أنهى وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، جولته الأفريقية الثانية خلال 6 أشهر التي بدأها في الـ 23 يناير 2023، وشملت جنوب أفريقيا، وإسواتيني، وأنغولا، بزيارة لم يُعلَن عنها مُسبقاً لإريتريا في الـ 26 من الشهر نفسه، استمرت يوماً واحداً، التقى خلالها الرئيس أسياس أفورقي، في اجتماع مغلق ركّز بحسب وزير الإعلام الإريتري، يماني جبر مسقل، “على ديناميات الحرب في أوكرانيا وتعزيز العلاقات الثنائية في قطاعات الطاقة والتعدين وتكنولوجيا المعلومات والتعليم والصحة”. وقال لافروف في مؤتمر صحافي عقب محادثاته مع نظيره الإريتري عثمان صالح، إنَّ البلدين “يخطِّطان لدرس إمكان استخدام الإمكانات اللوجستية لميناء مصوع والترانزيت عبر مطار المدينة”، وجاء هذا التصريح بعد أسبوعين فقط من إعلان السفير الإريتري لدى موسكو، بيتروس تسيغاي، خلال مقابلة مع وكالة ريا نوفوستي الروسية، عن توقيع بلاده مذكرة تفاهم للتعاون بين مينائي مصوع الإريتري وسيفاستوبول الروسي في البحر الأسود.
إريتريا بوصفها “فرصة سانحة” لروسيا
تأتي جولة لافروف في سياق ما تشهده القارة الأفريقية من حراك دولي متزايد يندرج في إطار صراع النفوذ والتنافس الدولي المحموم الذي أجَّجته الحرب الأوكرانية وباتت أفريقيا، بما فيها منطقة القرن الأفريقي، أحد أكثر مسارحه اشتعالاً. وتزامنت جولة لافروف مع جولة لوزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين إلى السنغال وزامبيا وجنوب أفريقيا، بعد شهر من استضافة واشنطن القمة الأمريكية-الأفريقية التي استثنت منها 5 دول أفريقية، من بينها إريتريا. كما جاءت في أعقاب جولة لوزير الخارجية الصيني الجديد تشين جانج إلى إثيوبيا والجابون وأنجولا وبنين ومصر، وزيارة لوزيري خارجية فرنسا وألمانيا إلى إثيوبيا، في وقت سابق من يناير الماضي، لاستعادة ثقة أديس أبابا بالاتحاد الأوروبي ودعم ترتيبات السلام في إقليم تيغراي، في ظل استمرار الضغوط والعقوبات الغربية على أسمرة على خلفية دورها في الحرب الإثيوبية، وعدم سحب قواتها بشكل كامل من إقليم تيغراي.
ويُترجِم التقارب الروسي-الإريتري تطابُق الرؤى حيال العديد من القضايا والملفات الساخنة دولياً وأفريقيّاً وإقليمياً، كما يعكس رغبتهما في تعزيز الأهداف والمصالح المشتركة، بما فيها مواجهة الضغوطات الغربية، وتخفيف العزلة الدولية المفروضة عليهما، وتعزيز موقعهما في معادلة التوازنات الدولية والإقليمية. فعلى مستوى الدعم السياسي وتنسيق المواقف في المحافل الأممية، مثلاً، كانت إريتريا واحدة من خمس دول صوَّتت ضد قرار للأمم المتحدة في 2 مارس 2022 يُدين الغزو الروسي لأوكرانيا. وقبل ذلك، عارضت روسيا، في ديسمبر 2021، مشروع قرار اعتمده مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة يدعو للتحقيق في الانتهاكات التي ارتكبت في إثيوبيا، وهو القرار الذي رفضته إريتريا أيضاً.
لا تسعى موسكو للتنافس مع الغرب فحسب، عبر توسيع نطاق المواجهة معه إلى أفريقيا، بل أيضاً تحاول تعزيز نفوذها الجيوسياسي وتأكيد مكانتها كقوَّة عظمى في عالم متعدِّد الأقطاب، وحماية مصالحها وتعظيمها عبر تكثيف حضورها العسكري والبحري، لاسيما في المواقع الحيوية في القارة ومنها البحر الأحمر، الذي يُوفِّر مدخلاً إلى القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، ويُشرِف على خطوط التجارة والملاحة الدولية، وبخاصة حركة ناقلات النفط المتجهة جنوب قناة السويس مروراً بباب المندب، والتي تُمثِّل صادرات النفط الروسي، ما نسبته 24% منها تقريباً. وضمن ذلك يبرز توجُّه جديد للسياسية الروسية لإيجاد بدائل للتعاون والتجارة والاستثمار، وهو ما يتطلَّب تطوير علاقاتها مع الدول الأفريقية والآسيوية، ومحاولة استمالة مناطق النفوذ التقليدية للأمريكان والأوربيين واختراقها. بينما تطمح أسمرة لتقوية علاقاتها بمنافسي واشنطن، لاسيما موسكو وبيجين، ضمن مساعيها لتحصين نفسها من التدخلات والضغوط الخارجية، وتعزيز استقلاليتها ودورها الإقليمي، وتحسين عائداتها بالاستفادة من مواردها الطبيعية، وما تتمتَّع به من مزايا جيوستراتيجية، بما فيها موقعها الجغرافي المهم.
تُمثِّل إريتريا -بالتالي- فرصة قد تجدها روسيا سانحة من أجل إيجاد موضع قدم في البحر الأحمر والقرن الأفريقي، يعوضها عن قاعدة بورتسودان التي فقدتها نتيجة الضغوط الأمريكية على الخرطوم، وقد تتيح لها مثل هذه الخطوة توسيع مجال نفوذها البحري، بحيث يمتد من البحر الأبيض المتوسط إلى غربي المحيط الهندي، ويُسهِّل عليها من ثمّ التوسُّع في شرق أفريقيا ووسطها، وموازنة نفوذ واشنطن والقوى الغربية الأخرى. كما ستعزز هذه الخطوة -إن تمَّت- قدرة موسكو على حماية مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية في المنطقة، بما في ذلك تثبيت الأنظمة الحليفة لها ومنها النظام الإريتري، ومضاعفة أنشطتها التجارية وبرامجها الدفاعية، ومبيعاتها من الأسلحة والمعدات العسكرية، أخذاً في الاعتبار أنَّها أكبر مُصدِّر لها إلى أفريقيا، إذ إن قرابة نصف واردات القارة من المعدات العسكرية روسية الصنع، بحسب تقرير حديث لمؤسسة راند البحثية، وكذا تعزيز قدرتها التنافسية في سباق استغلال الثروات الكامنة والفرص والمزايا الاستثمارية في القارة، والدولة الإريترية على وجه الخصوص، بما في ذلك توقيع عقود استخراج النفط والغاز والمعادن، وتطوير الموانئ والبنى التحتية وتقديم الحلول اللوجستية والتقنية.
ومع أنَّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سبق أن تجاهل عرضاً سابقاً من نظيره الإريتري، في أبريل 2021، لاستخدام ميناء عصب قاعدة عسكرية لروسيا؛ إلَّا أنَّ تزايُد اهتمام موسكو بالموانئ الإريترية مؤخراً، يُشير على الأرجح إلى تراجُع خياراتها الأخرى لتأسيس وجود عسكري طويل الأمد في المنطقة، لاسيما في ظل ضعف إمكانية تنفيذ اتفاقية إنشاء القاعدة العسكرية الروسية في بورتسودان، خصوصاً بعد الاستدارة الغربية نحو الجارتين الكبرَيَين لأسمرة (السودان وإثيوبيا)، وما أحدثته هذه الاستدارة من أثر ملموس على صعيد التوسُّط في منازعات المنطقة، وهي مسألة مهمة لا يزال دور موسكو وبيجين شبه معدوم فيها، وتحديداً رعاية عمليتي المصالحة والتسوية السياسية في البلدين، وبخاصة في إثيوبيا التي قطعت شوطاً لا بأس به في مسار استعادة علاقاتها التقليدية مع واشنطن وبروكسل، في مسعى منها لاستعادة مكانتها ودورها الإقليميَّين، وعلى نحوٍ قد يضع تحالفها مع النظام الإريتري على المحك في المستقبل القريب، ويكبح اندفاعها نحو روسيا والصين.
آفاق التقارب الروسي-الإريتري
يُمكن استشراف مستقبل التقارب الروسي-الإريتري، واستكشاف آفاقه المحتملة على النحو الآتي:
على الصعيد السياسي والدبلوماسي، من المتوقَّع أن تتعزَّز العلاقة بين البلدين، في ظل التوافق المتزايد حول العديد من القضايا والسياق الراهن للمواجهة مع الغرب، وتزايد أهمية القرن الأفريقي في التقدير الاستراتيجي للقوى المتنافسة على النفوذ والهيمنة، بما في ذلك حاجتهما لتنسيق المواقف والتحركات لإحباط المحاولات الغربية لعزلهما. وقد يُتوَّج هذا التقارب بحضور الرئيس الإريتري القمة الروسية-الأفريقية المقرَّر انعقادها أواخر يوليو المقبل، إذ جرى تداوُل أنَّ لافروف دعا أفورقي شخصيّاً للمشاركة في القمة.
وعلى المستوى العسكري والأمني، الذي تتفوَّق فيه روسيا ويحظى بتركيز أكبر ضمن استراتيجيتها لتعزيز حضورها ونفوذها في القارة، يُتوقَّع أن تكثِّف موسكو جهودها لإنجاز اتفاق مع أسمرة يسمح لبحريتها بالتمركز طويل الأمد في السواحل الإريترية، وخاصة في ظل تعثُّر تنفيذ اتفاقيتها مع الخرطوم بشأن إقامة قاعدة لها في بورتسودان.
على المستوى الاقتصادي، تبدو إريتريا أكثر اندفاعاً في علاقاتها مع موسكو، وأكثر اهتماماً بجذب الروس للتموضع والاستثمار في أراضيها، بما يعُود عليها ببعض المنافع المهمة من قبيل التزود أكثر بالأسلحة الروسية المتطورة، فضلاً عن تطوير موانئها وبُنيتها التحتية، وهو ما قد يُشكِّل تحدياً لروسيا في ظل تراجُع قدرتها على تأمِين التمويل لاستثماراتها الكبرى في الخارج بسبب العقوبات الغربية ضدّها على خلفية الحرب الأوكرانية.
وعلى الأرجح، ستُتاح لروسيا بعض الفرص لتحقيق اختراق في المجال الاقتصادي، والاستفادة ممَّا تُقدِّمه إريتريا من مزايا استثمارية للدول الصديقة. فعلى سبيل المثال، اتفق الجانبان مؤخراً على إنشاء إطار عمل مشترك للتشاوُر حول المسائل المتعلقة بالتجارة والاقتصاد، من شأنه، وفقاً لوزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، أن يُعزِّز الاتصال المباشر بين مجتمعات الأعمال الخاصة بهما “التي أظهرت اهتماماً بمتابعة المشاريع المشتركة في صناعة التعدين وقطاع الطاقة والمجال الزراعي وتقنيات اتصالات المعلومات، من بين أمور أخرى”، وعزل شراكتهما “عن الآثار المستمرة للعقوبات الغربية”.
لكن عجلة التعاون الاقتصادي بين موسكو وأسمرة ستظل أبطأ على الأرجح، خلال المديين القريب والمتوسط، مُقارنةً بتسارُع تغلغل الحضور الصيني في القرن الأفريقي، وفي الدولة الاريترية خصوصاً، والتي وقَّعت بيجين معها مذكرة تفاهم للانضمام إلى مبادرة الحزام والطريق في 24 نوفمبر 2021، ورفعت مستوى العلاقات بينهما إلى الشراكة الاستراتيجية، وشرعت في تشييد طريق بطول 500 كم يربط بين ميناءي مصوع وعصب، وفي التعدين المشترك للنحاس والذهب والزنك والفضة، فضلاً عن حيازتها على امتياز التنقيب عن الغاز والبترول في هذا البلد.
خيارات القوى المنافِسة
هناك خياران أساسيَّان أو اتجاهان مُحتملان يُمكِن لمنافسي موسكو، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، وبعض القوى الغربية والإقليمية التي تخشى تنامي الحضور الروسي في القرن الأفريقي، تبنِّي إحداهما في مسعى لكبح تسارع التقارب الروسي-الإريتري، ووضع المزيد من العراقيل والتحديات أمام عودة روسيا إلى البحر الأحمر، وهما كالآتي:
1. الاحتواء الناعم: اتسمت علاقات إريتريا مع الإدارات المتعاقبة في واشنطن، لاسيما الديمقراطية منها، بالتوتر الشديد منذ أواخر التسعينيات؛ فالنظام الإريتري طالما وقف على النقيض من التوجهات والرؤى الأمريكية تجاه المنطقة. مع ذلك، قد تشهد السياسة الخارجية لإدارة الرئيس جو بايدن تحولاً جديداً، يتمثَّل في محاولة احتواء إريتريا، على غرار التغيُّر الحاصل في مقاربتها تجاه إثيوبيا والسودان، ما قد يعني زيادة اعتماد واشنطن على الشركاء الإقليميين، لاستمالة إريتريا عبر عروض للتعاون في مجالات مختلفة، وقبل ذلك تخفيف العقوبات عن أسمرة وإدماجهما في النظام الإقليمي والترتيبات الأمنية الجديدة التي تقودها واشنطن في المنطقة، ضمن توجُّه لخفض ديناميات الصراعات في دول القرن الأفريقي وإبعادها عن روسيا والصين.
2. زيادة الضغوط والعقوبات: بالرغم من تراجع فاعلية سياسة الضغوط الغربية في ظل التحوُّلات الدولية الكبرى وبوادر تشكُّل نظام عالمي جديد مُتعدِّد الأقطاب، وما تُؤتِيه من نتائج عكسية تدفع دولاً مثل إريتريا لتكون أكثر استعداءً للغرب وأكثر انفتاحاً وتعويلاً على القوى الأخرى المنافسة؛ إلَّا أنَّ واشنطن قد تُفضِّل المضي بوتيرة أكبر في تكثيف مساعيها لمعاقبة النظام الإريتري وعزله عن المحافل الدولية والإقليمية، بما في ذلك محاولة إضعاف موقفه المالي عبر فرض عقوبات متزايدة ضدَّه، تشمل الشركات المحلية والروسية التي تزمع الاستثمار في الأراضي الإريترية، والدفع بقوَّة باتجاه تفكيك تحالف أسمرة مع أديس أبابا، والتنسيق مع بعض الدول والتجمُّعات الإقليمية لممارسة مزيد من الضغوط على إريتريا لثنيها عن السماح باستضافة قاعدة عسكرية روسية في أراضيها.
.
رابط المصدر:
https://epc.ae/ar/details/brief/hal-tuhawil-rusia-altamawdue-fi-albahr-al-ahmar-min-bawabat-eritrea