بقلم : التجاني صلاح عبدالله المبارك – المركز الديمقراطي العربي
يوم الأربعاء الماضي أسدل الستار على مسألة اختيار رئيس مجلس النواب الأمريكي، وانتخب الديمقراطيون خلف الأبواب المغلقة السيناتور “حكيم جيفريز” 52 عام رئيسا للمؤسسة التشريعية. ولم يغب على “جيفريز ” الثناء على رئيسة المجلس السابقة السيدة “نانسي بيلوسي” 82 عام، ووصف حقبتها بالقيادة المذهلة وقال: إن الديمقراطيين وصلوا إلى ما هم عليه الآن بفضلها هي وفريقها !
مجلس النواب ومجلس الشيوخ هما الجسم التشريعي في النظام السياسي الأميركي، ويعتبر الكونجرس بمجلسيه (النواب والشيوخ) هو المؤسسة الدستورية الأولى من حيث ترتيبها في الدستور، حيث نصت مادته الأولى في الفقرة الثامنة على: يتمتع الكونجرس بسلطة فرض وتحصيل الضرائب والرسوم والعوائد والمكوس لتسديد الديون، وإقامة الدفاع المشترك.. الخ
ومجلس النواب الأمريكي أو المجلس الأدنى يختص بإقرار التشريعات الفيدرالية، وبعد موافقة مجلس الشيوخ أو المجلس الأعلى عليها يتم إرسالها إلى الرئيس للنظر فيها، إضافة إلى صلاحياته الأخرى.
غير أنه ثمة عوامل ومتغيرات عديدة تؤثر في استقلالية قرارت الكونجرس، مثل التأثير المباشر والمكثف من المؤسسات الاقتصادية الكبيرة العملاقة التي تمارس نفوذها لتحقيق أهدافها ومصالحها بصورة رئيسية، وجماعات الضغط المختلفة التي تمارس مجهودا ضخما ومباشرا على المشرعين، ويتجاوز هذا الضغط الأحزاب وقياداتها وتوجهها ورسالتها، ومن أكبر جماعات الضغط في الولايات المتحدة التي تقوم بهذا الدور هي جماعة الايباك، التي وصلت حدا كبيرا في التأثير المباشر على المشرعين.
من الواضح أنه في ظل المعارضة المتصاعدة لإسرائيل داخل الكونجرس، في خصوص معاملة إسرائيل غير الإنسانية للفلسطينيين الأبرياء، مثل التهجير القسري والقتل المتعمد كما لو كانت تقتل الكلاب الضالة، فإن المتشددين المؤيدين لإسرائيل وعلى رأسهم الايباك، يرحبون بقيادة “جيفريز” لمجلس النواب أكثر من أي وقت مضى، في محاولة منهم لوقف هذا التصعيد المتنامي.
من ذلك أنه عندما تقدمت المشرعة “بيتي ماكولام” بمشروع قرار للكونجرس العام الماضي يدعو للتأكد من عدم استخدام المساعدة الأمريكية السنوية، لضم مناطق الضفة الغربية بطريقة غير قانونية، أو هدم بيوت الفلسطينيين وتشريدهم بالقوة منها، والامتناع عن اعتقال الأطفال وسجنهم، فإن “جيفريز” كان من أوائل المعارضين لمشروع القرار، في انحياز سافر للايباك أو بالأحرى لدولة الاحتلال.
أكثر من ذلك فقد انصاع لمصالح ايباك، ووقع ومعه ثلاثمائة عضو في الكونجرس على رسالة تعارض تخفيض التمويل، أو إضافة شروط على الدعم الأمني المقدم لإسرائيل ذلك بعد أن دعا 15 عضوا ديمقراطيا بالكونجرس الرئيس “بايدن” للتدخل، ومنع أكبر عملية تشريد للفلسطينيين في الضفة وصفتها منظمة (هيومان رايتس ووتش) بجريمة حرب.
ومن أجل ضمان وتأكيد الدعم المتواصل لإسرائيل، وفي سياق التصعيد المتنامي ضد إسرائيل وتزايد شعور الكراهية والعداء لها في الوسط الأمريكي وفي مجالس التشريع، فقد وظفت مجموعة الايباك مشروع الديمقراطية المتحدة، الذي باشر مهامه فورا في ضخ ملايين الدولارات في الحملات الانتخابية قبيل انتخابات التجديد النصفية، لدعم المرشحين الذين يراعون المصلحة الإسرائيلية، وهي استراتيجية تعتمد فيها ايباك على المساومة وتبادل المصالح، ومن خلالها يتم تقديم كافة أشكال الدعم للمشرعين من أجل اكتساح الانتخابات التشريعية، مقابل الحصول على دعم وتأييد للقضايا التي تهمها، وهي الاستراتيجية التي تعتمد عليها ايباك بشكل أساسي ورئيس!
لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية “الايباك” American Israel Public Affairs Committee هي من أقوى جماعات الضغط (لوبي) في الولايات المتحدة، وهي مسجلة رسميا بموجب القوانين الأميركية كجماعة ضغط للقيام بمهمة الدعاية لدعم إسرائيل باسم الطائفة اليهودية الأميركية، ونشأت هذه المنظمة عام 1953 على عهد ولاية الرئيس “ايزنهاور” تحت اسم اللجنة الصهيونية الأمريكية للشؤون العامة American Zionist Committee for Public Affairs إلا انه بعد خلاف بين “ايزنهاور” ومجموعة داعمي إسرائيل تغير الاسم إلى الايباك.
تتمثل أهداف هذه الجماعة، التي من بين أعضائها ليس اليهود وحسب لكن أعضاء جمهوريين وديمقراطيين، في تحقيق الدعم الكامل لإسرائيل، وتقوية العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل، من خلال التعاون التام بين أجهزة الاستخبارات في كلا البلدين، والمساعدات العسكرية والاقتصادية، والعمل على منع أي تحالف أو تقارب أمريكي مع الدول العربية يمكن أن يكون ضررا على إسرائيل، وفي الوقت نفسه تسويغ كل أشكال التطبيع بينها وبين الدول العربية، حتى تبدو إسرائيل حملا وديعا لا له ولا عليه في ظل شعور الكراهية المتصاعد.
معاداة السامية أو شعور الكراهية المتصاعد ضد إسرائيل دعا “بايدن”، قبل الاجتماع في البيت الأبيض برئاسة” دوغ إمهوف” الزوج اليهودي ل “كامالا هاريس” نائبة الرئيس، وهو الاجتماع الذي انتظم فيه قادة منظمات اليهود الأمريكيين وقادة أكبر الكنائس، دعا “بايدن” أن يقول: أريد فقط أن أوضح بعض الأشياء: الهولوكوست حدثت بالفعل، و”هتلر” كان شخصية شيطانية. يجب على قادتنا السياسيين أن ينادوا ويرفضوا معاداة السامية أينما تختبئ، بدلا من السماح بانتشارها، وأضاف: الصمت يعني التواطؤ.
وزير الخارجية الأمريكي” أنتوني بلينكن ” قال في مناسبة أخرى وفي ذات السياق: نحن نحارب معاداة السامية، والتي عادت لتتزايد في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك هنا في الولايات المتحدة.. لسنا ندين معاداة السامية متى تحدث فحسب، ولكننا نقف أيضا مع المجتمعات اليهودية متى تقع ضحية لأعمال الكراهية هذه ونعمل على بناء تحالفات واسعة عبر الحكومة والمجتمع المدني لنتوحد معا لدحر هذه الآفة.
أما “جيفريز” رئيس مجلس النواب الجديد فيحتفظ بعلاقات محبة جيدة مع لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية. ووصلت به المحبة إلى أن قال: في بلدنا، مدينة نيويورك نعتبر القدس الحي السادس.. والمساعدات الأمريكية لإسرائيل يجب أن تستمر بدون شروط.
ولأن “رشيدة طليب” النائبة المسلمة فلسطينية الأصل عن ولاية ميشيجان، كانت تعارض المساعدات العسكرية الأمريكية إلى إسرائيل، وتؤيد حل الدولة الواحدة للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، وحق العودة الفلسطيني وتدعم نشطاء حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات، وفرض العقوبات، فقد كانت عرضة لسهام المنظمات المؤيدة لإسرائيل، ومحاولات لإزاحتها وهزيمتها في الانتخابات، واتهامها هي و”الهان عمر” بمعادة السامية، بل أن الايباك عمدت إلى تشكيل تحالف مع جماعات الأمريكيين الافارقة، الذين هم غالبية الناخبين في ميشيجان.
ولأن “الهان عمر” عضو مجلس النواب عن ولاية مينيسوتا الصومالية الأصل وصفت دولة الاحتلال بأنها عبارة عن نظام فصل عنصري، ودعت الوسط الأمريكي والعالمي، إلى عدم إغفال والتعامي عن القصف الجوي الإسرائيلي على المدنيين الفلسطينيين، وبسبب نشاطها الملحوظ في هذه الانتهاكات اتهمت بمعاداة السامية أو كراهية اليهود.
أما “جيفريز” رئيس المشرعين الجديد المنتخب، فلا يعتبر أن المعاملة الدونية والقبيحة التي تعامل بها إسرائيل الفلسطينيين هي في حقيقتها سياسة فصل عنصري “ابارتايد”، وهي الحقيقة التي يراها كل مراقب وكل باحث عن الحقيقة، بما في ذلك جماعات حقوق الإنسان الإسرائيلية والدولية، ولكن يعتبر هذه التقارير إنما تهدف إلى عزل إسرائيل في أحد أقسى المناطق في العالم!
“These reports were designed to isolate Israel in one of the toughest neighborhoods in the world”.
فأي ثمن الذي يدعو المرء لإنكار الحقيقة وأن ينكر الشمس وهي فوق رؤوس الجميع !
بعد هذا في تقديري أن قوة الكونجرس وصنع القرار فيه، يمكن وصفه مختطفا، ولا يعبر بأي حال عن قرار نابع من السيطرة على الشؤون الداخلية للوسط الأمريكي، بل أنه تتحكم فيه جهات وجماعات خارجية، ناهيك عن ضعف الولاء الحزبي وضعف الأحزاب بصورة عامة. صحيح أن توجيه القرار وصنعه من خارج المؤسسة التشريعية، كان موجودا بالفعل منذ تمكن اليهود من مفاصل الدولة، إلا أنه لم يكن ظاهرا كما هو الحال الآن لأي مراقب أو باحث. أظن بعد هذا لا يسع “جيفريز” إلا أن يقول: يا عزيزي كلنا مختطفين.
.
رابط المصدر: