انتشرت الاتهامات التي أطلقها الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” لروسيا بشأن حشد وتعبئة دعاية مناهضة للوجود الفرنسي في أفريقيا وتشويه صورة فرنسا من خلال تقديمها كمستعمر استغل ثروات وموارد الدول الأفريقية حتى بعد الاستقلال لخدمة مصالحها الخاصة، وذلك على هامش قمة الدول الفرانكفونية المنعقدة في تونس في 19 نوفمبر 2022. وتأتي هذه التصريحات نتيجة مجموعة من المؤشرات السلبية للعلاقات المتوترة بين البلدين في مناطق النفوذ في القارة الأفريقية، وتحديدًا في دول مثل: ليبيا، ومالي، وأفريقيا الوسطى.
تراجع فرنسي في مناطق النفوذ التقليدية
على الرغم من الهيمنة النسبية لفرنسا في أفريقيا الفرنكوفونية على مدى العقود العديدة الماضية، أصبحت البيئة الجيوسياسية العالمية أكثر تعقيدًا، في ظل بروز روسيا مؤخرًا كمنافس استراتيجي في القارة، واشتبكت مع فرنسا في المجالات الأمنية والاقتصادية والثقافية كما ظهر في إعلان روسيا عن القمة الروسية الأفريقية في سوتشي عام 2019 التي كانت نقطة تحوّل في الاستراتيجية الروسية تجاه أفريقيا بعد سنوات من التراجع الروسي للاهتمام بقضايا القارة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، وتعدد مجالات التعاون بين روسيا والدول الأفريقية في مجالات الطاقة والسلاح والتجارة.
ارتباطًا بالسابق، تتضح العلاقة بين روسيا وفرنسا في جمهورية أفريقيا الوسطي، حيث تنظر باريس إلى التعدي الروسي في المنطقة على أنه تحدٍ مباشر وتهديد لمجال النفوذ الفرنسي التقليدي بسبب تنامي الروابط الأمنية والاقتصادية والثقافية مع موسكو. وتنعكس التوترات في شكل الحرب الإلكترونية وعمليات التأثير عبر وسائل التواصل الاجتماعي المنبثقة من وكالة أبحاث الإنترنت الروسية ومقرها سانت بطرسبرج. وفي نهاية مارس 2022، تورطت قوات “فاجنر” مع القوات الحكومية المالية في وسط مالي في محاصرة منطقة مورا وأعدموا ما يقرب من300 شخص دون تمييز بين المدنيين والجماعات الإرهابية، ووصفت منظمة هيومان رايتس ووتش جرائم القتل في مورا بأنها أسوأ فظائع في مالي منذ أكثر من عقد.
وفي هذا السياق، أدت سلسلة من الاشتباكات الكلامية المتصاعدة بين باريس وباماكو إلى فقدان الثقة المتبادلة؛ إذ تجاوز المجلس العسكري في مالي جميع الخطوط الحمراء التي رسمتها الحكومة الفرنسية بشأن التعاقد مع قوات فاجنر الروسية، في ظل تنامي المشاعر الشعبية المناهضة للوجود الفرنسي. في مايو 2022، أعلن المجلس العسكري في مالي تعليق اتفاقية التعاون الموقعة عام 2014 مع فرنسا، وكذلك اتفاقيات 2013 و2020 التي تحدد الإطار القانوني لوجود قوة برخان الفرنسية وتاكوبا الأوروبية.
وقامت الحكومة الانتقالية بطرد السفير الفرنسي، والصحفيين الفرنسيين، وحظر قنوات الإذاعة والتلفزيون الفرنسية (فرانس 24). ونتيجة لذلك تدهورت العلاقة بين البلدين بشكل حاد. فيما أدانت فرنسا التلاعب المتزايد بالمعلومات بشأن انسحابها العسكري من مالي ودعم الجماعات الإرهابية، ودعت إلى تسليط الضوء على تدهور الوضع الأمني والإنساني في مالي.
أهداف وأدوات.. تكثيف الوجود الروسي في أفريقيا
كان الاهتمام المتزايد بأفريقيا وتطوير العلاقات مع دول القارة الاتجاه السائد في السياسة العالمية خلال العقدين الماضيين، وكثفت روسيا وجودها في أفريقيا على ركائز أساسية؛ هي: بيع الأسلحة، ووجود المدربين، وشركات الأمن الخاصة، والاتفاقيات التجارية والاستثمارات في قطاعات مثل الحبوب والمحروقات والطاقة والمعادن، في ظل تعهد روسيا بمساعدة الدول الأفريقية للوصول إلى السلع الغذائية وتأمين إمدادات الحبوب، وتمويل العديد من المشاريع لتعزيز أفضل الممارسات الزراعية واستكشاف الإمكانيات الواعدة في قطاع الزراعة، مع تفاقم أزمة الغذاء والطاقة وارتفاع أسعار السلع في أفريقيا، وهو ظهر في أجندة وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” أثناء جولته الأفريقية في يوليو 2022.
مع تركيز موسكو في مناطق الصراع في أفريقيا ظهرت أولوية الاهتمام بصفقات الأسلحة وصادراتها. في حين أن الارتباط بين المصلحة الجيوسياسية الروسية واستخدامها لصادرات الأسلحة ليس ظاهرة جديدة، والسعي لأسواق جديدة قد يُشير إلى الاتجاه العام للسياسة الخارجية الروسية في السنوات القادمة.
وتعد روسيا حاليًا ثاني أكبر مصدر للأسلحة في العالم بعد الولايات المتحدة، وتُمثل حوالي 20٪ من مبيعات الأسلحة العالمية. وقد سلطت الحرب الأوكرانية الضوء على مدى استعداد الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” للذهاب لتأكيد وجهة نظره حول مصالح روسيا خارج حدود البلاد، حيث عادت روسيا في السنوات الأخيرة لأفريقيا، وهو ما ظهر في تصويت الأمم المتحدة في الثاني من مارس 2022 من خلال تصويت 17 دولة أفريقية ضد إدانة تصرفات روسيا في أوكرانيا.
ترجع أسباب اهتمام روسيا بأفريقيا إلى الرغبة في إعادة إحياء روابط الحقبة السوفيتية مع القارة الأفريقية لاستخراج الموارد مقابل المساعدة الأمنية، وتعد أفريقيا الحدود الثانية بعد أوروبا الشرقية بالنسبة لروسيا لتطويق أوروبا الغربية من خلال استغلال تداعيات وارتدادات ظواهر الهجرة والإرهاب وانعدام الأمن في منطقة الساحل الأفريقي بغرب أفريقيا كورقة ضغط وتهديد لأوروبا، لكون هذه المنطقة جوارًا غير مباشر.
وسعى الاتحاد السوفيتي إلى استغلال الإرث الاستعماري الغربي لتقويض النفوذ الغربي في القارة، حيث أقام أولًا علاقات مع شمال أفريقيا، وفي النهاية أقام علاقات مع القادة في أفريقيا جنوب الصحراء، ووقع الاتحاد السوفيتي معاهدات تعاون مع 37 دولة أفريقية، وقدم مجموعة من المساعدات الاقتصادية للتنمية الزراعية والرعاية الصحية والبنية التحتية.
وأصبح إحياء هذه الروابط التاريخية والبحث عن روابط جديدة في جميع أنحاء أفريقيا أهمية استراتيجية لبوتين مع تسارع هذا التركيز منذ عزلته المتزايدة بعد ضم شبه جزيرة القرم عام 2014 وأيضًا بعد الحرب الأوكرانية عام 2022، ويرتبط هذا التركيز الاستراتيجي ارتباطًا وثيقًا بمحاولات “بوتين” لتحدي الهيمنة الغربية للحوكمة العالمية، والبحث عن أسواق بديلة للشركات الروسية بعد العقوبات الغربية، ويمكن توضيح أهم هذه الأدوات في أفريقيا:
• الدعاية الروسية: تستخدم موسكو اللغات المحلية بدلًا من اللغة الفرنسية كمحاولة لكسب ترابط تجاه الثقافات المحلية في مواجهة سرديات الإمبريالية الموضوعة على فرنسا، ومعركة الرأي العام من خلال إثارة المشاعر المعادية للفرنسيين والاستعمار. فضلًا عن استخدام الشخصيات المؤثرة في المجتمعات المحلية بدول مثل بوركينا فاسو والكاميرون ومالي والنيجر. وفي نيجيريا، قوبلت التغريدات المناهضة لبوتين من شخصيات بارزة مؤثرة بالردود المؤيدة لبوتين مع حذف العديد منها على الفور. وفي يونيو 2021، أوقفت فرنسا التعاون العسكري لقواتها المتبقية البالغ عددها 300 جنديًا، وكذلك دعم الميزانية لجمهورية إفريقيا الوسطى على أساس أنها كانت متواطئة في حملة روسية مناهضة لفرنسا.
فيما لا تزال فرنسا مندمجة في البعثات التي يقودها الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة في البلاد، فقد انخفض موقفها بشكل كبير بعد المشاركة الروسية في المنطقة عام 2018. ويُشكّل استخدام عمليات التأثير عبر الإنترنت، لا سيما من خلال وسائل التواصل الاجتماعي تطورًا جديدًا في السياسة الخارجية الروسية، حيث كشفت تحليلات “فيسبوك” أن العمليات التي قامت بها كل من فرنسا وروسيا تجاه جمهورية أفريقيا الوسطى فشلت إلى حد كبير في الوصول إلى جمهورها المستهدف. بالإضافة إلى ذلك، لعبت الدعاية الروسية دورًا في نمو المشاعر المعادية للفرنسيين في المنطقة.
• توفير إمدادات السلاح والتدريب: لعب الكرملين دورًا أساسيًا في توفير المروحيات والذخيرة والإمدادات وتدريب الموظفين والأفراد في مالي عام 2019، وذهب وزير الدفاع المالي إلى موسكو في سبتمبر 2021 بشأن التعاقد لجلب قوات “فاجنر” في البلاد. وشهدت السنوات العشر الماضية زيادة كبيرة في الأنشطة الروسية بما في ذلك من خلال دمج ممثلي الكرملين الرسميين في المؤسسات التي تديرها الدولة، ونشر متعاقدين عسكريين من الشركات العسكرية الخاصة.
فوفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، أصبحت روسيا المورد الرئيس للأسلحة إلى القارة الأفريقية، حيث تهيمن على نصف سوق القارة، أي أكثر من ضعف مشاركة الصين والولايات المتحدة، وشملت هذه المعدات الأسلحة الكبيرة (دبابات القتال، والسفن الحربية، والطائرات المقاتلة، والمروحيات القتالية) والأسلحة الصغيرة (المسدسات والبنادق الهجومية مثل بندقية كلاشنكوف الجديدة AK-200)، فضلًا عن إبرام شركة روساتوم اتفاقيات لتطوير محطات للطاقة النووية في أفريقيا. بالإضافة إلى ذلك، خلال الفترة (2015-2022)، تضاعفت تجارة روسيا مع الدول الأفريقية إلى حوالي 20 مليار دولار سنويًا، وخاصة بعد القمة الأفريقية – الروسية الأولي عام 2019.
وختامًا، يتضح أن القارة الأفريقية تحظى بأهمية كبيرة في السياسة الخارجية الروسية في ظل إعادة ترتيب الأولويات الأمنية لروسيا في أفريقيا، ومع تغير ملامح النظام الدولي وظهور تحديات وأزمات عالمية؛ الغذاء، والطاقة، والتغير المناخي، والأوبئة، مع الاهتمام الدولي المتزايد بثقل وأهمية الدول الأفريقية في التشابك مع هذه القضايا والتحديات العالمية، وما تمتلكه القارة من موارد وثروات اقتصادية، وأهميتها الجغرافية الاستراتيجية، وكتلها التصويتية في الأمم المتحدة.
.
رابط المصدر:
