طريق التنمية العراقي: نحو تغيير في المفاهيم

ابراهيم العبادي

 

يستعد العراق لاطلاق مشروعه التنموي الاكبر، مشروع الطريق الذي يربط ميناء الفاو بحدود تركيا، يأمل المخططون له أن يقلب منهج التفكير الاقتصادي الذي دأبنا عليه منذ ابتلاع الحقبة الجمهورية لايرادات الريع النفطي، واستعماله اداة للسيطرة على المجتمع والاقتصاد والثقافة، بدعاوى عريضة سميت خطط التنمية الكبرى.

بقي اقتصاد العراق ريعيا وفات البلاد فرصا عظيمة لتنمية مستدامة تنقذ الملايين من سياسات مركزية عقيمة، جعلتهم فقراء وأسرى اعانات الحكومات وموازناتها غير المنتجة ذات الطابع الاستهلاكي الاسترضائي.

التفكير الجديد في استثمار موقع العراق وتنويع الموارد بإدماج الاقتصاد المحلي المنهك وتوسيع الشراكات مع المحيط الاقليمي والاقتصاد العالمي عموما، سواء في مجالات الطاقة والتصنيع والنقل والسياحة، هي السبيل المتبقي لمواجهة التحديات الكبرى، لا سيما التغير المناخي (الجفاف، شح الموارد) واحتياجات السكان المتزايدة.

لم تعد خيارات العراق مفتوحة كما تظن تيارات وزعماء واتباع، ولم يعد سائغا اخضاع السياسات التنموية للاجتهادات الحزبية والمخاوف السياسية و(الأمنية)، التي تعبر عن حسابات ناقصة ورؤى قصيرة لقوى جديدة ناشئة، فقد خسر العراق كثيرا من هذا النمط الفكري، الذي انتهجته أنظمة العراق وسلطاته وعبرت عنه أدبيات أحزابه منذ عام 1958 ولغاية تحرير الموصل من براثن داعش عام2017.

يقف العراق على مفارق تحديات مثيرة للقلق أبرزها التزايد السكاني الكبير ونقص المياه وجيوش الباحثين عن عمل ونمط التعليم غير الملائم للتحولات الجارية في اقتصادات العالم، تسارع القوى الفقيرة فكريا، التي تمسك بدفة السلطات إلى الاسلوب الاسهل في شراء الاصوات عبر (توزيع الثروة!) عن طريق زيادة التوظيف الحكومي والانفاق الكبير على الاعانات الاجتماعية، وتتجاهل التحذيرات من خطورة اعتماد هذا المنهج، اعتمادا على ايرادات سلعة راسمالية تتذبذب اسعارها في السوق العالمية.

لم يتبق وقت كثير لتدارك المنعطف الخطير، الذي تعيشه الاقتصادات الريعية كالاقتصاد العراقي، الذي يعتمد على النفط محركا أوحد للنشاط الاقتصادي والخدمي وتمويل الحروب والتخادم السياسي والامني، وبسقوط أسعار النفط بفعل المتغيرات الجارية في انماط استهلاك الطاقة في العالم فإن التوقعات تشير إلى أن معدل الايرادات لن يكون كافيا لتلبية المتطلبات، وستكون السياسات المالية وعجوزات الموازنة عبئا ثقيلا على الاقتصاد ما لم يتم تدارك الامر بمنهج مختلف يدرك المخاطر والتهديدات، ويستفيد من الفرص المتاحة اليوم وليس غدا.

نقطة الضعف الكبيرة التي تواجه العراق كان فشل النخب السياسية في تقدير وقراءة المخاطر والتهديدات لغلبة التفكير الشعبوي وغياب التخطيط العلمي والاعتماد على عقول مسطحة تميل إلى الشعارات، وتستعجل بناء السياسات العامة بلا رؤى حصيفة وعقلانيات تحتاجها السلطات لتدبير شؤون بلد كثير المفاجآت.

يتحدث الدبلوماسيون الأجانب في العراق وكثير من المراقبين والخبراء عن أهمية التقاط الفرصة والبناء على السلام القائم لاحداث انتقالة مهمة في ادارة الاقتصاد، عبر توسيع الشراكات الاقليمية والاستفادة من الانفتاح العالمي على العراق، وتحويل التحديات إلى فرص، والتحدي الاكبر بعد تراجع خطر الارهاب هو توسيع قاعدة الاقتصاد وتنويع الايرادات، وذلك يتوقف على خطط مبتكرة تحتاج إلى زيادة كفاءة التعليم وبناء حوكمة قادرة على تقليص الفساد المستشري وتحريك الاستثمار وتنشيط قطاع الاعمال لاستيعاب العاطلين وتقليص مساحات الفقر.

لكن الاقتصاد لا ينمو من دون سياسات سليمة وبيئة مواتية وأمن مستدام وتسهيلات ملموسة، فالامر متوقف على رؤية مجتمعية وثقافة سياسية وخطاب وطني اجماعي، ينشد التنمية والسلام والامن ويوفر الامكانات الضرورية لذلك، هذه الرؤية قد تكون المحور الاهم بما يسمى ستراتيجية الامن القومي، فماهي ستراتيجية العراق لبناء أمنه القومي؟

تختلف ستراتيجيات الامن القومي بناء على الثقافة السياسية والموروث التاريخي ورؤية الذات (الموقع، الحضارة، الامكانات والموارد والخطط والاهداف)، الدروس القريبة من جيراننا الاقوياء الثلاثة، تركيا، إيران، السعودية، تعلمنا أن هذه الدول انتهجت ستراتيجيات ووضعت خططا وألزمت نفسها بتوقيتات لبلوغ اهدافها، وكانت الرؤية والرسالة واضحة لصانع السياسات ومسوقة جيدا للمواطن وبندًا نشطًا في وسائل الاعلام ومحورا مركزيا في الدراسات وعند ذوي الفكر والاقلام.

انتهجت تركيا نظرية العمق الستراتيجي وسياسة تصفير المشكلات لصاحبها المنظر والسياسي احمد داود أوغلو، واستفادت تركيا كثيرا في بناء اقتصادها وتعظيم مواردها قبل التعديلات التي ادخلها الزعيم اردوغان لاحقا، وكذلك فعلت إيران رغم العقوبات والاضطرابات والتراجع الاقتصادي الكبير، لكنها حافظت على رؤية امنية واقتصادية هي مثار جدل ونقاش سياسي عام، السعودية وضعت لنفسها رؤية لغاية عام 2030 واكتشفت أخيرا ان هذه الرؤية الكبيرة لن تحقق غاياتها الا بتعديل واضح في السياسات افضى إلى ما يمكن تسميته باستعارة منهج احمد داود أوغلو ب (تصفير المشكلات) واعطاء الاولوية للبناء والسلام والتنمية وتحويل الخصوم إلى شركاء.

ما يحتاجه العراق فعلا لبناء اقتصاده وتعظيم موارده والتحسب للمخاطر، هو استثمار الانفتاح العالمي والاقليمي عليه وبناء علاقات متوازنة، وجعل بيئته جاذبة للاستثمار وفسح المجال لبناء شراكات واسعة مع الاخرين، وكل ذلك مرتبط بتغيير المفاهيم التي حكمت السلوك السياسي لمدة طويلة، العالم يريد العراق فرصة وبعض العراقيين يسعون لتبديد هذه الفرصة.

 

.

رابط المصدر:

https://m.annabaa.org/arabic/development/35195

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M