تعد أحداث 7 أكتوبر 2023 أحد التحديات الرئيسة في تاريخ اليسار السياسي الإسرائيلي، حيث بدأت سياساته تميل نحو اليمين أكثر من توجهاته الأصيلة؛ فقد تلاشت الدعوات إلى السلام، وهو الشعار الذي كان يميز سياسات اليسار منذ تأسيس دولة الاحتلال. ورغم أن معسكر اليسار شهد تراجعًا تدريجيًا في تأثيره على تشكيل السياسة الإسرائيلية منذ بداية الألفية الجديدة فإن مواقفه بعد عملية “طوفان الأقصى” تعكس تحولًا جليًا عن خطابه السابق، مُعلنةً تخليًا عن أهدافه التي ظلت ثابتة على مدار عقود، على الرغم من أنها شهدت تغيرات نوعية خلال الفترة الماضية. ومن المهم التأكيد على أن اليسار لم يتحول بشكل كلي، لكنه عانى من تراجع ملحوظ في نشاطه مقارنة بمستوياته السابقة قبل 7 أكتوبر. في هذا السياق، تسعى السطور التالية لاستكشاف التحولات التي أصابت اليسار الإسرائيلي من حيث أهدافه وسياساته بعد 7 أكتوبر، مع تناول أبرز العوامل التي أدت إلى هذا التحول، ثم استشرف مستقبل اليسار الإسرائيلي في ظل التغيرات الملحوظة في أولوياته.
تآكل التمييز بين “اليسار واليمين” الإسرائيلي
تأسس اليسار الإسرائيلي مع تأسيس دولة الاحتلال عام 1948 متجذرًا في الحركة الصهيونية التي كانت إحدى الدعائم الأساسية لبناء إسرائيل. وقد لعب ديفيد بن جوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، دورًا محوريًا في تجسيد التوجهات اليسارية، إذ كانت انتماءاته لحزب “ماباي” تعكس التيار الاشتراكي في الصهيونية. وقد جاء بعده عدد من القيادات مثل موشيه شاريت وإسحق رابين، لتتبوأ هذه الشخصيات موقع الصدارة في السنوات الأولى لتأسيس الدولة. واستمر هذا الدور القيادي والمؤثر لليسار الإسرائيلي حتى تسعينيات القرن الماضي، حيث توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993 وظهور “معسكر السلام”، الذي تمثله أحزاب مثل حزب العمل الذي تأسس عام 1930 من مجموعة من الأحزاب اليسارية الأخر منهم ماباي الذي أسسه بن جورين، وحزب ميرتس الذي تأسس في 1992 بقيادة أمنون روبنشتاين، وأصبح اليسار الإسرائيلي قوة سياسية محورية تسعى –ظاهرًا- لتحقيق حلول سلمية وتنموية.
إلا أنه مع بداية الألفية، بدأ اليسار بالتراجع التدريجي الواضح، نتيجة لعوامل متعددة تتعلق بالتوقيت والقيادات اليسارية السائدة في تلك الفترة، منها فشل قادة حزب العمل مثل إيهود باراك في تحقيق السلام المنشود مع الفلسطينيين، فعلى الرغم من التطلعات الكبيرة التي بدت عند مفاوضات أوسلو بالنسبة للإسرائيليين، لم تُحقق الحكومة اليسارية النتائج المرجوة، مما أثر سلبًا على ثقة الناخبين. علاوة على ذلك، تضررت صورة حزب العمل جراء مشاركته مع حزب الليكود اليميني في حكومة ائتلاف الوحدة الوطنية برئاسة آرييل شارون عام (2001). والتي أدت إلى تآكل القدرة على التمييز بين اليسار واليمين، فتداخلت السياسات والأيديولوجيات، مما جعل الكثير من الإسرائيليين يفتقدون الرؤية الفريدة التي كان يمثلها الحزب، وهذا الاضطراب في الخطاب اليساري قاد إلى فقدان الحزب لقاعدته الشعبية تدريجيًا.
وتعكس التحولات الاجتماعية في إسرائيل زيادة الضغط على التيارات اليسارية، حيث برزت قضايا الأمن والهوية في الخطاب العام بشكل متزايد. ويمكن أن يُنسب انجراف الشارع الإسرائيلي نحو اليمين إلى شعور الشعب بالحاجة إلى الاستقرار والأمان وسط ظروف غير مستقرة. وقد تفاقم هذا الشعور مع اندلاع انتفاضة الأقصى في سبتمبر 2000 مما عمق الانقسام السياسي والاجتماعي في البلاد. وجراء ذلك، شهدت أحزاب اليمين واليمين المتطرف دعمًا متزايدًا في ظل تصاعد مشاعر القلق وعدم الارتياح، حيث اعتُبرت أنها تقدم خيارات أفضل لضمان الأمن القومي. وقد أدى هذا الوضع إلى تعزيز الانطباعات السلبية حول اليسار، الذي أصبح يُنظر إليه على أنه أقل قدرة على التصدي للتهديدات الأمنية المتزايدة.
وعلى مدى العقد الأخير، جابه اليسار الإسرائيلي متغيرات كبيرة تُعبر عن تراجع ملحوظ في تأثيره على الساحة السياسية. فقد أضعفت الأحزاب اليسارية، أبرزها حزب العمل بقيادة ميراف ميخائيليو سابقًا وحزب ميرتس بقيادة زهافا جالون، فترات حكمها عبر خسارة مواقعها في الكنيست بصورة مؤلمة. وصولًا إلى أن الانتخابات التي أجريت في نوفمبر 2022، لم يستطع حزب ميرتس الحصول حتى على مقعد واحد، بينما استمر حزب العمل في التدهور، حاصدًا أربعة مقاعد فقط. يعكس هذا المشهد بوضوح تآكل التأييد الشعبي الذي كان لدى هذه الأحزاب سابقًا.
وفي ظل هذه التحديات السياسية، شهد نشاط “معسكر السلام” انحسارًا كبيرًا، حيث تقلصت الفعاليات الشعبية والسياسية لمجموعات مثل “السلام الآن” التي تعد أكبر وأقدم حركة إسرائيلية تدعو للسلام وفق مبدأ حل الدولتين، مما أدى إلى تراجع تأثيرها وأصواتها في نقاشات المجتمع. علاوة على ذلك، شهدت إسرائيل تغييرات ديموجرافية عميقة، مع تزايد عدد اليهود الشرقيين الذين غالبًا ما يميلون إلى السياسات اليمينية، بينما تراجع عدد اليهود الغربيين الذين كانوا يمثلون العمود الفقري لقاعدة اليسار. هذا التحول أسهم في تعزيز القوى القومية والدينية على حساب القوى اليسارية.
اليسار الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر ما بين أزمة هوية واحتضار سياسي
مع انطلاق أحداث السابع من أكتوبر، لوحظ بشكل واضح التماهي مع الأيديولوجيات اليمينية الإسرائيلية بشكل يناقض شعارات “معسكر السلام” التي يرفعها اليسار الإسرائيلي، حيث تبنى مواقف تميل للعنف ومؤيدة للحاجة إلى رد قوي على المقاومة الفلسطينية، أو ما يمكن القول بأنه أعطى غطاءً سياسيًا للمواقف اليمينية، مما أسهم في شرعنة الدعوات إلى مواجهة الفلسطينيين بقوة ووحشية. وهي المواقف التي عبر عنها رئيس حزب “هناك مستقبل” يائير لابيد على الرغم من رفضه الانضمام إلى الحكومة بعد “طوفان الأقصى” لاستمرار تمثيل اليمين المتطرف بها.
ولوحظ انحسار الحديث عن حل الدولتين، ليتركز اليسار بشكل شبه كامل على قضايا مثل إعادة الأسرى، مُعتمدًا على مفاوضات أو الحوار السياسي الذي يفتقر إلى الخطط والأسس القوية. ومع ذلك، لم يكن الخلاف بين اليسار واليمين حول استمرار الحرب في غزة أو الدخول بريًا في لبنان، بل كان مجرد اختلاف سياسي على كيفية التعامل مع التهديدات، مع تجاهل ضمني للقضايا الإنسانية والمعاناة الفلسطينية.
وعلى المستوى الشعبي، كانت هناك منظمات يسارية مثل “السلام الآن” و”بتسيلم” وهي مركز المعلومات الإسرائيليّ لحقوق الإنسان، والتي تعمل من أجل مستقبل تُضمن فيه حقوق الإنسان والمساواة لجميع بين الفلسطينيّين واليهود، وهما منظمتان نادتا بتحقيق سلام محدود مع الفلسطينيين من قبل، لكنها تراجعت بشكل كبير بعد الحرب، متمحورة حول إعادة الأسرى ومعارضة السياسات الاستيطانية وأضحت أنشطتها محدودة للغاية وغير مسلط عليه الأضواء إعلاميًا، ولم يعد لدى هذه الجماعات القدرة على طرح أي رؤية جادة لمسار السلام.
وفي الوقت الحالي، يبدو أن اليسار الإسرائيلي في حالة من الانقسام والارتباك، حيث يتجه نحو الاتساق مع مواقف اليمين أكثر فأكثر، وينعكس ذلك في موقف ممثليه حتى من اليسار غير الصهيوني؛ وهو مجموعة من الأحزاب والحركات والأفراد الذين يتبنون مواقف يسارية، لكنهم يرفضون الصهيونية كمفهوم أو كأيديولوجية في إسرائيل، ومنهم القائمة العربية الموحدة، والحزب الشيوعي الإسرائيلي، فقد باتوا يرون أن القضاء على حركة المقاومة الفلسطينية “حماس” أصبح هدفًا ملحًا قبل أي وقف لإطلاق النار، مما يعكس تلاشي الحدود بين مواقف اليمين واليسار في “إسرائيل” على وقع التحديات الأمنية. كما أصبح حاليًا اليسار الصهيوني ينكر الحقوق الفلسطينية بشكل علني ويُبادر بتبني أفكار اليمين. ومع فقدانه تأثيره الشعبي يمكن القول بأنه يعاني من أزمة وجودية عميقة بسبب تحوله عن خطابات السلام واتجاهه ليكون مجرد صدى لمقولات اليمين، مما يعكس فقدان الهوية.
مستقبل غامض
مع فقدان اليسار شعبيته في الوقت الحالي، والارتفاع المتسارع في شعبية اليمين الإسرائيلي، ذلك وفقًا لاستطلاع أجرته القناة “12” الإسرائيلية، أن ما يقرب من ثلث الإسرائيليين وصفوا أنفسهم بأنهم يتحولون إلى اليمين، يبدو أن مستقبل اليسار يتجه نحو مزيد من التماهي مع اليمين الإسرائيلي، وينحصر دوره فقط في “المعارضة” التي تكتفي بالمشاركة في الاحتجاجات دون تأثير فعلي على السياسات الكبرى أو أنه لن يكون لديه ثقل سياسي قوي في الفترة المقبلة، وهو بذلك أمام خيارين، إما التواري الكامل عن المشهد السياسي أو الاندماج المرحلي مع التوجه اليميني الأكثر قوة في الوقت الحالي.
وبذلك من المتوقع أن يسعى لضمان بقائه في الحياة السياسية، عن طريق تبني استراتيجيات جديدة، وتغير أولوياته، تقوم على تكييف خطابه ليتماشى مع الرغبات الشعبية، مع التركيز على القضايا الأمنية، كما سيركز على الحفاظ على وجود حوار فعّال مع الحكومة، حتى لو كان اليمين مسيطرًا، ليظهر كطرف معارض ذي رؤية تتجاوز مجرد الانتقاد، مع الابتعاد عن الخطابات الهجومية والتمركز حول تقديم رؤى تعكس قيم الصهيونية الإسرائيلية. لكن يبقى السؤال الأهم يتمحور حول قدرة اليسار على إعادة صياغة نفسه ليظل جزءًا حيويًا من النقاش السياسي في إسرائيل، أم استمراره في حالة من التآكل والاندماج، يفقد فيها كل ما كان يمثله لعقود طويلة.
خلاصة القول؛ على الرغم من الدور المحوري الذي لعبه اليسار الصهيوني في بناء إسرائيل وتعزيز مؤسساتها، فإنه بسبب مجموعة العوامل المذكورة آنفًا وأهمها التحول في المزاج العام على وقع التحديات الأمنية وخاصة بعد عملية “طوفان الأقصى”، أصبح من الصعب الحديث في الوقت الحالي عن مستقبل واضح للتيار اليساري في إسرائيل، حيث اتجهت سياساته بعد السابع من أكتوبر إلى التخلي عن هويته مقابل الرهان على وجود مستقبل سياسي وسط عشرات التحديات السياسية والأمنية والاجتماعية التي تواجه المجتمع والمستوى السياسي الإسرائيلي.