الشعبويون اليمينيون يتقدمون في أوروبا، بعد عقود قضاها اليمين المتطرف على هامش السياسة الغربية، بسبب رفض التيار الوسطي السائد له باعتباره مجموعة من حليقي الرؤوس الغاضبين أو مجرد نازيين جدد مخدوعين. ولكن ليس بعد الآن. فاليوم تحكم الأحزاب الشعبوية دولتين أوروبيتين، هما المجر وإيطاليا. وحتى العام الماضي كانت تحكم دولة ثالثة هي بولندا.
ووفقا لمجلة “الإيكونوميست”، فإن خمس عشرة دولة من الدول الأعضاء السبع والعشرين في الاتحاد الأوروبي تعلن الآن أن أحزابا يمينية متطرفة تحظى بدعم بنسبة 20 في المئة أو أكثر في استطلاعات الرأي. إضافة إلى ذلك، لم تعد الشعبوية مقتصرة على دول أوروبا الشرقية، مع تاريخها القصير في السياسات الديمقراطية، ولكنها تزدهر أيضا في دول أوروبا الغربية مثل ألمانيا وفرنسا وهولندا وإيطاليا.
مع ذلك، في حين تشترك هذه الأحزاب جميعها في أيديولوجيا يمينية فضفاضة وتميل إلى تقديم نفسها على أنها جهات منافسة تزعج “المؤسسة”، فإنها تختلف فيما بينها إلى حد كبير. فقد وضعت بعض هذه الأحزاب نفسها في موقع معارض للاتحاد الأوروبي، في حين كان بعضها الآخر أكثر ترددا أو حتى داعما لبروكسل. بعضهم محافظون ثقافيا واقتصاديا بينما البعض الآخر أكثر ليبرالية. بعضهم مؤيد للولايات المتحدة ويدعم أوكرانيا، فيما يدعم البعض الآخر روسيا وفلاديمير بوتين بقوة. يبدي الجميع ميلا إلى تبني العداء تجاه المهاجرين والأجانب بشكل عام، ولكن يكمن الاختلاف في كيفية ظهور هذا العداء.
إذن، ما القواسم المشتركة بين مختلف الشعبويين في أوروبا، وما الاختلافات؟ هل الشعبويون أكثر ميلا إلى الاعتدال عند استلام السلطة أم إن مستوى التطرف مشروط بالظروف الخاصة لكل مجموعة؟ يستكشف الجزء المتبقي من هذا المقال الشعبويين البارزين في أوروبا، ويسعى إلى شرح أسباب نموهم، وأوجه التشابه والاختلاف بينهم، وما قد يحمله المستقبل.
من الهامش إلى التيار الرئيس
خلال الحرب الباردة، لم تكتسب سياسات اليمين المتطرف سوى القليل من الاهتمام في أوروبا. فقدت كل من النازية والفاشية مصداقيتهما بسبب أهوال الحرب العالمية الثانية، ما دفع معظم الأوروبيين إلى اعتناق وسطية آمنة سواء من اليسار أو اليمين. أتى التحدي الأساسي لهذا الإجماع خلال سنوات الحرب الباردة من اليسار وليس اليمين. انتعشت الحركات اليسارية في دول أوروبا الغربية، لا سيما في إيطاليا وفرنسا، وفي المقابل تقدمت الجماعات اليمينية بصعوبة. كانت الحركة الاجتماعية الإيطالية الفاشية الجديدة (MSI) من بين أكثر الحركات نجاحا، حيث حصلت على 8.7 في المئة من الأصوات في انتخابات عام 1972، لكن هذا كان أمرا شاذا فلم تقترب أي جماعة أوروبية يمينية متطرفة أخرى من مطابقة هذا العرض المدجن نوعا ما. وفي أغلب الدول، ظل اليمين المتطرف على الهامش الراديكالي للسياسة مثل: عصابات النازيين الجدد حليقي الرؤوس في ألمانيا، أو الجبهة الوطنية الفاشية في بريطانيا.
اكتسبت الشعبوية في فرنسا زخما هائلا بعد الانهيار المالي عام 2008، الذي تسبب في الركود في جميع أنحاء أوروبا
ورغم أن قلة من الناس أدركوا الأمر في ذلك الوقت، فمن المرجح أن نهاية الحرب الباردة ساهمت في هذا التحول. ففي ظل غياب العالم المنقسم إلى معسكرين شيوعي ورأسمالي في الذاكرة، عادت القوميات التي ظلت في سبات طويل إلى الواجهة. في البداية اقتصرت هذه العودة على الدول متعددة الأعراق المنهارة مثل الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا، ولكن مع مرور الوقت، شهدت دول أوروبا الغربية والشرقية على حد سواء زحفا للسياسات المستندة إلى الهوية نحو التيار الرئيس مرة أخرى.
وكانت الإشارة الأولى على ذلك في النمسا، عندما انضم حزب “الحرية” اليميني المتطرف عام 2000 إلى الحكومة الائتلافية في فيينا. ورغم أن حزب “الحرية” كان قد تأسس عام 1956، إلا أنه نادرا ما حصل على أكثر من 5 في المئة إلى 7 في المئة في الانتخابات العامة، ووصل إلى أعلى مستوى له عند 9.7 في المئة عام 1986. ومع ذلك، تزامنت نهاية الحرب الباردة مع زيادة الدعم لحزب “الحرية”، تحت قيادة زعيمه المحبوب جماهيريا يورغ هايدر، الذي تبنى ما نعتبره الآن سياسات شعبوية.
وضع هايدر الهجرة في صميم برنامجه، تحت شعار “النمسا أولا”، ما أدى إلى زيادة شعبيته. وبلغت تلك الشعبية ذروتها بحصوله على 26.9 في المئة من الأصوات عام 1999، وكنتيجة لذلك دخل الائتلاف كزعيم لثاني أكبر حزب. لكن، بعد أن أشاد هايدر ذات يوم بسياسات هتلر في تشغيل العمالة، شعر الاتحاد الأوروبي بالرعب الشديد إزاء دخوله إلى الحكومة فقلل من تعامله مع النمسا اعتراضا على ذلك.
هذا وقد بقي حزب “الحرية” في الائتلاف حتى عام 2005، ثم تخلى هايدر بنفسه عن الحزب ليشكل تجمعا جديدا، قبل أن يتعرض لحادث سيارة ويفارق الحياة عام 2008. وقد أثبتت النمسا أنها من أوائل الدول التي تبنت الشعبوية، على الرغم من أن حزب “الحرية” عاد إلى السلطة مرة أخرى فقط، في ائتلاف آخر قصير بين عامي 2019-2017. ومع ذلك، فقد ثبت أن تلك العودة لم تكن غريبة كما كانت تبدو عام 2000، بل كانت طليعة موجة من الشعبويين الذين اقتحموا السياسة الأوروبية.
وبعد فترة قصيرة، حظيت فرنسا أيضا بأول مواجهة لها مع انتقال اليمين إلى التيار الرئيس. كانت الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة قد تشكلت عام 1972، ولكنها، مثل حزب “الحرية” في النمسا، لم تنل سوى دعم ضئيل حتى أواخر الثمانينات. ثم شهد العقد التالي ارتفاع هذه الأرقام إلى ما يقرب من 15 في المئة من الأصوات، مع وصول مؤسسها جان ماري لوبان بشكل مفاجئ إلى واحد من المركزين الأخيرين في الانتخابات الرئاسية عام 2002. ثم تعرض لهزيمة ساحقة، حيث حصل على 17 في المئة من الأصوات فقط. ومع ذلك، اكتسبت الشعبوية زخما هائلا بعد الانهيار المالي عام 2008، الذي تسبب في الركود في جميع أنحاء أوروبا.
أصبحت السنوات التي قضتها الأحزاب الشعبوية على الهامش مجرد ذكرى بعيدة، ذلك أنها أصبحت في جميع أنحاء أوروبا إما في الحكومة وإما قريبة منها بشكل جدي
إن ارتفاع معدلات البطالة وزيادة المصاعب دفعا بعدد متزايد من الناخبين إلى فقدان الثقة في الاقتصاد الليبرالي الوسطي في معظمه، الذي هيمن على السياسة في أوروبا الغربية منذ الحرب العالمية الثانية، وهيمن على السياسة في الشرق منذ الحرب الباردة. مع أن الحركات اليسارية شهدت شعبية متزايدة، فقد كان اليمين الشعبوي هو المستفيد الرئيس.
لقد ارتكز خطابهم على لغة قومية مطلقة، وفوقية في معظم الأحيان، واستهدفوا المهاجرين والعولمة، وبشكل متكرر الاتحاد الأوروبي. وقد اجتذب هذا الأمر الناخبين من كلا الحزبين المحافظين التقليديين على اليمين، كما اجتذب أيضا الناخبين من الطبقة العاملة الذين كانوا يدعمون اليسار تاريخيا. ومع ارتفاع المد الشعبوي، أصبحت المجر أول حكومة أوروبية تشهد فوز حزب شعبوي بسيطرة مطلقة، عندما وصل حزب “فيديسز” بزعامة فيكتور أوربان إلى السلطة عام 2010. وبعد خمس سنوات، تولى حزب “القانون والعدالة” الشعبوي السلطة في بولندا. وفي عام 2022، أصبحت إيطاليا الدولة الأوروبية الثالثة التي يقودها الشعبويون، عندما فاز حزب “إخوة إيطاليا” بالانتخابات.
تنامى انتشار الشعبويين تأثرا بالمزيد من الصدمات الخارجية، مثل أزمة المهاجرين عام 2015، والآثار الاقتصادية للحرب الأخيرة في أوكرانيا. حكم حزب “الفنلنديين الحقيقيين” من خلال ائتلاف في فنلندا من 2015 إلى 2017، بينما كان حزب “الحرية” في ائتلاف مرة أخرى في النمسا من 2017 إلى 2019 كما ذكرنا سابقا. ووصلت مارين، ابنة لوبان وخليفته، إلى جولة الإعادة في دورتين انتخابيتين رئاسيتين، بينما ظهر حزب “البديل من أجل ألمانيا” (AFD) الشعبوي من العدم ليصبح قوة انتخابية رئيسة. وفي بريطانيا، لعب حزب “استقلال المملكة المتحدة” (UKIP) دورا رائدا في الضغط من أجل التصويت على الاستفتاء على مغادرة الاتحاد الأوروبي عام 2016 وإنجاحه. وفي الوقت نفسه، حقق الشعبويون خطوات كبيرة مؤخرا في كل من هولندا وبلجيكا والبرتغال.
اليوم، أصبحت السنوات التي قضتها الأحزاب الشعبوية على الهامش مجرد ذكرى بعيدة، ذلك أنها أصبحت في جميع أنحاء أوروبا إما في الحكومة وإما قريبة منها بشكل جدي.
الشعبويون في السلطة
من بين الأحزاب الشعبوية الثلاثة التي اكتسبت السلطة المطلقة في أوروبا، بقي حزب “فيديسز” المجري مسيطرا أطول مدة زمنية، ويمكن القول إنه الأكثر يمينية وكان له التأثير الأكبر. ومن المفارقات الساخرة أن زعيمه، فيكتور أوربان، كان في الأصل وسطيا، حيث ناصر السياسات الليبرالية عندما شغل منصب رئيس الوزراء للمرة الأولى في الفترة 1998-2002. ومع ذلك، تحولت آراؤه نحو اليمين في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وعاد إلى رئاسة الوزراء عام 2010 كشعبوي وطني. كان ذلك يعني مهاجمة المهاجرين، وحقوق المثليين، وتجريم التشرد على صعيد الداخل.
بعد فوز حزب “فيديسز” أربع مرات على التوالي بــ”أغلبية ساحقة” برلمانية من 2010 إلى 2022، بدأ باستخدام سلطته لملء المحاكم بالموالين، ووضع الحلفاء في مناصب مسيطرة في وسائل الإعلام، والتلاعب في جوانب النظام الانتخابي لتعزيز النتائج الإيجابية.
في المجر تحدى أوربان منذ اندلاع الحرب الإجماع بين الاتحاد الأوروبي و”حلف شمال الأطلسي” بشأن معارضة بوتين في كثير من الأحيان
على الصعيد الخارجي، وبالرغم من أن أوربان أشرف بنفسه على انضمام المجر إلى حلف شمال الأطلسي عام 1999، فقد أصبح أكثر برودة بكثير فيما يتعلق بالعلاقة مع حلف الأطلسي وأظهر عداء علنيا للاتحاد الأوروبي. كما جعل من المجر ومنذ فترة طويلة الدولة الأكثر ودية في الاتحاد الأوروبي تجاه كل من روسيا والصين. وسمحت بودابست لشركة “هواوي” الصينية بالاستثمار في شبكتها للاتصالات الخلوية من الجيل الخامس، على الرغم من مخاوف الولايات المتحدة الأمنية، ومؤخرا في فبراير/شباط 2024، اتخذت الصين خطوة غير عادية تمثلت في عرض علاقات أمنية أعمق مع هذه الدولة العضو في “الناتو”.
أما فيما يتعلق بروسيا فقد كان أوربان أكثر إثارة للجدل. بعد أن عمل بشكل وثيق مع موسكو قبل غزو أوكرانيا، بما في ذلك منح شركة روسية حقوق بناء محطة نووية في المجر، تحدى أوربان منذ اندلاع الحرب الإجماع بين الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي بشأن معارضة بوتين في كثير من الأحيان. وكثيرا ما قام بعرقلة أو تأخير حزم المساعدات التي يقدمها الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا، مصرا على أن انتصار روسيا أمر حتمي.
إلى جانب التراجع الديمقراطي في المجر، دفع هذا الأمر بروكسل إلى فرض الغرامات وحجب الأموال عن بودابست في مناسبات عدة. ومن ناحية أخرى أعلنت المفوضية الأوروبية في فبراير أنها بدأت إجراءات قانونية بخصوص التشريع الجديد الذي أصدره أوربان والذي قد ينتهك المبادئ الديمقراطية. ومع ذلك، ليس هناك ما يشير إلى نجاح هذه التدابير، كما يبدو أن حزب “فيديسز” يحكم قبضته على السلطة.
وفي المقابل، وجد الشعبويون في بولندا صعوبة أكبر في ترسيخ حكمهم. انتخب حزب “القانون والعدالة” (PiS) في عام 2015، وسعى بشتى الوسائل إلى تكرار نجاح أوربان. حيث شدد على القيم الوطنية البولندية المحافظة، وعبر عن عدائه الصريح لكل من المهاجرين والمسلمين وحقوق المثليين، مع حظره الإجهاض في جميع الظروف تقريبا عام 2020.
أما على المستوى الدولي، فقد خرج عن الخط الذي انتهجه حزب “فيديسز” وكان مناهضا بشدة لروسيا، كما كان من بين حلفاء أوكرانيا الأكثر حماسا بعد 2022. ومع ذلك، وازن الحزب موقفه ذاك بتشكيكه القوي في أوروبا وعدائه لبروكسل، التي تحدت محاولات حزب “القانون والعدالة” لإضعاف الديمقراطية في بولندا، وفرضت عقوبات عليه، مثلما فعلت مع المجر.
كان حزب “القانون والعدالة” مؤيدا للولايات المتحدة بشدة أيضا. وكان أعضاؤه مقربين من دونالد ترمب بشكل خاص، معتقدين أنه مؤيد متعاطف لتلك الأيديولوجيا، لكن حتى عندما انتخب جو بايدن، فإن عداءهم لروسيا ضمِن بقاء الولايات المتحدة حليفا قويا لهم.
تاريخيا، كان الناخبون الألمان يتجنبون الجماعات اليمينية المتطرفة بسبب وصمة العار التاريخية المرتبطة بالنازية
وقد سعى حزب “القانون والعدالة” إلى تكرار صيغة أوربان للتشبث بالسلطة في الداخل، فملأ المحاكم ووسائل الإعلام الحكومية بالحلفاء، لكن كلا من المعارضة المحلية والاتحاد الأوروبي أجبراه على بعض التراجع، ولم يتمكن قط من بناء قاعدة سياسية كما فعل حزب “فيديسز”. وهذا ما ظهر في أكتوبر/تشرين الأول 2023، حيث هُزم الشعبويون على الرغم من فوزهم بمعظم الأصوات، عندما حشدت أحزاب المعارضة الدعم الكافي كي تشكل حكومة جديدة وتجبر حزب “القانون والعدالة” على التنحي عن السلطة.
وقبل ذلك بعام، شهدت أوروبا انتخاب الحكومة الشعبوية الثالثة، والأولى في أوروبا الغربية، عندما حقق حزب “إخوة إيطاليا” بزعامة جورجيا ميلوني فوزا ساحقا ووصل إلى السلطة. على الرغم من أنها تنفي كونها فاشية، إلا أن حزبها يضم الكثير من الأعضاء السابقين في الحركة الاجتماعية الإيطالية الفاشية (MSI)، وكانت قد تحدثت عن التخلي عن اليورو وإعادة هيكلة الاتحاد الأوروبي في الماضي.
مرة أخرى، قدمت ميلوني نفسها على أنها منافسة قومية شعبوية، مستغلة الركود الاقتصادي الذي نتج هذه المرة عن أزمة ارتفاع تكاليف المعيشة بعد حرب أوكرانيا. ومع ذلك، كان “إخوة إيطاليا” في السلطة أقل تطرفا بكثير مما توقع البعض. استهدفت روما مجتمع المثليين، وألغت حقوق بعض الآباء المثليين. وكانت هناك تحركات مناهضة للمهاجرين أيضا اتُخذت بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي. لكن وأبعد من ذلك، اتضح أن ميلوني قد اعتدلت عندما ارتطمت بجدار الواقع وهي في الحكومة. وذكرت مجلة “الإيكونوميست” أواخر عام 2023 أنها “أدارت حكومة تقليدية إلى حد ما، حتى الآن”، مشيرة إلى أن شراكتها مع الاتحاد الأوروبي كانت أكثر بكثير من العداء معها. إضافة إلى ذلك، ورغم الشكوك التي كانت سائدة قبل وصولها للسلطة، أصبحت ميلوني مؤيدة لأوكرانيا في حربها ضد روسيا.
صعود الشعبويين
ومع ارتفاع هذا المد الشعبوي، يبدو من غير المرجح أن تكون إيطاليا آخر حكومة في أوروبا الغربية تشهد الحكم الشعبوي. وفرنسا هي المرشح التالي المحتمل في القائمة. فقد نجحت مارين لوبان في إعادة تسمية “الجبهة الوطنية” بـ”حزب التجمع الوطني”، ما أعطى حزب والدها مزايا أكثر مرونة. وكانت قد وصلت إلى جولة الإعادة في آخر جولتي انتخابات رئاسية، وحصلت على 34 في المئة من الأصوات عام 2017 وعلى 41 في المئة عام 2022. فهي من ناحية، تمكنت من ركوب موجة الشعبوية في فرنسا، بدءا من حركة السترات الصفراء عام 2018 التي خرجت احتجاجا على زيادة الضرائب على الوقود، وتزايد المشاعر المعادية للمهاجرين، وهو ما تجلى في نجاح حزب شعبوي آخر، وهو حزب “ريكونكويست”، الذي حصد نحو 5 في المئة من الأصوات. ومن ناحية أخرى، فقد اعتدلت في بعض مواقفها مثلما فعلت ميلوني، ما أدى إلى توسيع جاذبيتها. لم يعد “حزب التجمع الوطني” يقوم بحملات لمغادرة الاتحاد الأوروبي والتخلي عن اليورو، حتى لو حافظ على عدائه الغريزي لبروكسل، بينما غيرت لوبان موقفها المؤيد تاريخيا لبوتين في انتخابات عام 2022. ومع منع إيمانويل ماكرون بموجب الدستور من السعي لولاية ثالثة في منصبه، فإن مارين لوبان سوف تحظى بفرصة عادلة كي تصبح أول رئيس شعبوي لفرنسا في انتخابات عام 2027 المقبلة.
وعلى الرغم من أن حزب “البديل من أجل ألمانيا”، الحزب الشعبوي الرئيس في ألمانيا، لا يزال بعيدا عن السلطة، فقد تزايدت شعبيته بشكل كبير في السنوات الأخيرة. تأسس الحزب في عام 2013، وارتفعت شعبيته بعد استضافة ألمانيا قرابة مليون لاجئ، معظمهم من سوريا، خلال الأزمة السورية عام 2015. وتاريخيا، كان الناخبون الألمان يتجنبون الجماعات اليمينية المتطرفة بسبب وصمة العار التاريخية المرتبطة بالنازية. ومع ذلك، اكتسب حزب “البديل من أجل ألمانيا” زخما من خلال الترويج لأجندة مناهضة للمهاجرين ردا على الارتفاع المفاجئ في الهجرة. وبتسليط الضوء على الهوية الإسلامية للكثير من الوافدين الجدد، حذر حزب “البديل” في بيانه لعام 2016 من تزايد عدد السكان المسلمين الذي “يشكل تهديدا لأمن الأمة والمجتمع والقيم الأساسية”.
ومنذ ذلك الحين، قام الحزب بتوسيع برنامجه ليشمل معارضة السياسات البيئية للحكومة، وهو الموقف الذي وجد صدى لدى شرائح بعينها من المجتمع. وبالفعل فاز الحزب بنسبة 12 في المئة في الانتخابات الفيدرالية لعام 2017 وبنسبة 10 في المئة عام 2021. ولكن استطلاعات الرأي التي أجريت في العام الماضي تعطيهم نسبة 22 في المئة، بل إنهم فازوا بنسبة 27 في المئة من الأصوات في انتخابات الولايات بولاية ساكسونيا و23 في المئة في براندنبورغ، وهما منطقتان كانتا ضمن ألمانيا الشرقية السابقة حيث كان أداء الحزب جيدا بشكل خاص. وفي حين أن هذه الأرقام لا تزال غير كافية للحزب لكي يتجاوز الأحزاب الرئيسة، فإن الصعود السريع للحزب في غضون عقد من الزمن يمثل تطورا كبيرا، مما يشير إلى أن إمكاناته لتحقيق المزيد من النمو لا تزال قائمة.
الأنظمة التي تعتمد التمثيل الانتخابي النسبي في البرتغال وهولندا وألمانيا وأماكن أخرى تجعل من السهل استبعاد الأحزاب الشعبوية من قبل الأحزاب الأكثر رسوخا
وفي مكان آخر، شهدت انتخابات عام 2024 الأخيرة في البرتغال حصول حزبها الشعبوي اليميني “تشيغا” (كفى) على المركز الثالث في الترتيب العام، بعد أن ضاعف عدد مقاعده البرلمانية أربع مرات. مرة أخرى، قدم حزب “تشيغا” نفسه على أنه حزب مناهض للمهاجرين ومعاد للإسلاميين، مع التركيز بشكل خاص على برنامجه في مجال القانون والنظام، حيث دافع عن إعادة عقوبة الإعدام في جرائم معينة. وفي هولندا، فاز حزب “الحرية” التاريخي المناهض للإسلام بزعامة خيرت فيلدرز في انتخابات عام 2023، بأكبر عدد من المقاعد (37 من أصل 150 مقعدا).
وعلى غرار الإيطالية جورجيا ميلوني، والفرنسية مارين لوبان، خفف فيلدرز من لهجته المعادية للإسلام لتحقيق النجاح الانتخابي. ومع ذلك، فقد ربط المشاعر المعادية للمهاجرين بأزمة تكلفة المعيشة وانتقد الدعم العسكري لكييف.
ورغم أنه يبدو من غير المرجح أن يتولى فيلدرز منصب رئيس الوزراء، فإن حزب “الحرية” يستعد للعب دور مهم، وربما قيادي، في تشكيل الحكومة الائتلافية الجديدة. ويمثل هذا تحولا كبيرا بالنسبة لفيلدرز، السياسي الشعبوي الذي أمضى عقودا من الزمن على هامش الحياة السياسية الهولندية.
لا سلطة كاملة
يثير هذا النجاح المستمر للأحزاب اليمينية قلقا عميقا في أوساط معارضي الشعبويين في أوروبا، سواء من الوسطيين أو اليساريين. ومع ذلك، ثمة لدى البعض شيء من الارتياح لذلك. لقد أثبت كثير من الشعبويين بشكل عام أنهم أكثر اعتدالا في السلطة مما كان يُخشى في البداية. ميلوني واحدة من تلك الأمثلة، في حين يمكن لمارين لوبان أن تثبت مثالا آخر. ويُعَد أوربان في كثير من النواحي المثال الأكثر تطرفا للشعبوية غير المعتدلة، ولكنه قد يكون الاستثناء الذي يثبت القاعدة.
ثانيا، وكما يتبين من المثال البولندي، فإن تعزيز قبضة الشعبويين على السلطة أصعب مما يبدو من الحصول عليها. وبعد ثماني سنوات من حكم حزب “القانون والعدالة”، تمكن المعتدلون من استعادة السيطرة على الحكومة البولندية وهم حاليا يحاولون التراجع عن كثير من تراثها- بما في ذلك إقالة أكثر من خمسين سفيرا بولنديا عينهم الشعبويون. وتبين الحالة البولندية الطبيعة الدورية للسياسة، ففي زمن ما كانت الجماعات الشعبوية تعتبر دخيلة، ثم وصلت في وقت آخر لسدة الحكم في بعض البلدان، وبالتالي ووجهت بالرفض من قِبَل الناخبين، مما يشير إلى مد وجزر طبيعي في المشهد السياسي.
أخيرا، تجعل الأنظمة الانتخابية من الصعب على الشعبويين الحصول على السلطة الكاملة. كما أن الأنظمة التي تعتمد التمثيل الانتخابي النسبي في البرتغال وهولندا وألمانيا وأماكن أخرى تجعل من السهل استبعاد الأحزاب الشعبوية من قبل الأحزاب الأكثر رسوخا، على الرغم من حصص الأصوات المتزايدة للشعبويين.
علاوة على ذلك، حتى عندما تحقق الأحزاب الشعبوية نجاحا كبيرا، كما رأينا في هولندا، فإن عملية مفاوضات الائتلاف توفر الفرصة لقوى الوسط لفرض درجة من الاعتدال على الشعبويين كشرط أساسي لتقاسم السلطة.
وفي المقابل، فإن البيئات السياسية التي يأخذ فيها الفائز كل شيء، مثل نظام الحكم في المملكة المتحدة، تشكل تحديات أكبر للأحزاب المتمردة لإزاحة النظام القائم. ورغم أن خصومهم قد يفضلون اختفاءهم التام من الخريطة السياسية، فإن الواقع يشير إلى أن الشعبويين الأوروبيين عززوا وجودهم في المشهد السياسي. ولكن على الرغم من الانزعاج الواسع النطاق، فإن هذه الأحزاب لا تزال تمثل أقلية. وتستمر الأحزاب المعتدلة والوسطية في الهيمنة على الطيف السياسي في مختلف أنحاء أوروبا بفارق كبير.
بيد أن الوقت قد حان، ربما، للمعتدلين للاعتراف بالشعبوية اليمينية باعتبارها عنصرا مهما ودائما في السياسة الأوروبية ووضع الاستراتيجيات وفقا لذلك.
المصدر : https://www.majalla.com/node/318716/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%B5%D8%B9%D9%88%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%A8%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D8%A7-%D9%84%D8%A7-%D9%8A%D9%85%D9%83%D9%86-%D9%88%D9%82%D9%81%D9%87%D8%9F