لقد توقف الحزب عن كونه بيتا للعمال الأميركيين منذ فترة طويلة، وذلك بسبب دعمه للإرباك الرقمي، والعولمة، وتدفقات المهاجرين الضخمة، وأفكار الوعي. في الوقت الحاضر، نجد أن أصحاب التعليم العالي، وليس العمال اليدويين، هم الأكثر ميلا للتصويت لصالح الديمقراطيين. وفي الولايات المتحدة، وأماكن أخرى، سوف تعاني الديمقراطية…
بقلم: دارون عاصم أوغلو
بوسطن- لم تكن نتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية انتصارا لدونالد ترمب بقدر ما كانت خسارة للديمقراطية. ولم يخسر الديمقراطيون لأن الرئيس الأميركي جو بايدن ظل في السباق لفترة أطول مما ينبغي، وليس لأن كامالا هاريس غير مؤهلة، بل لأنهم كانوا يخسرون العمال وفشلوا في استعادتهم.
لقد توقف الحزب عن كونه بيتا للعمال الأميركيين منذ فترة طويلة، وذلك بسبب دعمه للإرباك الرقمي، والعولمة، وتدفقات المهاجرين الضخمة، وأفكار “الوعي”. في الوقت الحاضر، نجد أن أصحاب التعليم العالي، وليس العمال اليدويين، هم الأكثر ميلا للتصويت لصالح الديمقراطيين. وفي الولايات المتحدة، وأماكن أخرى، سوف تعاني الديمقراطية إذا لم يصبح يسار الوسط أكثر دعما للعمال.
في حين فاز الديمقراطيون ببعض الانتخابات السابقة بدعم من وادي السليكون، والأقليات، وأجزاء من العمالة المنظمة، والطبقة المهنية في المدن الكبرى، فإن هذا لم يكن مستداما قَـط. الواقع أن مثل هذا الائتلاف ينفر العمال والمنتمين إلى الطبقة المتوسطة في قسم كبير من البلاد، وخاصة في المدن الأصغر حجما والجنوب. كانت المشكلة واضحة بالفعل بعد عام 2016، وهذا جزء من السبب الذي دفع بايدن إلى تبني استراتيجية صناعية داعمة للعمال في عام 2020.
لقد أوفى اقتصاد بايدن بوعوده للطبقة العاملة من خلال خلق فرص العمل وتعزيز القاعدة الصناعية الأميركية. فارتفعت الأجور عند القاع بسرعة، وبدأت السياسات تتحرك قليلا نحو آراء العمال الأميركيين بشأن الهجرة، وسياسات الحماية، ودعم النقابات، والاستثمار العام. لكن مؤسسة الحزب ــ الناشطون المتعلمون من ذوي التعليم العالي بشكل خاص والذين يتركزون في المدن الساحلية المزدهرة ــ لم تستوعب قَـط مخاوف العمال الثقافية والاقتصادية. بدلا من ذلك، بدا الأمر وكأن الديمقراطيين يلقون عليهم المحاضرات أو يوبخونهم غالبا.
إليكم اختباري الخاص لفهم العلاقة بين الديمقراطيين والعمال الأميركيين: إذا تقطعت السبل بأحد أعضاء النخبة الديمقراطية في مدينة غريبة، فهل يفضل قضاء الساعات الأربع التالية في التحدث إلى عامل أميركي من الغرب الأوسط حاصل على شهادة الدراسة الثانوية، أو إلى مِـهَـني حاصل على تعليم جامعي من المكسيك أو الصين أو إندونيسيا؟ كلما طرحت هذا السؤال على الزملاء والأصدقاء، يفترضون جميعا أن الإجابة هي الثانية.
في البداية، مع تركيزها على الطبقة المتوسطة والوطنية، بدا الأمر وكأن هاريس مستعدة لمعالجة هذه المشكلة. إذا كانت صادقة، فإن جهدا حقيقيا لاستعادة العمال، ربما كان ليضمن لها الفوز بالانتخابات. ولكن بحلول النهاية، كانت الحملة تتمحور حول القضايا الأكثر أهمية للقاعدة. جاءت أكبر محاولة لتوسيع الائتلاف باستخدام ليز تشيني (عضو الكونجرس الجمهورية السابقة التي نُـفيت من حزبها) لاجتذاب دعم نساء الضواحي بشأن قضية الإجهاض. قد تكون الحرية الإنجابية قضية بالغة الأهمية، لكنها لن تكسب الطبقة العاملة أبدا، وبالتأكيد ليس رجال الطبقة العاملة.
فيما يتعلق بالاقتصاد، يستطيع الديمقراطيون التحدث عن الفرص والوظائف إلى أن تتقطع أنفاسهم، ولكن ما لم ينأوا بأنفسهم عن النخبة التكنولوجية والتجارية العالمية، فلن تترجم مثل هذه الرسائل إلى أجندة حقيقية مؤيدة للعمال ــ وسوف يتجاهلها العمال تماما. ومع بدء حتى وادي السليكون في نبذ الديمقراطيين (على نحو لا يخلو من مفارقة)، فلا يوجد توقيت أفضل لتغيير المسار.
لكن إعادة التوجيه ستكون صعبة الآن بعد أن أصبح حزب ترمب وجيه. دي. فانس الجمهوري بيت العمال الرئيسي ــ وخاصة من يعملون في التصنيع وفي المدن الأصغر حجما ــ وبعد أن أصبحت النخب الديمقراطية منفصلة ثقافيا عن العمال وقسم كبير الطبقة المتوسطة.
المأساة الكبرى هي أنه في حين بدأت أجندة بايدن تؤتي ثمارها بشكل غير ملحوظ لصالح العمال (على نحو يثبت أن العولمة والتفاوت المتزايد ليسا من قوى الطبيعة العمياء)، يكاد يكون من المؤكد أن سياسات الإدارة القادمة ستدعم أصحاب الثروة والنفوذ. ولن تعيد الرسوم الجمركية المرتفعة على الواردات من الصين الوظائف التي غادرت البلاد، ومن المؤكد أنها لن تساعد في إبقاء التضخم تحت السيطرة. وبرغم أن سياسات بايدن في زمن الجائحة (التي جاءت على رأس تدابير التحفيز التي أطلقها ترمب) أدت إلى تغذية التضخم، فقد تمكن بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي من استعادة استقرار الأسعار. ولكن إذا ضغط ترمب على الاحتياطي الفيدرالي لحمله على فرض مزيد من خفض أسعار الفائدة (لتعزيز شعبيته)، فقد يعود التضخم.
علاوة على ذلك، من المحتمل أن يسمح دعم ترمب لقطاع العملات المشفرة بمزيد من عمليات الاحتيال والفقاعات، في حين لا يعود بأي فائدة على العمال أو المستهلكين الأميركيين. وسوف يستفيد من التخفيضات الضريبية التي وعد بها في المقام الأول الشركات وسوق الأوراق المالية، مع توجيه أي زيادة في الاستثمار الناتج إلى حد كبير نحو قطاع التكنولوجيا والتشغيل الآلي (الأتمتة).
في عموم الأمر، قد تتحول السنوات الأربع المقبلة من سياسة التكنولوجيا إلى كارثة تنزل بالعمال. ورغم أن بايدن أصدر أمرا تنفيذيا رئيسيا بشأن الذكاء الاصطناعي، فإن هذا كان مجرد خطوة أولى. وإذا لم يخضع الذكاء الاصطناعي للتنظيم على النحو اللائق، فلن يتسبب في إحداث فوضى عارمة في كثير من الصناعات فحسب؛ بل سيؤدي أيضا إلى التلاعب المتفشي بالمستهلكين والمواطنين (ما عليك إلا أن تنظر إلى وسائط التواصل الاجتماعي)، ولن تتحقق إمكاناته الحقيقية كأداة قادرة على مساعدة العمال. من خلال دعم الشركات الضخمة ورؤوس الأموال الاستثمارية في سليكون فالي، ستغذي إدارة ترمب الاتجاه نحو الأتمتة التي تحل محل العمالة.
إن التهديد الذي يفرضه ترمب على المؤسسات الأميركية يشكل أيضا خطرا كبيرا على العمال. ليس سرا أنه سيعمل على إضعاف المعايير الديمقراطية بدرجة أكبر، وإدخال حالة من عدم اليقين في عملية صنع السياسات، وتعميق الاستقطاب، وتقويض الثقة في المؤسسات مثل المحاكم ووزارة العدل (التي سيحاول استخدامها كسلاح). لن يؤدي هذا السلوك إلى الانهيار الاقتصادي على الفور، بل وربما يشجع بعض الاستثمارات من قِبَل شركاته المفضلة (بما في ذلك صناعة الوقود الأحفوري) في الأمد القريب. ولكن في الأمد المتوسط (لنقل عشر سنوات أو نحو ذلك)، سوف يؤثر ضعف المؤسسات وفقدان الثقة العامة في المحاكم سلبا على الاستثمار والكفاءة.
مثل هذا الضعف المؤسسي مكلف دوما على المستوى الاقتصادي، وقد يثبت كونه كارثيا حقا في اقتصاد يعتمد على الإبداع والتكنولوجيات المعقدة المتقدمة، التي تتطلب دعما تعاقديا أكبر، وثقة بين الأطراف، وثقة في حكم القانون. وفي غياب تنظيم يقوده خبراء، سوف يغرق قسم كبير من الاقتصاد ــ من الرعاية الصحية والتعليم إلى الأعمال التجارية وخدمات المستهلك عبر الإنترنت ــ في الخرافات والهراء (مثل زيت الثعبان) بدلا من المنتجات العالية الجودة.
إذا لم يعد الاقتصاد قادرا على تعزيز الإبداع ونمو الإنتاجية، فسوف تركد الأجور. ولكن حتى في مواجهة مثل هذه النتائج السلبية، لن يعود كثير من العمال إلى الديمقراطيين ما لم يضع الحزب مصالحهم في الحسبان. هذا لا يعني تبني سياسات تدعم دخول العمال فحسب، بل وأيضا التحدث بلغتهم، مهما كانت غريبة على النخب الساحلية التي جنحت بسفينة الحزب.