حيدر آل حيدر الاجودي
كان ما يعرف بطريق الحرير واحدا من أعظم ملامح العالم القديم، والآن تتم إعادة هذه الشبكة الأسطورية إلى الحياة من جديد، وطرح مشروع طريق الحرير الجديد الذي يعد مشروعا ضخما واستعراضا للقوة والجبروت، تسعى من خلاله الصين إلى ربط العالم ببعضه البعض بالطريقة الصينية. الأمر يتعلق ببنية تحتية، أي بشبكة طرق وخطوط سكك حديدية وموانئ ومطارات بين آسيا وأوروبا وأفريقيا في ما يقارب 65 دولة، إنه مشروع لم يشهد العالم مثيل له، إنها رؤية قوية وتأثيرها سيشمل الكثيرين، مما سيمثل فرصة كبيرة للبعض ومعاناة بالنسبة إلى آخرين، طريق الحرير الجديد شهادة على إحياء الصين على الساحة العالمية، حيث تقول بكين: “إن طريق الحرير الجديد سيعود بالنفع على الجميع”، لكن الواقع يكشف أن الصين ترغب قبل كل شيء في دعم ذاتها، والأمر يتعلق أيضاً بأهداف جيوسياسية، فما هو طريق الحرير؟.
يرجع تاريخ إنشاء طريق الحرير إلى عام 3000 قبل الميلاد وكان عبارة عن مجموعة من الطرق المترابطة تسلكها السفن والقوافل، بهدف التجارة وترجع تسميته إلى عام 1877م، حيث كان يربط بين الصين والجزء الجنوبي والغربي لآسيا الوسطى والهند.
وسمي طريق الحرير بهذا الاسم، لأن الصين كانت أول دولة في العالم تزرع التوت وتربي ديدان القز وتنتج المنسوجات الحريرية، وتنقلها لشعوب العالم عبر هذا الطريق، لذا سمي طريق الحرير نسبة إلى أشهر سلعة تنتجها الدولة التي أطلقته.
وفي سبتمبر عام 2013 أعلن الرئيس الصيني مبادرة جديدة تهدف لتعزيز التعاون الاقتصادي، داعيا إلى إعادة إنشاء شبكة الممرات البحرية القديمة لخلق طريق الحرير البحري لتعزيز الربط الدولي ودعم حركة التجارة.
وتقضي المبادرة بإقامة حزام بري من سكك الحديد والطرق عبر آسيا الوسطى، وروسيا، وطريقاً بحرياً يسمح للصين بالوصول إلى أفريقيا، وأوروبا، عبر بحر الصين، والمحيط الهندي، كما تتضمن المبادرة تشييد شبكات من السكك الحديدية، وأنابيب نفط وغاز، وخطوط كهرباء، وإنترنت، وبنى تحتية بحرية، ما يعزز اتصال الصين بالقارة الأوروبية والإفريقية.
أما براً فتشمل المبادرة ستة ممرات اقتصادية أساسية تشكّل أعصاب شبكة التجارة، والنقل، والتنمية الإقليمية، والدولية القادمة وهي: الجسر القاري الأوراسي الجديد، وممر الصين- منغوليا- روسيا، وممر الصين- آسيا الوسطى- غرب آسيا، وممر الصين- شبه الجزيرة الهندية، وممر الصين- باكستان، وممر بنغلاديش- الصين- الهند- ميانمار.
وفي البحر، تركز المبادرة على بناء روابط بين الموانئ الرئيسية، ومن الممرات البحرية المقترحة ممر يربط الموانئ الصينية، بالمحيط الهادئ عبر بحر الصين الجنوبي. وآخر يربط الموانئ الصينية بأوروبا.
تهدف بكين من خلال مشروع طريق الحرير إلى إقامة شراكات وصداقات مع دول القارات الثلاث (آسيا وأفريقيا وأوروبا)، وإيصال بضائعها المتنوعة والكثيرة لهذه القارات بأقل تكلفة وأكثر أمانا وبأسرع الطرق، وهذا السبب الظاهري الذي تتحدث عنه بكين بمشروعها التوسعي، ولكن هل هناك أسباب باطنية؟، الصين في حالة حرب اقتصادية مع الولايات المتحدة الأمريكية، وفي حالة منافسة مع باقي دول العالم، بهذا المشروع سيكون لديها نفوذ اقتصادي وسياسي في القارات الثلاث وستجني أرباحا هائلة وتصبح معظم دول المشروع مدينة لها بالمليارات، فهل تحقق الصين أهدافها الخفية (المكشوفة) وتسيطر على اقتصاد العالم؟، وهل ستقف الولايات المتحدة مكتوفة الأيدي أمام هذا المشروع؟.
تمثل الصين أكثر من 40% من حجم التجارة العالمية، فهي لا تريد الاعتماد على سوق الولايات المتحدة لوحده، بل تسعى إلى إيجاد البدائل باستحداث الطرق الجديدة للوصول إلى غربها وباقي دول القارات الثلاث، وتسعى أيضا لوضع المعالجات لمأساة مضيق ملقا الذي يسيطر عليه الأسطول البحري السابع التابع للولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها، والذي يعتبر الممر الأساسي لتزويد الصين بالنفط ويسيطر على 80% من وارداتها.
فالولايات المتحدة مدركة تمام الإدراك بالخطط الصينية والتوسع الاقتصادي الذي تعمل عليه منذ عام 2013، وتحاول محاصرتها منذ سنوات طويلة ومنها السيطرة على مضيق ملقا والحد من التوسع الصيني، لذلك تحاول أن تستبق الصعود الصيني بقطع كل طرق الإمداد والسيطرة على أحد أهم المناطق الحيوية للمشروع الصيني وهي منطقة الشرق الأوسط الغنية بالنفط، فالولايات المتحدة ربما لا تحتاج إلى نفط وغاز الشرق الأوسط بقدر منع الصين من السيطرة عليه ومن أجل التأكد بأن النفط يذهب إلى حلفاء الولايات المتحدة ولا يذهب إلى حلفاء الصين، لذلك تم زج منطقة الشرق الأوسط وخصوصا المنطقة العربية في الصراع الممتد بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، وربما يطول هذا الصراع ويتطور بتطور التكنولوجيا الحديثة ووسائل الحروب الجديدة كالحرب الاقتصادية والحرب البيولوجية، وقد عملت كلتا الدولتين المتصارعتين بالحروب الاقتصادية وفرض الضرائب أحدهما على الآخر مما تسبب بخسائر اقتصادية كبيرة، وما نشهده اليوم من انتشار أحد الفيروسات الخطيرة على البشر (كورونا) إلا كأحد الأدوات المستخدمة في الحرب البيولوجية والتي عانت منه أغلب الدول المؤيدة لمشروع طريق الحرير الصيني.
ويرى منتقدو المشروع وعلى رأسهم واشنطن، والهند، واليابان أنه يعمل على تعزيز مواقع ونفوذ الشركات المتمركزة في الصين بشكل أساسي، وينصب في الوقت ذاته (أفخاخا من الديون) للبلدان التي تستفيد من قروض تمنحها المصارف الصينية وتضر بالبيئة، فيما عبر بيتر بروكس، الباحث في مؤسسة (هيريتيج)، “إن الصين لا تحاول التوسع وتصدير منتجاتها للعالم وإنشاء البنى التحتية اللازمة فحسب، بل أن الصين تريد أن تصبح القوة الأعظم في العالم”.
لكن الصين تؤكد أن المبادرة تشمل مجموعة مشاريع تخدم البيئة وقابلة للاستمرار ماليا دون فساد، فقد أسست الصين صندوقاً استثمارياً برأس مال بمليارات الدولارات لتمويل المشاريع الممتدة على طول طريق الحرير الجديد، التي جاءت بعنوان (طريق واحد وحزام واحد)، ليكون الطريق طريقاً للسلام ولم الشمل والتجارة الحرة.
وبالرغم من تحفظ بعض الدول من المشروع وتخوف دول أخرى إلا أن هنالك دول كثيرة تشجّع الربط العالمي للاستفادة من قدرات المارد الصيني في الصناعة والتكنولوجيا، وقد تحفظت ألمانيا وعارضت الهند هذا المشروع بينما استجاب مجموعة من الدول الأخرى لهذا الجسر العالمي البحري- البري العظيم واعتبرته المشروع العالمي الاستراتيجي، وبدأت دول أخرى تتسابق لحجز موقعها فيه، ومن أهم تلك الدول الداعمة: روسيا وبريطانيا وتركيا وباكستان وكازاخستان وإيران، ومن الدول العربية المرحبة الكويت والسعودية والإمارات والسودان، وهنالك تذبذب في القبول والرفض من قبل مصر لأنها تتوقع أن يفرض المشروع تحدياً لقناة السويس، وهنالك غياب لموقف دول سواحل شمال إفريقيا (دول المغرب العربي).
ومما تقدم، يظهر أن الجميع يحارب من أجل مكاسب ومنافذ تجارية جديدة، وأن المعارك التي لم تُحسم على الأرض امتدت ساحتها إلى جلسات التفاوض ما بعد الحروب، وذهبت بعض الحروب إلى ساحات العمل الاقتصادي والخطط التجارية والعمل النووي والبيولوجي، وأن الجميع يسعى بإنشاء نقاط محورية في العالم تشتمل على موانئ ومناطق لوجستية ومحطات طاقة ومدن صناعية كبرى، في سبيل الإستفادة جيوسياسياً بالتمركز في مناطق ربط هامة بين القارات مما يتيح لها أدوارا أكبر مستقبلاً.
رابط المصدر: