام 2014. ونجاحه وصعوده ليس لأنه بنى شيئا، بل لأن هناك دورا يحتاج من يشغله. فمؤيدو “الكرامة” بحاجة إلى شخص لإدارة عمليات نقل الأسلحة إليهم. وكان والده يحتاج إلى واحد من عائلة حفتر كي يجلس اسميا على رأس الشركات. وكان الروس بحاجة إلى شخص محلي يعملون من خلاله لمنح مهامهم إمكانية معقولة للإنكار. ويبدو أن الشيء الوحيد الذي يألفه صدام نفسه ويبرع فيه هو السلطة. والصورة الوهمية عن صدام كرجل قوي وزعيم كفء على نحو مستقل، ليست موجودة إلا لأن هذه الصورة هي ما يريده كل من يتعامل مع ليبيا اليوم. وإذا تغير هذا الدعم فسوف تتبخر قوته.
غير أن هذه السياسة لا تؤكد ولا تقوي سوى الأنشطة التي أوصلته إلى ما هو عليه، أي إنها تعمل على الإعداد لأزمات مستقبلية. ويمكن رؤية انتقاله من صدام المفيد إلى صدام المشكلة في أوائل أغسطس/آب 2024، حيث أغلق أكبر حقل نفط في ليبيا، زاعما أن هذا بسبب إهانة أوروبا بعد ضبطها شحنة أسلحة حاول شراءها بطريقة غير مشروعة من الصين (مقابل النفط).
من المرجح أن يُنصب صدام حفتر قائدا قادما لليبيا، خاصة مع تقدم والده في السن. لقد أعطته سلالم العلاقات الدولية وميله إلى العنف ونشاطه الاقتصادي الذي استخدمه لتسلق سلم العلاقات الدولية وضعا متميزا وسط النخبة السياسية في ليبيا.
لكن في نهاية المطاف سينهار بيت الزجاج، وستتبدد الصورة الوهمية عن قوة صدام، وعندها سيكون السؤال الوحيد هو: هل هناك ما يكفي من ليبيا المتبقية لإعادة بناء ما كان يأمله الثوار الذين طردوه أولا من بنغازي؟
المصدر : https://www.majalla.com/node/322156/%D8%A8%D8%B1%D9%88%D9%81%D8%A7%D9%8A%D9%84/%D8%B5%D8%AF%D8%A7%D9%85-%D8%AE%D9%84%D9%8A%D9%81%D8%A9-%D8%AD%D9%81%D8%AA%D8%B1-%D8%B4%D8%A7%D9%87%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B4%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%8A%D8%A8%D9%8A-%D9%88%D8%AD%D8%A7%D8%B1%D8%B3-%D9%85%D8%B5%D8%A7%D9%84%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%A2%D8%AE%D8%B1%D9%8A%D9%86