محمود عبد العزيز
منذ انتخابات عام 2002 التي جرت بين اليميني المتطرف “جان ماري لوبان” الذي حصل على 17.79% من مجمل أصوات الناخبين بواقع 5524.034 ضد “جاك شيراك” الذي فاز بالانتخابات بـ82% من مجمل أصوات الناخبين وهي نسبة كبيرة بين المرشحين؛ فقد أحرز تيار اليمين المتطرف عام 2012 تقدمًا ملحوظًا بحصوله على المركز الثالث في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة بـ 6421.426 صوتًا هي مجمل ما حصل عليه اليمين المتطرف وتشكل 17.90%. في انتخابات عام 2017 تأهلت “مارين لوبان” للجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية بنسبة بلغت 35.1% قبل أن تفشل في التغلب على “إيمانويل ماكرون” في الجولة الثانية، حيث فاز بــ10.638.475 صوت بنسبة 66.9%. وفي انتخابات عام 2022 نجحت “مارين لوبان” مرشحة اليمين المتطرف وزعيمة حزب التجمع الوطني، في أن تخطو خطوة متقدمة في تاريخ تيار اليمين المتطرف، حيث حصدت لوبان 13.297.760 صوتًا بما يشكل 41.46% من مجمل أصوات الناخبين الفرنسين، وهي أكبر نتيجة يحصل عليها اليمين المتطرف، ولم يقترب اليمين المتطرف القومي من السلطة في فرنسا بهذا الشكل منذ الحرب العالمية الثانية. صحيح أن ماكرون نجح في الانتخابات بنسبة 58.54% من مجمل أصوات الناخبين، لكنه خسر أيضًا الكثير من الأصوات المؤيدة له في مقابل زيادة شعبية تيار اليمين المتطرف، وزيادة الاستجابة الجماهيرية لأفكاره القومية التي عكسها برنامج “لوبان” الانتخابي والذي كان أبرز معالمه: الخروج من الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وإعادة ضبط الهجرة، وتقويض العولمة والتجارة الحرة، ومنع الحجاب في فرنسا.
أفلتت فرنسا وأوروبا من صدمة سياسية واجتماعية واقتصادية بعدم التصويت في الانتخابات الرئاسية لصالح “ماري لوبان” مرشحة اليمين المتطرف الفرنسي، ولكن لا يبدو أن هذا الانفلات هو إلى ما لا نهاية، فالمؤشرات التي أشرنا إليها بالأعلى تعكس زيادة في حجم الطلب الجماهيري للسياسات اليمينية المتطرفة، وبالتالي فإن ماكرون بهذا الفوز لم يفعل شيئًا سوى تأخير اليمين المتطرف خطوة أخرى نحو وصوله للإليزيه، ومع ذلك على الرئيس ماكرون أن يستعد لجولة جديدة من المنافسة أمام تيار اليمين المتطرف في الانتخابات التشريعية في يونيو القادم، وهي انتخابات يصعب التنبؤ بمستقبلها في ظل حالة الزخم التي يحظى بها اليمين المتطرف.
لم يستطع تيار اليمين المتطرف النجاح في الجولة الثانية من الانتخابات الرئيسية، ولكنه حقق نجاحات على جانب آخر تمثلت في استقطاب العديد من فئات المجتمع الفرنسي، وهو ما انعكس على نتائج الانتخابات، كان ذلك بمثابة تذكير صارخ بأن اليمين المتطرف اليوم، بغض النظر عن نتائج الاقتراع، هو أكثر بكثير من مجرد حزب: إنه حركة أيديولوجية، وتشكل تهديدًا عميقًا للديمقراطيات الفرنسية والأوروبية. وهو الأمر الذي اعترف به الرئيس المعاد انتخابه بتواضع غير معهود في خطاب النصر الذي ألقاه يوم الأحد 24 أبريل الجاري، وقال لمؤيديه عند سفح برج إيفل: “صوّت العديد من مواطنينا لي، ليس من أجل دعم أفكاري ولكن لمنع أفكار اليمين المتطرف”. “أريد أن أشكرهم وأعلم أن لدي واجبًا تجاههم في السنوات القادمة”. وهو اعتراف ضمني عكس ما حصل عليه اليمين المتطرف من قبول في الأوساط الجماهيرية الفرنسية واستيعاب كثير من أولئك الذين همشوا في فترته الرئاسية الأولي، التي وعد فيها بأنه سوف يبذل الكثير في سبيل إسقاط المتطرفين.
بالنظر للتأثيرات المحتملة لنتائج الانتخابات الفرنسية على تيار اليمين المتطرف الفرنسي الذي لا يمكننا أن نقول إنه خسر، إذا ما أخذنا في الحسبان التطور التاريخي لهذا التيار، الذي شكل صعودًا وحضورًا لافتًا، ليس فقط في الحياة السياسية وإنما الاقتصادية والاجتماعية والذي على وشك أن يكون التيار الرئيسي في فرنسا. حيث يبدو ذلك جليًا في زيادة حجم ارتباط هذا التيار بالمجتمع الفرنسي الذي زاد من كراهيته للأجانب والمهاجرين، وبروز الإسلاموفوبيا بشدة حدّ تنديد العديد من المنظمات الإنسانية بأن الحكومة الفرنسية ترعى الإسلاموفوبيا. فقد تأثرت سياسات الرئيس ماكرون في فترته الأولى بزيادة هذه التوجهات، فقد أغلقت العديد من المساجد والمنظمات الإسلامية، ورفض ماكرون الإدانة الواضحة والصريحة لأصحاب الرسوم المسيئة للرسول محمد (ص)، في محاولة منه لكسب مزيد من الجماهير التي تصوت لليمين المتطرف بدافع الخوف من الأجانب، وتأثر الهوية الفرنسية بثقافة المهاجرين.
صراع محتمل: اليمين المتطرف بين لوبان وزمور
بعد هزيمتها في سباق الانتخابات الرئاسية أعلنت “ماري لوبان” زعيمة التجمع الوطني أن المعركة لم تنتهِ بعد، في إشارة إلى الانتخابات التشريعية (12 و19 يونيو القادم)، فقد خسرت الانتخابات الرئاسية لكنها كسبت الشارع، وهو ما تسعى لتوظيفه في الانتخابات التشريعية، فقد قالت لوبان لأنصارها في خطابها بعد الهزيمة: “الأفكار التي نمثلها وصلت إلى آفاق جديدة”، مشيدة “بالنصر الباهر” رغم اعترافها بالهزيمة أمام “إيمانويل ماكرون” الذي لم تهنئه بالفوز فيما يبدو أنه أصبح تقليدًا لليمين المتطرف في ضوء ما فعله “دونالد ترامب” بعد هزيمته أمام خصمه “جو بايدن”.
من ناحية أخرى، أعلنت لوبان أنها لن تتحالف مع “إريك زمور” وهو أحد أبرز زعماء اليمين المتطرف الفرنسي، الذي خاض الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة الفرنسية 2022، وحصد 7.07% من أصوات الناخبين، والذي دعا إلى التصويت للوبان أمام ماكرون.
تعكس تصريحات لوبان انقسامات واضحة داخل تيار اليمين المتطرف الذي يخوض الانتخابات التشريعية القادمة بشعار “ماكرون أو فرنسا”، ومن المحتمل أن يؤثر هذا الانقسام وصراع الزعامة على حظوظ اليمين المتطرف من مقاعد البرلمان القادم، فبالرغم من دعوة “زمور” للتصويت للوبان بعد خروجه من سباق الرئاسة، إلا أنه صرّح في محاولةٍ منه لكسب مزيد من أعضاء التيار المتطرف لصالحه بأن “هذه هي المرة الثامنة التي يهزم فيها اسم عائلة لوبان” في تحدٍّ واضح من أجل السيطرة على اليمين المتطرف القومي الفرنسي.
ويسعى زمور للاستثمار في هذه الهزيمة، وأزاحه لوبان عن زعامة تيار اليمين المتطرف الذي ورثت زعامته من والدها “جان ماري” مؤسس الجبهة الوطنية الذي غيّرت اسمه إلى التجمع الوطني، وهو أكبر الأحزاب اليمينية المتطرفة في فرنسا. ففي خطابه المتشدد أثناء الانتخابات الرئاسية سعى “إريك زمور” إلى إزاحة لوبان عن الزعامة عبر تقديم خطاب ممزوج بصيغة متطرفة واضحة بخلاف لوبان التي حاولت تهدئة خطابها لكسب مزيد من الأصوات المتخوفة من صعود اليمين المتطرف، ولعل هذا ما رجّح كفة لوبان على حساب زمور بوصولها للجولة الثانية من الانتخابات التي منيت بالهزيمة فيها.
خففت ماري لوبان من خطابها بشكل ملحوظ في الفترة التي سبقت الانتخابات، من دون التخلي عن موقفها المناهض للهجرة، وتجنبت بجدية الحديث عن نظرية المؤامرة “البديل العظيم” التي دافع عنها منافسها في اليمين المتطرف إريك زمور. وعلى الرغم من هزيمتها في الانتخابات فإن الهزيمة ليست سيئة جدًا للوبان. فقد أثبتت المنافسة مع الرئيس ماكرون أنها مفيدة لزعيم التجمع الوطني، حيث جذبت الانتباه لليمين المتطرف، مما زاد من إضعاف التيار الرئيسي للمحافظين، وكذلك إضافة مخزون من الأصوات في انتخابات الإعادة، ومزيد من الأصوات في الجولة النهائية التي ستشكل قاعدة جماهيرية قوية لمستقبل اليمين المتطرف في المشهد السياسي الفرنسي، كما أدى ذلك إلى تآكل النبذ الذي عانى منه اليمين المتطرف لعقود من الزمن، مضيفًا إلى صفوفه أصواتًا جديدة وحلفاء محتملين من القوى السياسية الأخرى.
الانتخابات التشريعية
تُشكل الانتخابات البرلمانية في يونيو 2022 اختبارًا حقيقيًا لكل من ماكرون ولوبان في المشهد السياسي الفرنسي، حيث يسعى ماكرون للحصول على أغلبية برلمانية تمكنه من تمرير سياساته وللتأكيد على إقصاء وإبعاد اليمين المتطرف، الذي وعد ببذل كل ما في وسعه من أجل عدم التصويت لليمين المتطرف، الذي من المحتمل أن يقوض الكثير من جهود ماكرون في السياسة الخارجية والداخلية. على الناحية الأخرى، يسعى اليمين المتطرف لاستغلال هذا الزخم غير المسبوق في الانتخابات الرئاسية، من أجل تحقيق انتصار سياسي في الانتخابات البرلمانية، وهذا ما قالته لوبان بعد إعلان النتائج بهزيمتها “إنه في حد ذاته انتصار مدوي، اختار الملايين من مواطنينا المعسكر الوطني”.
ولتحقيق الأغلبية البرلمانية، يجب أن يحصل ماكرون على 289 مقعدًا برلمانيًا. وللإشارة، في عام 2017 كان حزب ماكرون لا يملك إلا 280 نائبًا، ومن المؤكّد سيكون هذا العدد أقل بكثير في استحقاق هذا العام، وهو ما يزيد من حدة المنافسة والاستقطاب في سباق الانتخابات القادم، حيث يسعى اليمين المتطرف لتعويض خسارته الانتخابية واستغلال قواعده الجماهيرية الجديدة، فيما يسعى ماكرون لأغلبية برلمانية تؤكد انتصاره وتدعم سياساته، وهي مهمة صعبة للأخير بالرغم من فوزه الانتخابي، حيث انخفضت شعبية ماكرون عن انتخابات 2017 التي فاز فيها بـ66%، في حين فاز في انتخابات 2022 بـ58%، ولا سيما أن ماكرون حصل على هذه النسب لأن المنافس هو تيار اليمين المتطرف، وهو واحد من أهم دوافع الناخبين الذين يصوتون لماكرون، وبالتالي إذا ما استطاع اليمين المتطرف تهدئة المخاوف، وزيادة استقطاب الفئات الأقل من حيث الدخل والثروة في المجتمع الفرنسي عبر خطاب شعبوي، فإنه سيحقق نجاحات سياسية، يمكن أن تقوض كثيرًا من سلطات وسياسات الرئيس ماكرون.
واحدة من القوة الرئيسية لليمين المتطرف هي القدرة على تعبئة الطبقة العاملة، التي سيفكر بها كواحدة من تأثيرات الانتخابات بعد الهزيمة الرئاسية، هؤلاء الأشخاص الأقل تعليمًا ودخلًا والذين تركوا خلف مجتمع الفائزين الأكثر استفادة من سياسات ماكرون، والذين لم يستفيدوا من اقتصاديات العولمة والأكثر قلقًا من سياسات الهجرة، والذين يرون في خطاب التيار اليميني الخطاب الوحيد المعبر عنهم، يمكن أن يصنعوا فارقًا كبيرًا في الانتخابات البرلمانية. ستشهد هذه الطبقة تنافسًا حادًا مع اليسار الاشتراكي الذي يحاول أن يعوض خسارته في الانتخابات الرئيسية أيضًا.
تصدعات في المجتمع الفرنسي
أحد التأثيرات الأساسية التي تشير إليها نتائج الانتخابات الفرنسية هي التصدع الحاد والاستقطاب داخل المجتمع الفرنسي، فخلف السباق الانتخابي بين ماكرون ولوبان ثمة صراع آخر حول هوية فرنسا القومية، وموقعها داخل الاتحاد الأوروبي. رؤيتان تتصارعان حول مستقبل فرنسا. يُشكل اليمين المتطرف واحدة من هذه الرؤى التي ترى في فرنسا بلدًا ذا هوية مسيحية قومية وترفض المهاجرين القادمين من شمال إفريقيا. رؤية قائمة على رفض الإسلام والمسلمين، وهو ما بدا واضحًا في حملة “ماري لوبان” التي توعدت بأنها ستمنع الحجاب بشكل كامل في فرنسا، وسترفض الارتباطات الأوروبية سواء السياسية أو العسكرية، وتسعى لخفض الضرائب في البلاد. وتدفع النتائج الأخيرة للانتخابات الرئيسية هذا التيار إلى التمسك بهذه الرؤية التي تحقق نجاحات في كل جولة من جولات الانتخابات مستغلًا في ذلك الإخفاقات الكبيرة للرئيس ماكرون.ختامًا، يمكن القول إنه من ناحية أخرى لا تبدو الصورة ضبابية، وأن اليمين المتطرف بمجمل الأصوات التي حصلت عليها زعيمته “ماري لوبان” قادر على استقطاب مزيد من الجماهير الغاضبة، وفرض رؤيته المتطرفة، فمعدل الامتناع عن التصويت شكل 26.31% وهو ما يعكس أن هناك قاعدة جماهيرية لا تزال ترفض كلا الرؤيتين، ولم تستطع النخب الفرنسية والتيارات تلبية المطالب السياسية لهؤلاء، وهي نسبة ليست بالقليلة ويمكن أن تشكل فارقًا إذا ما قررت المشاركة وعدم العزوف. وهي القاعدة التي تشكل تنافسًا حادًا بين الأحزاب والتيارات الرئيسية المشكلة للحياة السياسية الفرنسية. لكن الأكيد أن واحدًا التأثيرات الكبيرة لهذه الانتخابات على تيار اليمين المتطرف، هي إبراز قوة هذا التيار على الساحة السياسية والذي سيظل موجودًا وفاعلاً رئيسيًا طالما بقيت أسباب وجوده قائمة، والذي يقترب شيئًا فشيئًا وبخطوة ثابتة من قمة السلطة في فرنسا.
.
رابط المصدر: