رحاب الزيادي
نُشرت مسودة الدستور التونسي الجديد في الجريدة الرسمية، وهي المسودة التي أثارت بعض ردود الفعل الغاضبة بشأنها، مما قد يقود إلى صدام محتمل بين الرئيس قيس سعيد من ناحية والقوى السياسية من ناحية أخرى، لاسيما بعد تصريحات لرئيس الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة العميد الصادق بلعيد بأن النسخة المنشورة في الجريدة الرسمية تختلف عن ما قدمته الهيئة للرئيس في 20 يونيو الماضي، وبرأ بلعيد نفسه من المشروع المطروح للاستفتاء لما ينطوي عليه من مخاطر جسيمة من حيث تشويه الهوية التونسية، والأخذ بنصوص الفصل 80 من دستور 2014 والذي يعطى صلاحيات واسعة للرئيس. وعليه تناقش هذه الورقة أبرز التعديلات الدستورية، ونقاط الخلاف حولها، وموقف القوى السياسية من المسودة.
أبرز التعديلات
تضمنت مسودة الدستور الجديد بعض التعديلات من حيث تغيير نص الفصل الأول من الدستور السابق وحذف نص “الإسلام دينها”، وتغييره في الفصل الخامس من الدستور الجديد إلى “تونس جزء من الأمة الإسلامية، وعلى الدولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية”.
كذلك جاء في نص الدستور الجديد في الفصل 41 “الحق النقابي بما في ذلك حق الإضراب مضمون، ولا ينطبق هذا الحق على الجيش الوطني، ولا يشمل حق الإضراب القضاة وقوات الأمن الداخلي والديوانة”. وتم اعتماد نظام الغرفتين؛ فقد تم تقسيم الباب الثالث منه إلى قسمين: الأول مجلس نواب الشعب، والثاني المجلس الوطني للجهات والأقاليم.
ونُصّ في الفصل 66 “لا يتمتع النائب بالحصانة البرلمانية بالنسبة إلى جرائم القذف والثلب وتبادل العنف المرتكبة داخل المجلس، ولا يتمتع بها أيضًا في صوره تعطيله للسير العادي لأعمال المجلس”. وقد جاء ذلك النص بعد حالة الفوضى التي شهدها مجلس النواب السابق من حيث التشاجر والاعتداءات التي حدثت بين النواب.
وفى الفصل 85: “يمارس مجلس الجهات والأقاليم صلاحيات الرقابة والمساءلة في مختلف المسائل المتعلقة بتنفيذ الميزانية ومخططات التنمية”، وفى الفصل 87: “رئيس الجمهورية يمارس الوظيفة التنفيذية بمساعدة حكومة يرأسها رئيس حكومة”. وفى الفصل 100: “رئيس الجمهورية يضبط السياسة العامة للدولة ويحدد اختياراتها الأساسية، ويعلم بها مجلس نواب الشعب والمجلس الوطني للجهات والأقاليم، وله أن يخاطبهما معًا إما مباشرة أو بطريق بيان يوجه إليهما. والفصل 101: “يعين رئيس الجمهورية رئيس الحكومة، ويعين بقية أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها”، والفصل 102: “رئيس الجمهورية ينهى مهام الحكومة أو عضو منها تلقائيًا أو باقتراح من رئيس الحكومة”.
وفى الفصل 107: “إذا تعذر على رئيس الجمهورية القيام بمهامه بصفة وقتية يفوض بأمر وظائفه إلى رئيس الحكومة، باستثناء حق حل مجلس نواب الشعب، أو المجلس الوطني للجهات والأقاليم”. وفى الفصل 109: “عند شغور منصب رئاسة الجمهورية لوفاة أو لاستقالة أو لعجز تام أو لأي سبب من الأسباب، يتولى فورًا رئيس المحكمة الدستورية مهام رئاسة الدولة بصفة مؤقتة، لأجل أدناه خمسة وأربعون يومًا وأقصاه تسعون يومًا”، فينما كان النص في الدستور السابق “تفويض سلطات الرئيس إلى رئيس الحكومة”.
وفى الفصل 112: “الحكومة مسؤولة عن تصرفها أمام رئيس الجمهورية”، والفصل 115: “لمجلس نواب الشعب وللمجلس الوطني للجهات والأقاليم مجتمعين أن يعارضا الحكومة في مواصلة تحمل مسؤولياتها بتوجيه لائحة لوم إن تبين لهما أنها تخالف السياسة العامة للدولة، والاختيارات الأساسية المنصوص عليها بالدستور”. وتم النص على الوظيفة القضائية في الباب الرابع من الدستور الجديد بدلا من السلطة القضائية في الدستور السابق، الأمر الذي عدّه رافضو الدستور تقليلًا من شأن القضاء.
وفى الفصل 125: “المحكمة الدستورية هيئة قضائية مستقلة تتركب من تسعة أعضاء ثلثهم الأول من أقدم رؤساء الدوائر بمحكمة التعقيب، والثلث الثاني من أقدم رؤساء الدوائر التعقيبية بالمحكمة الإدارية، والثلث الثالث والأخير من أقدم أعضاء محكمة المحاسبات، وينتخب أعضاء المحكمة الدستورية من بينهم رئيسًا لها طبقًا لما يضبطه القانون، وإذا بلغ أحد الأعضاء سن الإحالة على التقاعد، يتم تعويضه آليًا بمن يليه في الأقدمية، على ألا تقل مدة العضوية في كل الحالات عن سنة واحدة”. فيما كانت تتكون المحكمة في الدستور السابق من اثني عشر عضوًا.
وتم استبدال الباب السابع في الدستور القديم عن السلطة المحلية، وحل محله الباب السادس في الدستور الجديد والخاص بالجماعات المحلية والجهوية، وتم النص في الفصل 133: “تمارس المجالس البلدية والمجالس الجهوية ومجالس الأقاليم والهياكل التي يمنحها القانون صفة الجماعة المحلية المصالح المحلية والجهوية حسب ما يضبطه القانون”. وتضمن الدستور الجديد في الفصل 135 إضافة المجلس الأعلى للتربية والتعليم، “يتولى إبداء الرأي في الخطط الوطنية الكبرى في مجال التربية والتعليم والبحث العملي والتكوين المهني وآفاق التشغيل، يضبط القانون تركيبة هذا المجلس واختصاصاته وطرق سيره”.
وتضمنت الأحكام الانتقالية في الفصل 141: “يستمر العمل في المجال التشريعي بأحكام الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021 المؤرخ في 22 سبتمبر 2021 المتعلق بتدابير استثنائية إلى حين تولى مجلس نواب الشعب وظائفه بعد تنظيم انتخابات أعضائه”.
مواقف متباينة
أُثيرت ردود غاضبة تجاه بعض نصوص الدستور الجديد، لاسيما من الجهات المعارضة على غرار حركة النهضة وجبهة الخلاص الوطني وبعض المنظمات الحقوقية، تحديدًا الفصل 55 من الدستور، والذي يربط الحريات بالآداب العامة، ورأيهم أن ذلك مسألة أخلاقية تتغير من جهة إلى أخرى، وأن هذا النص يمثل تضييقًا للحريات في الفترة القادمة.
كذلك هناك غضب من قبل المنظمات الحقوقية حول أن الحريات أصبحت مجرد إعلان نوايا، وأنها بحاجه إلى ضمانات أخرى تحميها من جميع الانتهاكات، فهناك تراجع في المسودة عن مضمون الفصل 49 من دستور 2014 والذي يقر مجموعة من الشروط تقع على عاتق جميع السلطات عند تقييد الحقوق والحريات، فيشترط أن تحترم القيود مقتضيات الدولة المدنية الديمقراطية، وهو ما غاب عن المسودة الجديدة.
ومن بين الأحزاب الرافضة للدستور الجديد؛ التيار الديمقراطي، والحزب الجمهوري، والتكتل الديمقراطي، وحزب آفاق تونس برئاسة محمد فاضل عبد الكافي والذي عد “مسودة الدستور امتدادًا للمسار التسلطي الذي ينتهجه الرئيس قيس سعيد، وأن تمرير هذا المشروع يرتب أزمات شاملة وتدمير ما تبقى من الدولة”. كذلك عبرت الهيئة الوطنية للدفاع عن الحريات والديمقراطية عن أن ركائز الدولة الديمقراطية غير متوفرة في الدستور الجديد. وقال الأمين العام لحزب العمال في تونس “حمة الهمامي” إن “مشروع الدستور، حلقة من حلقات الانقلاب الذي قاده الرئيس قيس سعيد في 25 يوليو 2021”.
وترى الجهات المعارضة أن مسودة الدستور الجديد تقود إلى تحصين رئيس الجمهورية من شتى أشكال المحاسبة، وأن غياب المراقبة على أعمال الرئيس يشكل ارتدادًا على دستور 2014. بالإضافة إلى أن تحكم رئيس الجمهورية في المسار المهني للقضاة، وفقًا لأحكام المرسوم المتعلق بالمجلس الأعلى المؤقت للقضاة، وعدم التطرق إلى استقلالية هذا الهيكل يقود إلى هيمنة السلطة التنفيذية على السلطة القضائية. وأنه لهذه الاعتبارات مُجتمعة فإن مشروع الدستور الجديد يمثل انتكاسة في مجال الحقوق والحريات، وخطرًا على المسار الديمقراطي.
كذلك ترك المشروع الباب مفتوحًا أمام التأويلات، والتأسيس للنظام القاعدي من خلال إلغاء باب السلطة المحلية والتراجع عن مبدأ اللامركزية وإضعاف دور البرلمان الرقابي، والتخلي عن مبدأ الانتخاب المباشر لأعضاء البرلمان، والنص على مبدأ سحب الوكالة من النواب، واستحداث الغرفة النيابية الثانية “مجلس الجهات والأقاليم. ولم يتم النص بالدستور على طريقة الانتخاب الحر والمباشر، خلافًا لما ورد بخصوص انتخاب البرلمان والمجلس الوطني للجهات والأقاليم حيث لم يتم توضيح طريقة الاقتراع، فضلًا عن عدم التطرق إلى الحق في الاقتراع. وكذلك هناك خطورة في النص على مواصلة رئيس الجمهورية للوظيفة التشريعية، لحين إرساء المجلس التشريعي، مما يعنى أنه سيضع القانون الانتخابي بموجب مرسوم يُضّمنه ما يشاء من قيود أمام حق الاقتراع الحر المباشر.
وأن مشروع الدستور الجديد في الفصل 61 لم يكتف بسحب الثقة من النواب، لكنه حذف شرط الانتخاب المباشر لمجلس النواب لا فقط لمجلس الجهات والأقاليم، على عكس انتخاب رئيس الجمهورية الذي نص على أنه مباشر، وهو ما يؤشر إلى نوايا بناء النظام القاعدي عبر مرسوم القانون الانتخابي، خاصة أن الأحكام الانتقالية تضمن للرئيس احتكار السلطة التشريعية. على النحو الآخر؛ هناك بعض الآراء ترجح أن عدم النص على الجانب الاقتصادي في الدستور، بأن يكون الرئيس قد ارتأى النص على هذا الجانب في القوانين الأساسية وليس في أحكام الدستور.
وبحسب البيان الذي خرجت به الهيئة الإدارية الوطنية للاتحاد العام التونسي للشغل في 2 يوليو 2022، فإن موقف الاتحاد مثل انتقادًا لبعض نصوص الدستور من حيث “غياب النص على الطابع المدني للدولة، وتقييد لبعض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وتركيز السلطات لدى رئيس الجمهورية، وتحجيم الهيئات الدستورية وهو ما يهدد الديمقراطية، وتطرق بيان الهيئة إلى فكرة الحوار الحقيقي وتحويل 25 يوليو إلى مسار حقيقي للتصحيح، لكن ترك الاتحاد حرية التصويت للهياكل النقابية وكافة العمال”.
من ناحية أخرى؛ من المؤيدين للدستور الجديد عضو حزب التيار الشعبي” مباركة عواينية” وهي زوجة البراهمي، ورأت أن الدستور الجديد “نهاية لعهد المافيا والمهربين وتجار البشر، ونهاية للإرهابيين وتجار السلاح والتكفيريين، وكشف لملفات الاغتيالات السياسية، ونهاية لمحتكري أقوات التوانسة، ومحاسبة المكلفين بإفلاس الدولة”. وقال المتحدث باسم حزب التيار الشعبي “محسن النابتي” إن المشروع الجديد فتح آفاقًا للشعب التونسي، حتى يمسك بزمام أموره”. وقال أمين عام حزب تونس إلى الأمام “عبيد البريكي” إن الدستور الجديد يستجيب لتطلعات التونسيين ويؤسس لدولة جديدة.
وبحسب استطلاع رأى أجرته مؤسسة “إمرود كنسلتنغ” في فبراير 2022؛ فقد تصدر الرئيس قيس سعيد بنسبة 76% كشخصية سياسية يتم انتخابها في الانتخابات القادمة، مما يعنى أن هناك احتمالية لوجود ظهير شعبي يساند الرئيس في خطواته الإصلاحية، لكن يظل هذا الاحتمال ضعيف مالم يحدث حوار مع القوى الأكثر تأثيرا في تونس على غرار الاتحاد العام التونسي للشغل.
ختاما؛ قد تقود الخلافات الدستورية إلى تأجيج الشارع التونسي من جانب الأحزاب المعارضة، وعلى رأسها حركة النهضة وائتلاف جبهة الخلاص الوطني، لاسيما في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة، ومن ثم قد تعمل على رفض الدستور الجديد من خلال مقاطعة المشاركة في الاستفتاء، وأعلنت النهضة وكذلك الحزب الدستوري الحر مقاطعة المشاركة في الاستفتاء الذي يعزز من سلطات الرئيس.
ذلك بالإضافة إلى احتمالية الصدام بين القوى السياسية في تونس، خاصة أن السياسات المتبعة من قبل الرئيس قيس سعيد أدت إلى دخوله في صدام مع عدد من الجهات في الدولة، فهناك إصرار من جانب الرئيس على المُضي قدمًا نحو تنفيذ بنود خريطة الطريق التي أعلنها في ديسمبر 2021، بما في ذلك تطهير مؤسسات الدولة.
وتعارض النهضة حل سعيد البرلمان وإقصائها من الحوار، ويعارض الاتحاد العام للشغل أسس وآليات الحوار الوطني، وأن نتائج الاستشارة تُعد حوارًا غير حقيقي حيث لم يشارك بها سوى 500 ألف مواطن، ويعارض الحزب الدستوري الحر السياسات المتبعة، لكن كل من الاتحاد والدستوري يعارضان مطالب النهضة بعودة البرلمان المنحل، ويتفقان مع الرئيس على ضرورة محاكمة العناصر الفاسدة من النهضة.
وتصاعدت ظاهرة الإضراب من قبل عدد من الجهات في الدولة نتيجة هذه الخلافات، فقد أُعلن الإضراب من قبل تنسيقية الهياكل النقابية القضائية المعارضة لقرارات الرئيس بعد عزل 57 قاضيًا في بداية يونيو 2022، وحل المجلس الأعلى للقضاء. كذلك دعا الاتحاد العام التونسي للشغل والذي يعد قوة اجتماعية كبيرة ذات ثقل وتأثير سياسي كبير في تونس إلى إضراب في 16 يونيو الماضي.
.
رابط المصدر: