طي الصفحة.. محفزات عودة العلاقات الدبلوماسية بين مصر وتركيا

محمود قاسم

 

انتقلت العلاقات المصرية التركية نقلة نوعية، وخطا البلدان خطوة أخرى في مسار استعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما بصورة كاملة، بعدما أعلنا في بيانين منفصلين يوم (4 يوليو 2023)، عن رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي بينهما لمستوى السفراء. وقد رشحت مصر السفير “عمرو الحمامي” كسفير لها في أنقرة، فيما رشحت تركيا السفير “صالح موتلو شن” كسفير لها في القاهرة.

وقد شهدت التفاعلات المصرية التركية خلال الفترة الماضية حراكًا دبلوماسيًا وزخمًا غير مسبوق، انتقل بالعلاقة بين البلدين من مرحلة الاستقطاب الحاد والتضاد في المواقف والرؤى إلى مرحلة من التهدئة والانفتاح الرامية إلى تعزيز المصالح المشتركة، وبحث مسارات التعاون وحلحلة القضايا الخلافية فيما بينهما. دلل على ذلك تأكيد وزيري خارجية البلدين (11 يونيو) خلال اتصال هاتفي أهمية استمرار مساعي تطوير العلاقات بينهما، سبق ذلك زيارة وزير الخارجية التركي السابق مولود جاويش أوغلو (مارس 2023) إلى القاهرة، وزيارة وزير الخارجية المصري “سامح شكري” إلى أنقرة (أبريل 2023)، حيث دشنت هاتان الزيارتان مرحلة مغايرة بين البلدين، خاصة أنها الأولى –على هذا المستوى- منذ عقد من الزمن.

انفتاح مُتدرج

بدا مؤخرًا من تحركات البلدين أنهما عازمان على توظيف الزخم والحراك القائم بينهما في استعادة العلاقات الدبلوماسية وعودتها إلى مسارها الطبيعي كما كانت عليه قبل عام 2013، ما يجعل عودة التمثيل الدبلوماسي الكامل وتبادل السفراء بينهما نتيجة طبيعة لجهود اختبار المصالحة بين البلدين خلال الفترات الماضية، وتعبر كذلك عن عزم البلدين تحقيق أكبر قدر من المكاسب على خلفية عودة العلاقات الدبلوماسية، بما يخدم مصالح الطرفين بوصفهما من القوى الإقليمية المؤثرة والتي تمتلك التأثير على التفاعلات القائمة في المنطقة. ويأتي ذلك في ضوء التطور والانفتاح التدريجي الذي شكل مجمل التفاعلات بين البلدين خلال السنوات الماضية. الأمر الذي لا يستبعد معه قيام الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” بزيارة للقاهرة خلال العام الجاري.

والمتابع لمسار تطور العلاقة بين تركيا ومصر، يلاحظ أن رغبة أنقرة في دفع العلاقات للأمام كانت أكثر وضوحًا مقابل حذر القاهرة وحاجتها لاختبار جدية ونوايا تركيا، حيث بدأت تركيا مغازلة القاهرة عبر أحاديث عدد من المسؤولين عن أهمية مصر ودورها الإقليمي، ما دلل على رغبة تركيا في طي صفحة الخلاف مع القاهرة، الأمر الذي استدعى معه إجراء بعض الترتيبات والاتصالات التي أفضت إلى عقد جولتين من المباحثات الاستكشافية في مايو وسبتمبر 2021، قبل أن يعلن وزير الخارجية المصري في أكتوبر 2022 توقف المباحثات على خلفية عدم وجود أية تغير في السياسة الخارجية التركية خاصة تجاه الملف الليبي.

ورغم تعثر المباحثات في تلك المرحلة، وعدم قدرتها على إنجاز أية تفاهمات، فإن التواصل بينهما لم ينقطع، بل إن المباحثات الاستشكافية قد أسهمت –على أقل تقدير- في تجاوز الشكوك وحالة اللا يقين التي سيطرت على العلاقة بين البلدين طيلة العقد الماضي. ووسط حالة الجمود وتعثر المباحثات، جاءت نقطة التحول خلال مصافحة الرئيس التركي لنظيرة المصري في افتتاح كأس العالم في قطر، عزز ذلك الزيارة التي قام بها وزير الخارجية المصري فبراير2023 إلى تركيا لتقديم التضامن في أعقاب الزلزل الذي ضرب البلاد، وعليه فقد كانت دبلوماسية المدرجات والكوارث الطبيعية كفيلة بدفع مسار التطبيع مرة أخرى إلى الأمام وبخطوات سريعة، أفضت إلى الزيارات المتبادلة على مستوى وزيري خارجية البلدين، وصولًا إلى تهنئة الرئيس السيسي لنظيره التركي رجب أردوغان في اتصال هاتفي يوم 29 مايو 2023 بفوزه في الانتخابات الرئاسية التي جرت في البلاد.

اعتبارات محفزة

ثمة اعتبارات حفزت البلدين لتسريع خطوات التقارب وعودة العلاقات الدبلوماسية بينهما، بعضها ارتبط بمصالح الطرفين، والبعض الآخر دار في فلك التحولات التي يشهدها العالم والإقليم خلال الفترات الماضية، الأمر الذي يمكن الوقوف عليه على النحو التالي:

أولًا) حالة الاصطفاف الإقليمي: فرضت معادلة التنافس الدولي وسياسات القوى الكبرى تجاه المنطقة ما يمكن وصفة بــ “لحظة الإقليم”، حيث وجدت القوى الفاعلة والمؤثرة في الإقليم أن المشهد الراهن يقتضي تهدئة التوترات القائمة بينها، وصياغة شكل جديد من الاصطفاف بين الفاعلين، يرتكز على فكرة إدارة الصراعات وتحييد الخلافات؛ لتحقيق أكبر قدر من المصالح المشتركة. هذا التعاون الإقليمي من شأنه أن يحد من مستوى الصراعات القائمة، ما يُعزز من ثمار السلام الإقليمي الذي يعود بالفائدة على الجميع. من هنا يمكن فهم التهدئة الإقليمية ومحاولات التقارب النشط التي سيطرت على تفاعلات دول المنطقة، والتي بدأت باتفاق العلا 2021، مرروًا بالتهدئة التركية الخليجية، واستعادة العلاقات بين الرياض وطهران، وبحث تسوية الخلافات بين مصر وتركيا، ومساعي إدماج سوريا في محيطها العربي.

ثانيًا) الحسابات السياسة للنظام التركي: لا تنفصل رغبة تركيا في تحييد خلافاتها مع القاهرة عن مجمل حركتها الخارجية ومساعيها لتصفير المشاكل مع دول الجوار، وقد يكون هذا التوجه مدفوعًا بحسابات النظام الحاكم في تركيا، حيث وظفت المعارضة التركية طيلة السنوات الماضية حالة العداء والقطيعة مع مصر وما فرضته السياسة الخارجية لأردوغان من عزلة وقيود على تفاعلات تركيا كورقة ضغط يمكن أن تؤثر على الرئيس التركي في ولايته الجديدة، خاصة أن المعارضة التركية كانت تنظر إلى النظام الحاكم بوصفه المسؤول عن تأزم العلاقات مع القاهرة لصالح حسابات ضيقة لا تراعي مصالح الدولة. من هنا يمكن فهم رغبة الرئيس التركي في بدء ولايته الجديدة عبر تعميق علاقاته مع مصر بما يحقق مكاسب على الصعيد السياسي، ويحول دون قيام المعارضة بتوظيف قطع العلاقات مع مصر ضده مستقبلًا.

ثالثًا) الحاجة الاقتصادية المتبادلة: رغم استمرار العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين في ظل القطيعة الدبلوماسية، فإن تسوية الخلافات واستعادة الدفء من شأنها أن تنقل العلاقات الاقتصادية والتجارية لمربع أكثر تقدمًا، بما يساعد في الحد من تأثيرات تفاقم الأوضاع الاقتصادية التي فرضتها المتغيرات الدولية؛ إذ توقعت تقديرات تركية زيادة حجم التبادل التجاري بين البلدين خلال الفترات القادمة إلى 15 مليار دولار، وكان التبادل التجاري قد بلغ 7.7 مليار دولار عام 2022، ما يعني أن عودة العلاقات السياسية يمكن أن تضاعف من معدلات التجارة البينية، الأمر الذي ينعكس بالإيجاب على الطرفين.

تفاهمات حتمية

لا شك أن عودة العلاقات الدبلوماسية والوصول إلى مرحلة التطبيع الكامل بين القاهرة وأنقرة كانت ناجمة عن إدراك وتفهم كل طرف لحاجة الطرف الآخر من استعادة العلاقات. وعليه يرجح أن تشهد المرحلة القادمة قيام الطرفين بالتوصل إلى تفاهمات حول عدد من القضايا التي ظلت عالقة ومحلًا للخلف فيما بينهما قبل عودة العلاقات، وفي هذا الإطار يمكن الوقوف على منظور كل طرف وتطلعاته على النحو التالي:

أولًا) فك الارتباط بالإخوان، بوصفه أحد المطالب الرئيسة التي تسعى مصر إلى إنجازها، خاصة أن تركيا ظلت لسنوات ملاذًا لقيادات وعناصر جماعة الإخوان. ورغم أن تركيا اتخذت بعض الإجراءات مؤخرًا لتحجيم وتطويق النشاط الإخواني المعادي لمصر في تركيا، فإن هذا الملف لا يزال يحمل عددًا من التعقيدات، لعل أبرزها الموقف النهائي من القيادات الصادرة بشأنها أحكام ومطلوبة للقضاء في مصر.

ومن المحتمل في هذا الصدد أن تتخذ تركيا إجراءات أكثر صرامة مع الإخوان، وذلك في ضوء جملة من الاعتبارات، لعل أبرزها قيام تركيا بإعادة حساباتها فيما يتعلق بالرهان على الإخوان والذي اختلف كثير خلال العقد الماضي؛ فبعدما كان تمكين الإخوان في الإقليم ضمن استراتيجية تركيا بعد أحداث 2011 وجزء من سياستها الخارجية، تراجع هذا الرهان واصطدم بواقع جديد فرضته حالة السقوط والتهاوي الإقليمي للجماعة وتراجع نفوذها في كافة الدول التي سعت إلى فرض نفوذها فيها. وعليه يُعتقد أن ملف الإخوان سيكون من أيسر الملفات التي سيتم التفاهم بشأنها، رغم أنه كان جزءًا أساسيًا في تعقيد التفاهم طيلة السنوات الماضية.

ثانيًا) إدماج تركيا في معادلة الغاز الطبيعي، تستورد تركيا أكثر من 90% من احتياجاتها من الطاقة، وعليه قد تجد في التقارب مع مصر فرصة للاندماج تحت مظلة منتدى غاز شرق المتوسط، كمدخل لتحقيق أكبر قدر من المنفعة، خاصة أن أنقرة لا تعد شريكًا أو طرفًا في أغلب الترتيبات أو التفاعلات الجماعية في منطقة شرق المتوسط. إلا أن عملية الاندماج قد تكون مشروطة، وتحتاج إلى مراجعة تركيا لموقفها من القانون الدولي للبحار، والتخلي عن سياسة الأمر الواقع والعسكرة التي شكلت مجمل تحركاتها تجاه شرق المتوسط خلال السنوات الماضية. وقد تقود عملية التهدئة إلى بحث صيغة ما لدمج تركيا في تفاعلات المنطقة، إلا أن ذلك لن يكون على حساب العلاقات الراسخة التي تشكلت بين مصر وقبرص واليونان من جهة، ومصر ودول منتدى غاز شرق المتوسط من جهة أخرى.

ثالثًا) التعاطي مع الأزمة الليبية، ظلت ليبيا إحدى ساحات الاشتباك بين الطرفين، حيث مثلت مواقف الطرفين المتضادة في الأزمة الليبية تحديًا أمام إنضاج وتسريع عملية التطبيع خلال الفترة الماضية، حيث تمسكت مصر بضرورة سحب تركيا قواتها العسكرية من ليبيا، الأمر الذي لم تتعاط معه أنقرة بقدر من المرونة بحيث تُبقي هذه القضية لحصد مكاسب أو تنازلات من قبل مصر في ملفات أخرى. رغم ذلك يمكن أن تصب عودة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين البلدين في اتجاه تهدئة التوترات في ليبيا، خاصة في ظل بروز العامل الإقليمي وتأثيره على التفاعلات الليبية، وقدرة الطرفين على دفع مسار التسوية وعملية الانتقال السياسي للأمام؛ نظرًا إلى قدرتهما على التأثير على الأطراف الداخلية المنخرطة في المشهد. وقد بدت خلال الفترات الماضية حالة الانفتاح المصري التركي على كافة الأطراف في ليبيا، الأمر الذي قد يسمح بعقد تفاهمات وإقناع الأطراف المنخرطة في الأزمة في تسويتها بما يعزز مصالح الجميع ويضمن الأمن القومي المصري.

في الأخير، يحقق التقارب التركي المصري مكاسب عدة للطرفين، وينقل العلاقة بينهما إلى حقبة جديدة من التعاون بما يتجاوز حالة الاستقطاب في السنوات الماضية، ويمكن أن يزيد ذلك من فرص التنسيق والتعاون بين الطرفين في قضايا وترتيبات الأمن الإقليمي.

 

.

رابط  المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/78314/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M