مقدمة
في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، استيقظ العالم على حدث صادم اهتزت معه المفاهيم العسكرية والمسارات السياسية والمعايير الفكرية والقيمية للنظام العالمي، ووضعت العالم أمام احتمالات صدام عسكري غير محدود الأفق ربما يأخذ النظام العالمي إلى توازنات جديدة ستكون نتائجها في هذا النظام أكبر من نتائج المواجهة الروسية – الأطلسية في أوكرانيا التي لم تتمخض بعد عن نتائج واضحة في الحسم. حدثٌ يبدو في ظاهره عملية عسكرية محدودة لحركة حماس وقوى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة تجاه المستوطنات والمراكز العسكرية الإسرائيلية المحيطة بشمال القطاع الواقعة في داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948.
هذا في ظاهر الحدث، فماذا عن خلفيات الحدث ونتائجه وتداعياته وأبعاده والمقاربات المتصارعة فيه؟
أولاً: خلفيات عملية الطوفان
منذ تحرير قطاع غزة من الاحتلال الإسرائيلي في أيلول/سبتمبر 2005 تحول القطاع إلى البؤرة والقاعدة الرئيسية للمقاومة الفلسطينية المسلّحة ضد إسرائيل، كون القطاع يمثل منذ عام 2005 المساحة الفلسطينية الوحيدة المحررة من الاحتلال الإسرائيلي، لذا فهي تمثل ذروة التناقض والمواجهة بين المشروع الصهيوني وبين القضية الفلسطينية.
وفي هذا السياق تأتي عملية طوفان الأقصى لتعبّر عن انسداد الكثير من الآفاق أمام القضية الفلسطينية وعن تعرض هذه القضية لعدوان إسرائيلي متدحرج يقضم شيئًا فشيئًا أرض الشعب الفلسطيني وحقوقه على نحوٍ يقضي مع الوقت على أي فرصة لاستعادة هذا الشعب ولو جزءًا من حقوقه، بعدما وصل مشروع السلطة الفلسطينية والمسار السلمي لإقامة دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي المحتلة عام 1967، أو بعضها، إلى طريق مسدود ولم يبق أمام الشعب الفلسطيني إلا خيار المقاومة كطريق فاعل لاستعادة حقوقه. من هنا توجد مجموعة عوامل تقف خلف إطلاق المقاومة هذه العملية، من أبرزها:
1 – مأزق المسار السلمي الذي دخلت منظمة التحرير الفلسطينية فيه عبر اتفاقية أوسلو.
2 – حصار غزة وتضييق الخناق حول أهلها.
3 – تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى.
4 – استمرار التحاق بعض الدول العربية في مسار التطبيع.
5 – تصاعد التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية.
6 – تصاعد أزمة ملف الأسرى.
كل هذه العوامل تشير إلى انغلاق كل السبل أمام التوصل إلى أي حل عادل للقضية الفلسطينية عبر المفاوضات، فإسرائيل عمليًا أسقطت كل الفرص والاحتمالات للتوصل إلى تسوية للقضية الفلسطينية يستعيد الشعب الفلسطيني معها أي حق من حقوقه التاريخية، سواء عبر حل الدولتين أو عبر حل الدولة الواحدة، وبالتالي هي تعتمد سياسة القضم المتدرِّج بهدف ضم كل الأراضي التي تحتلها في المنطقة، سواء في فلسطين أو في سورية ولبنان، والعمل على تهجير أو قتل من تبقى من الشعب الفلسطيني أو السوري في هذه الأرض، وهذا ما يعبِّر عنه صراحة بعض أطراف الائتلاف اليميني المتطرف في الحكومة الإسرائيلية.
ثانيًا: النتائج
لم تكن نتائج هذه العملية اعتيادية على الساحة الإسرائيلية، فأول مرة في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي تدور المعركة داخل الأراضي المحتلة عام 1948، أي داخل الكيان الصهيوني، وهي لم تكن معركة بين جيشين متوازيين من النواحي الهيكلية والتسليحية والتكنولوجية والمعلوماتية والتدريبية… بل دارت بين فرقة عسكرية لدولة إقليمية تمتلك أحد أقوى الجيوش في العالم وبين مجموعات مسلحة لدى مقاومة شعبية تحريرية. وقد استطاعت هذه المجموعات، التي لم يتجاوز عددها الألف مقاتل، مهاجمة مواقع الفرقة 643 التي تتولى حصار غزة، والتي يبلغ عدد عناصرها نحو عشرين ألف جندي، والمجهزة مواقعها بكل تقانات المراقبة والاستطلاع والإنذار المبكر والتجسس والتنصت؛ فاستطاعت هذه المجموعات من المقاومة الوصول إلى كل مواقع هذه الفرقة والاشتباك مع العناصر الموجودة فيها وإسقاط معظمهم بين قتيل وجريح وأسير، معتمدة تلك المجموعات خطة عسكرية معقدة متداخلة التخصصات العسكرية، التي تشمل الرصد والاستطلاع والتشويش وتعطيل شبكات التصوير، والهجوم جوًا وبرًا وبحرًا، على مواقع تبعد من حدود غزة آلاف الأمتار، في عملية فائقة السرية عجزت كل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية عن كشفها مسبقًا.
وقد أسفرت العملية ميدانيًا، بحسب تقديرات غير نهائية، عن مقتل أكثر من 1400 إسرائيلي بين جندي ومستوطن، وجرح أكثر من 4000 آخرين، فضلاً عن أسر ما لا يقل عن 250 إسرائيلياً معظمهم من الجنود. أما الأهم من ذلك، فقد غيَّرت المعركة إسرائيل في الصورة والمعنى والوظيفة، فلم تعد إسرائيل تلك الدولة القوية القادرة على الدفاع عن نفسها وحماية مواطنيها وعلى ردع كل من يفكر مجرد تفكير في إيذائها، وبالتالي لم تعد ذلك المكان الآمن للمهاجرين اليهود ولا للسياحة والاستثمار، والأهم من كل ذلك أن إسرائيل لم تعد تلك القلعة الحصينة المنيعة التي تحمي مصالح الغرب الإمبريالي في منطقة الشرق الأوسط أو دور الشرطي المكلف بتأديب أي دولة أو نظام أو طرف سياسي يتجرأ على مخالفة الولايات المتحدة والغرب في المنطقة. وبالتالي ما حدث في عملية طوفان الأقصى مثَّل تهديدًا وجوديًا لهذا الكيان – القلعة ووظيفته التسلطية الإمبريالية في المنطقة.
كل ذلك يفسر رد الفعل الهستيري الذي انتاب الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية على عملية طوفان الأقصى، متبنِّية نزعة عنصرية وسردية مبنِّية على الأكاذيب وحاشدة قواتها العسكرية البحرية في المنطقة بهدف تدمير حماس ولجم أي طرف آخر في المنطقة يحاول الدفاع عن غزة وأهلها ومقاومتها، مشرِّعة لإسرائيل ارتكاب كل جرائم الحرب والإبادة الجماعية ضد أهل غزة.
ثالثًا: التداعيات
ربما لم يعرف العالم حدثًا أمنيًا صادمًا بهذه القوة منذ عام هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 كحدث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، على الرغم من اختلاف المشهدين بين الطابع الاستشهادي وغلبة الأهداف المدنية في الأول مقابل الطابع المقاوم والمواجهة الحية وغلبة الأهداف العسكرية في الثاني، فضلًا عن الفارق الأهم وهو أن الحدث الأول وقع في عقر دار العدو لا في أرض المعركة، في حين أن الحدث الثاني وقع في ميدان الصراع وفي أرض محتلة وضد عدو يحتل هذه الأرض.
لكن هذه الاختلافات الجوهرية بين الحدثين لم تكن كافية لدى أطراف متعددة في العالم، وبخاصة في الغرب، لاتخاذ موقف موضوعي تجاه حدث طوفان الأقصى، فبُنيت المواقف الغربية وغيرها من المواقف المنحازة للغرب وإسرائيل، على سردية تقوم على الأكاذيب التي روجها رئيس الحكومة الإسرائيلي وتبناها الرئيس الأمريكي، رغم عدم قدرة هذه السردية على الصمود طويلًا وعلى خداع الرأي العام العالمي، إذ ما لبثت وقائع الصورة الحية أن كذّبتها، لكن من دون أن تؤثر في صراع المقاربات الذي حكم المواقف من تلك العملية ومن الخيارات المطروحة للرد عليها.
1 – التداعيات على الصعيد الإسرائيلي
ذهبت إسرائيل عقب الاستفاقة من الصدمة إلى أقصى الحدود في رد فعلها على عملية طوفان الأقصى، مخرجة من جعبتها كل النزعة العنصرية التي تحكم الرؤية الصهيونية للعرب والمسلمين، وكل المشاريع المبيّتة تجاه الشعب الفلسطيني ومقاومته وأرضه، القاضية باقتلاع وترحيل من تبقى من هذا الشعب في أرضه، أو قتله. وهكذا بدأ تنفيذ مشروع اقتلاع أهل غزة من أرضهم، بنزعة انتقامية دموية تتخطى كل المعايير القانونية والإنسانية في سلوكها الإنتقامي من المدنيين، وبخاصة الأطفال والنساء، وفي جموحها التدميري لكل معالم الحياة. فبدأت الحرب على غزة عبر الحصار الخانق، الذي شمل قطع المياه والوقود والمواد الطبية وجميع المواد الغذائية والحياتية الأخرى، وعبر القصف التدميري بمختلف أنواع الأسلحة والقنابل، بما فيها القنابل المحرّمة دوليًا التي سارعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى تزويدها بها عقب عملية طوفان الأقصى.
وضعت إسرائيل لحربها ضد غزة هدفًا واضحًا: تصفية حماس والمقاومة وتهجير من بقي حيًا من سكان القطاع إلى سيناء. لكن هذا الهدف لا يزال يصطدم بعدة عوائق:
أولها: عدم امتلاك إسرائيل القدرة العسكرية على تصفية حماس وغيرها من فصائل المقاومة الفلسطينية الموجودة في غزة، فالبنية التحت أرضية للمقومات الدفاعية لدى المقاومة، بما تضمه من شبكة أنفاق وأسلحة متنوعة غير معروفة لإسرائيل، تحول دون قدرة الجيش الإسرائيلي على القيام بهجوم بري لـ «تصفية» حماس والمقاومة كما تقول. وهذا ما دفع الولايات المتحدة إلى المجيء إلى «إسرائيل» بآلاف الأطنان من الأسلحة والقنابل ذات القدرات الاختراقية والتفجيرية الهائلة، وبمئات الجنود والضباط ذوي الخبرة في حروب المنطقة كالحرب في العراق، وفي أسلحة الدفاع الجوي، مثلما جاءت بحاملات طائراتها وبوارجها الحربية، لقيادة المعركة بنفسها ضد غزة وكل من يتدخل لحمايتها. ومع ذلك، ورغم مرور نحو ثلاثة أسابيع على عملية طوفان الأقصى، لا تزال الحرب البرية شبه يحكمها التردد رغم كل الحشود العسكرية الكثيفة التي قام الجيش الاسرائيلي بها في محيط غزة، مخافة الانزلاق الى مواجهة لا تقدر إسرائيل ولا الولايات المتحدة على التحكم في قواعدها.
ثانيها: أن الولايات المتحدة الأمريكية التي تدير الحرب ضد غزة فشلت في انتزاع موافقة من الأنظمة العربية الصديقة لها، وبخاصة أنظمة مصر والأردن والسعودية، على تهجير من يبقى حيًا من أهل غزة إلى سيناء المصرية، لا بدافع قومي عربي، بل بدافع قومي قطري، أي حفاظًا على الأمن القومي المصري، أو الأمن القومي الأردني، أو الأمن القومي السعودي.
ثالثها: عدم توافق الدول الكبرى، الشرقية والغربية، بما فيها الدول الداعمة لإسرائيل في سعيها لتصفية حماس والمقاومة في غزة، على تفريغ غزة من أهلها.
2 – التداعيات على الصعيد الفلسطيني
بقدر ما كانت عملية طوفان الأقصى مفاجئة وصادمة لمختلف الأطراف على الساحة العالمية، بمن فيهم المقاومة الفلسطينية نفسها، التي لم تكن تتوقع مسبقًا النتائج التي حققتها العملية وهذا الانهيار الكاسح لفرقة غزة في الجيش الإسرائيلي وحالة التخبط والتضعضع التي دخلت إسرائيل بها عقب العملية… كانت ردود الفعل الإسرائيلية والأمريكية والغربية اللاحقة على العملية مفاجئة أو صادمة أيضًا.
ففي ذروة شعور المقاومة ومحورها وجمهورها العربي بطعم الانتصار وجدت المقاومة الفلسطينية نفسها فجأة تنتقل من موقع الهجوم إلى موقع الدفاع بعدما امتصت إسرائيل آثار الصدمة الأولى وتلقت جرعات لامحدودة من الدعم الأمريكي والغربي للانتقال من موقع الدفاع الضعيف إلى موقع الهجوم القوي، ولتنتقل قواعد اللعبة بالتالي من مستوى اشتباك بين طرفين غير متناظرين، أحدهما جيش دولة إقليمية قوي والآخر فصائل مقاومة شعبية ما دون الدولة، إلى مستوى حرب منعدمة التناظر بين طرفين هما تحالف جيوش هي من أقوى الجيوش في العالم وأكثرها تسليحًا، كمًّا ونوعًا، وبين تلك الفصائل من المقاومة الفلسطينية المحصورة على مساحة سطحية من الأرض لا تتجاوز الـ 365 كيلو متر مربع.
رابعًا: صراع المقاربات
نحن إذًا أمام مشهد سوريالي قل نظيره في تاريخ الحروب. مقاومة شعبية، تكافح من أجل فك الحصار عن شعبها ومن أجل تحرير أرضها المحتلة منذ أكثر من سبعة عقود، وتمتلك أسلحةً جزءٌ منها بدائي وصناعة يدوية، لكنها تمتلك إرادة القتال وحسن التدريب والتخطيط والتنظيم، لأنها صاحبة حق وإرادة، تجتمع عليها أقوى جيوش الأرض دفاعًا عن غاصب محتل. لماذا، لأن هذه المقاومة استطاعت أن تكسر هيبة جيش هذا المحتل وتهدد دوره الوظيفي في حماية مصالح تلك القوى الكبرى وبالتالي تهدد استمرارها في السيطرة على العالم.
هنا، في هذا المشهد السوريالي للحرب الدائرة في غزة اليوم، المفتوحة على غير احتمال، يتجلى صراع المقاربات، صراع بنتائجه يتحدد مستقبل النظام العالمي الجديد.
المقاربة الأولى هي التي يحملها الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، التي تمثل إسرائيل إحدى قواعدها العسكرية في العالم، وهي مقاربة تقوم على مفاهيم القوة والسيطرة والتفوق الثقافي والعنصري وعلى النهب الاقتصادي، وفق رؤية أوروبية التمركز تجد مرجعيتها في بعض روافد الفكر الغربي التنويري والحداثي الرأسمالي، وهي تسقط معها مفاهيم وقيم الحق والعدالة والمساواة أمام سطوة القوة والهيمنة ولو عبر إنتاج واقع مزيف تحدد معالمَه السردياتُ الكاذبة التي تفرض نفسها بكتابة التاريخ وصناعة الوعي الافتراضي المعولم.
والمقاربة الثانية، هي مقاربة التحرر من الظلم والفقر والغلبة والتبعية، ومقاومة الاحتلال، والبحث عن نظام يحترم التنوع والحق في الاختلاف الثقافي والحضاري وحق الشعوب في اختيار نماذجها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، والاستفادة من ثرواتها الطبيعية والبشرية.
ربما لن تقرر الحرب في غزة مستقبل الصراع بين هاتين المقاربتين، لكن هذه الحرب تندرج من دون شك في سياق هذا الصراع بين المقاربتين، وهي تساهم في بلورة الحدود بينهما، وفي انكشاف زيف وظلم المقاربة الأولى حتى في عقر دارها.
ومهما كانت مسارات الحرب ونتائجها الميدانية، فإن هذه الحرب قد بدأت تُحدث تحولات في مسار الصراع بين المقاربات، وهي تحولات سيتقرر في ضوئها الوجه الجديد للعالم.
.
رابط المصدر: