مقدمة:
إن استطلاعات الرأي العام هي إحدى الطرائق المؤثرة في تكوين الصورة لدى صانعي القرار كالحكام والمسؤولين، وإن لاتخاذ القرار تأثيره المباشر في الجمهور وفي حياتهم اليومية. فبعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر اتجه الكثير من المؤسسات العالمية إلى دراسة صورة العرب من خلال استطلاعات الرأي العام في معظم البلدان العربية والإسلامية، واستهدفت معرفة قيم وآراء الأمريكيين بالولايات المتحدة الأمريكية ونظرتهم إلى العرب.
وكانت هذه هي أول تجربة لمعرفة العرب المسلمين عن كثب من وسائل أخرى غير وسائل الإعلام المتحيِّزة والمعروفة باتجاهاتها المسبقة وغير الموضوعية، وذلك باستخدام استطلاعات الرأي العام لفهم الصورة الحقيقة للعرب والمسلمين[1]، فهي صورة سريعة للرأي ولكن الاتجاهات هي المواقف الحقيقية[2].
أولاً: الإطار المنهجي والمفهومي
1- في المنهج
أ ـ مشكلة البحث: يصعب على الباحث، الذي لا يستطيع تحديد مشكلة البحث، الوصول إلى نتائج بحثية علمية. لذا تعد عملية تحديد مشكلة البحث من أولويات الباحث، ومن ثم الانطلاق لوضع استراتيجية العملية لتناول الظاهرة موضوع الدراسة، إذ إن العديد من البحوث والدراسات العلمية تفشل إلى حدٍ كبير لإخفاقها في تحديد مشكلة البحث تحديداً واضحاً، يتم من خلالها تعريف الأسباب التي أدت إلى المشكلة من جهة، والأبعاد المكونة للمشكلة نفسها من جهة أخرى[3].
يعادل تحديد مشكلة البحث نصف البحث، ويوفر على الباحث الكثير من الجهد والوقت[4]. ويبقى نوع الموضوع أو المشكلة والدقة في صوغها ونصها مسؤولة عن تقدم البحث ونجاحه أو تعثره وفشله[5]. كما أن اهتمام الباحث بالمشكلة هو ليس إرضاء للآخرين أو لجلب اهتمامهم، وإنما يعتمد على الخبرة والمقدرة على الخوض بمثل الموضوع الذي اختاره ودرجة تمكنه منه[6].
وفي ضوء ما ذكر سابقاً وضع الباحث مجموعة من التساؤلات للإجابة عنها عن طريق البحث الأكاديمي:
ـ ما الصورة المرسومة لدى الجمهور عن الأمريكي بعد 2003؟
ـ هل اختلفت الصورة الذهنية للأمريكي بعد 2003 عن الصورة السابقة له؟
ـ ما هي أسباب هذا الاختلاف لدى الجمهور؟
ـ هل تغيرت الصورة الذهنية للأمريكي بسبب الأوضاع التي يمر بها العراق؟
ب ـ أهمية البحث: تحتل أهمية البحث مكانة بارزة في السلّم الهرمي لمفردات منهجية البحث، فهي تبين أهمية موضوع البحث وضرورة التوصل إلى حلول جديدة لمشكلة قائمة، فضلاً عن الضرورات الاجتماعية أو الإنسانية التي تقتضي إجراء مثل هذا البحث[7].
تنطلق أهمية هذا البحث من دراسة الصورة الذهنية للأمريكي، فاختلاف آراء الناس ووجهات نظرهم إلى الأمريكي بعد 2003، ما بين مؤيد ومساند له وما بين رافض لعمله، لم يأتِ من فراغ؛ بل من سؤال الباحث لمجموعة من الناس عن رأيهم لكي لا تكون الدراسة مبنية على تخمينات أو توقعات أو فراغ. وتعد دراسة الصورة الذهنية للأمريكي من الدراسات المهمة، لأنها تمثل دراسة مكوّن من مكوّنات المجتمع الدولي.
ج ـ هدف البحث: «يعني تحديد هدف البحث الكشف عن مكوّن هام من مكونات الفكرة التي ينطلق الباحث منها، يتمثل في المضمون النظري للعالم النظري الضيّق من المفاهيم، وأبعاد المفاهيم الذي يجري البحث فيه حصراً»[8].
إن الهدف من البحث هو معرفة الصورة التي تكونت لدى الجمهور العراقي عن الأمريكي بعد 2003، أتغيّرت الصورة يا ترى، أم ما زالت على حالتها السابقة. كذلك كشف الجوانب الإيجابية والسلبية للأمريكي، ولا سيّما أنه أصبح على احتكاك مباشر مع الجمهور من خلال وجودهم في الشارع العراقي وانتشارهم في مناطق العراق كافة. كما يرى الباحث أن النتائج التي سوف تظهر من خلال الدراسة ستبين الصورة الواضحة المرتسمة لدى الجمهور عن الأمريكي ومن ثم سوف تفيد هذه الصورة كلا الطرفين.
د ـ المنهجية: يقصد بمنهج البحث هو الطريقة الموضوعية التي يتبعها الباحث في دراسةٍ أو ظاهرةٍ من الظواهر، أو مشكلةٍ من المشاكل، أو حالةٍ من الحالات، بقصد تشخيصها أو وصفها وصفاً دقيقاً، وتحديد أبعادها بشكل شامل يجعل التعرف إليها وتمييزها سهلاً، ويتيح معرفة أسبابها ومؤثراتها والأنماط التي تتخذها أو تتشكل فيها العوامل التي أثرت فيها أو تأثرت بها، ومن ثم قياس هذا الأثر أو التنبؤ به بشكل موضوعي دقيق يفسر العلاقات التي ترتبط عواملها الداخلية والخارجية، بقصد الوصول إلى نتائج عامة محددة يمكن تطبيقها أو تعميمها[9].
وانسجاماً مع مقتضيات البحث وطبيعته الإجرائية فقد اتبع الباحث المنهج الوصفي المسحي للوصول إلى النتائج المرجوة لتحقيق أهداف البحث.
هـ ـــ أدوات البحث: استعان الباحث، لغرض إنجاز متطلبات البحث، باستمارة استبيان أُعدت لهذا الغرض اشتملت على أسئلة متعددة وتضمنت أسئلة مغلقة وزعت على عيِّنة البحث.
و ـ حدود البحث ومجالاته: استغرق العمل الميداني الذي قام به الباحث في توزيع وإجراء المقابلة المباشرة مدة ستة أشهر وهي المدة الواقعة بين تاريخ أول تموز/يوليو ولغاية 31 كانون الأول/ديسمبر2013. ولم تكن هناك أسباب لاختيار الحدود الزمنية، غير أنها جاءت مع فترة انتهاء إعداد الاستمارة، ولكن من المصادفة أن الاستمارة وُزعت تزامناً مع ذكرى انسحاب القوات الأمريكية من العراق.
اختار الباحث تطبيق الدراسة على محافظة بغداد العاصمة مجالاً مكانياً ولعدة أسباب منها أن بغداد تعدُّ المحافظة الأولى من حيث التطور الثقافي وكذلك الكثافة السكانية، وتعد كذلك مجتمعاً مفتوحاً بدرجة كبيرة أمام المواطنين كافة بشتى أنحاء القطر، الأمر الذي يعطي لها خصوصية معيِّنة من حيث تنوعها وتمايز تركيبها السكاني. قام الباحث بتوزيع 500 استمارة استبيان على سكان المحافظة بجانبيها (الكرخ والرصافة) وعلى كلا الجنسين.
ز ـ عيِّنة البحث: بلغ عدد أفراد عيِّنة البحث 500 فرد (250 من الذكور راوحت أعمارهم بين 18 و75 سنة، و250 من الإناث راوحت أعمارهن بين 18 و75 سنة) في محافظة بغداد بجانبيها الكرخ والرصافة.
2 ـ الإطار المفهومي
من الضروري بدايةً التمييز بين مفهوم الطابع القومي ومفهوم الصورة، حيث يعبّر الأول عن سمات موضوعية للثقافة في مجتمع ما بما يتضمنه من نماذج سلوك وقيم ومعايير واتجاهات وتوقعات، أما تصور هذه السمات من جانب شعب إزاء شعب آخر، فهذا هو ما يعبّر عنه بالصورة، التي يعتبرها بعض الباحثين ضمن عناصر الثقافة المدنية، وهي تعتمد في تكونها وتطورها على عمليات التنشئة والاتصال بين المجتمعين، وتطور العلاقات بينهما وارتباطهما بحوادث مؤثرة كالحروب أو الهجرات أو الاتحاد والاندماج مثلاً، والتقارب الجغرافي والتشابه في اللغة والتقاليد والنظام السياسي والمصالح. وتنعكس صورة دولة ما في دولة أخرى على تطور العلاقات بين الدولتين. مع ذلك فإن إدارة العلاقة بين الدولتين وعمليات صنع السياسة الخارجية عموماً ترتبط بتكلفة ومخاطر كبيرة قد تلحق بالدولة نتيجة أي أخطاء، ومن ثم فإن الصورة قد تؤدي دوراً في العملية الإدراكية، لكن هذا الدور قد يكون تشويهياً، إذ إن القرارات المتخذة استناداً إلى تلك الصور ستكون خاطئة. وقد يكون للصور المشوهة تأثيرات تشويهية من خلال تفسير المعلومات والأنباء[10].
تنقسم الصورة في العادة ـ وكما سبقت الإشارة ـ إلى سلبية وإيجابية. حيث تنتج الصورة السلبية من «عدم الثقة» بين حكام كل طرف ضد القابضين على الحكم في الطرف الآخر، نتيجة إدراك هؤلاء ووجود أحكام مسبقة يحملها كل طرف عن الآخر، وقد يأتي ذلك أيضاً نتيجة انقطاع الصلة بينهما وعدم محاولتهما تطوير علاقاتهما لمعرفة أحدهما بالآخر بشكل أفضل.
تتغير الصور بمقادير مختلفة. ففي بعض الأحيان تضرب رسالة ما نوعاً من جزئية التصور أو تركيبته الداعمة، ليقوم ذلك الشيء بكامله بإحداث تغيير راديكالي في التصور. ومن الأمثلة البارزة على مثل هذا التغير هو «التحويل». وهناك ظاهرة إعادة تنظيم التصور وهي مسألة مهمة جداً تحدث لدى الناس جميعاً، لكنها على درجة أقل من «التحويل»[11].
على سبيل المثال، أظهرت صور مختلفة جداً عن اليهود في نتائج الاستطلاعات أجريت في الولايات المتحدة، حيث بينت نتائج استطلاعات الرأي العام في سنة 1938 أن 58 بالمئة من الجمهور الأمريكي يرى أن اضطهاد اليهود في أوروبا يعود، كلياً أو جزئياً، إلى خطأ اليهود أنفسهم، وأن النتائج المستحصلة من استطلاع للرأي تبدو اليوم غريبة. وأجريت مرة أخرى في سنة 1939، وظهر أن 38.9 بالمئة من الأمريكيين يقولون إن اليهود في الولايات المتحدة لا يجب أن يكون لهم المركز ذاته ولا وينبغي أن يعاملوا في الأمور كافة كالأمريكيين الآخرين تماماً[12].
أما اليوم فإن معظم هذه الأحاسيس غير موجودة لدى الأمريكيين، والواقع أن الصورة الأمريكية عن اليهود والإسرائيليين هي اليوم إيجابية تماماً، إذ وجدت دراسة لمعلمي الاجتماعيات في الثانويات في جنوب كاليفورنيا أن المعلمين ينظرون عموماً إلى اليهود والإسرائيليين على أنهم مقاتلون جيدون شجعان[13]، مجدّون، ويتجهون بأفكارهم للإعمار والتطوير. وقد جرى الحصول على نتائج مشابهة من استطلاع للرأي أوسع غطّى خمس ولايات أمريكية، بما فيها كاليفورنيا. وإذ تغيرت الصورة الأمريكية عن اليهود والإسرائيليين نحو الأحسن، فإن الصورة عن العرب لدى الأمريكيين تغيرت نحو الأسوأ[14]. ويمثل الفكر في حقيقته انعكاساً للواقع وصورة حية له، بل هو يقف على أرض الواقع الصلدة، لذلك يفترض فيه التعبير عن الحاجات الأساسية والاتجاهات الصحيحة لحركة الرأي العام.
إن صوغ آراء وأفكار الناس وترتيب مفاهيم الجماعات البشرية وفق فلسفة واضحة مهمة المفكر بالدرجة الأولى، إذ إن المجتمعات البشرية تطور باستمرار آراءها ومعتقداتها وأساليب تفكيرها وفق «نظام فكري» متماسك؛ ذلك النظام الفكري الذي يمكن اعتباره دالة واضحة للرأي العام. وتؤثر النظم السياسية في ذلك النظام الفكري باعتبارها جزءاً من التركيب الحضاري، ولها أهمية في تكوين الرأي العام ووجود تياراته[15].
ثانياً: المسح الميداني
يتناول هذا المبحث عرضاً للنتائج وإجابات المبحوثين (ذكوراً وإناثاً) التي تم التوصل إليها في ضوء الأهداف التي حُددت في البحث، إذ أُجريت دراسة ميدانية على عيِّنة ممثلة للمجتمع العراقي من الريف والحضر والنساء والرجال، وبعيِّنة متعددة المراحل وزعت الإحصاء السكاني لسنة 1997 استناداً إلى تخمينات 2007 الصادرة من الجهاز المركزي للإحصاء في وزارة التخطيط العراقية.
وصممت أداة الاستمارة بأسئلة تتقصى عن صورة الأمريكي في العقل العراقي بعد احتلاله العراق سنة 2003. أجريت الدراسة عام 2013 بطريقة المقابلة المباشرة وجهاً لوجه وبعيِّنة مقدارها 500 شخص، حسب المعلومات الديمغرافية التالية:
1 ـ المعلومات الديمغرافية
أظهرت نتائج الاستبيان أن المبحوثين توزعوا بالتساوي بين الذكور والإناث بواقع 250 بنسبة مئوية بلغت 50 بالمئة (انظر الجدول الرقم (1)).
الجدول الرقم (1)
نوع الجنس للمبحوثين
الجنس | العدد | النسبة المئوية |
إناث | 250 | 50 |
ذكور | 250 | 50 |
المجموع | 500 | 100 |
وأظهرت نتائج الاستبيان أن أغلب المبحوثين هم ممن راوحت أعمارهم بين 36 و45 سنة وبنسبة بلغت 37.5 بالمئة. وجاءت الفئة العمرية ما بين 46 و55 في المرتبة الثانية بنسبة مئوية بلغت 22 بالمئة، وفي المرتبة الثالثة الفئة ما بين 26 و35 بنسبة بلغت 13.5 بالمئة. أما المرتبة الرابعة فقد احتلتها الفئة ما بين 18 و25 سنة وبنسبة بلغت 12 بالمئة، وفي المرتبة الخامسة جاءت الفئة العمرية ما بين 56 ـ 65 سنة بنسبة 11 بالمئة. أما المرتبة الأخيرة فاحتلتها الفئة العمرية ما بين 66 و75 سنة حيث بلغت نسبتها 4 بالمئة. من هنا يمكن الإشارة إلى عمر أغلبية المبحوثين ممن هم بأعمار تتصف بالاتزان والتفكير عند اتخاذ القرارات المختلفة في الحياة (انظر الجدول الرقم (2)).
الجدول الرقم (2)
الفئات العمرية للمبحوثين
الفئة العمرية | النسبة المئوية |
36 ـ 45 | 37.5 |
46 ـ 55 | 22 |
26 ـ 35 | 13.5 |
18 ـ 25 | 12 |
56 ـ 65 | 11 |
66 ـ 75 | 4 |
المجموع | 100 |
المصادر:
[1] نيللي كمال الأمير، «دور المراكز البحثية في تشكيل الرأي العام وصورة الآخر،» ورقة قدمت إلى: المؤتمر الدولي حول استطلاعات الرأي العام واتخاذ القرار، بتاريخ 6 ـ 8 شباط/فبراير 2007.
[2] مقابلة مع د. ستيفن كول، مدير برنامج صورة العراق في الرأي العام الأمريكي، جامعة ميرلاند، 2005.
[3] ريجي مصطفى عليان وعثمان محمد غنيم، أساليب البحث العلمي: الأسس النظرية والتطبيق العملي (عمّان: دار صفاء للنشر والتوزيع، 2004)، ص 59.
[4] عبد الله محمد الشريف، مناهج البحث العلمي: دليل الطالب في كتابة الأبحاث والرسائل العلمية (القاهرة: مكتبة الشعاع للطباعة والنشر والتوزيع، 1996)، ص 36.
[5] محمد شيا، مناهج التفكير وقواعد البحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية، ط 2 (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع (مجد)، 2008) ص 190.
[6] وجيه محجوب، طرائق البحث العلمي ومناهجه (بغداد: مكتبة دار الكتب للطباعة والنشر، جامعة الموصل، 1988)، ص 45.
[7] حميد جاعد محسن، أساسيات البحث المنهجي (بغداد: شركة الحضارة للطباعة والنشر، 2004)، ج 1، ص 28 ـ 30.
[8] عبد الله إبراهيم، البحث في العلوم الاجتماعية (الدار البيضاء؛ بيروت: المركز الثقافي العربي، 2008)، ص 88. [9] محمد عبد الغني ومحسن أحمد الخضيري، الأسس العلمية لكتابة رسائل الماجستير والدكتوراه (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1992)، ص 39.
[10] حليم بركات، المجتمع العربي في القرن العشرين: بحث في تغير الأحوال والعلاقات (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2000).
[11] «Spirit and Power: Country Survey of Pentecostals,» (October 2006), <http://www.thearda.com/Archive/Files/Descriptions/PENTEC.asp>.
[12] The Muslim West Facts Project: What the People Really Think (Washington, DC: Gallup and Coexist foundation, 2008),
[13] John Zogby, The Way We’ll Be: The Zogby Report on the Transformation of the American Dream (New York: Random House, 2008), p. 217.
[14] Yaqub Abdalla Abu-Hela, «Images of the Arab and of their Conflict with Israel Held by American Public Secondary School Social Studies Teachers,» (Ph.D. Dissertation, Stanford University, CA, 1978), p. 8.
[15] Gallup State of the World, 2008 Annual Report, p. 222.
رابط المصدر: