محمد علاء الصافي
كل شيء استثنائي في هذا العام، حتى موسم عاشوراء الامام الحسين (عليه السلام) مر بأجواء استثنائية قد لا تتكرر، حيث يشهد العالم استمرار ازمة جائحة كورونا وتهديدها للبشرية جمعاء، والتي فرضت قيودا كبيرة على حركة وتجمعات البشر واتخاذ نمط حياة مقيد ومختلف.
الموسم العاشورائي الاستثنائي شهد حضورا لافتا جداً لشعارات الاحتجاجات المستمرة في العراق منذ قرابة العام، عبر مواكب عزاء حسينية خرجت في معظم مدن وسط وجنوب العراق تشكو مظلومية اهل البيت عليهم السلام، وتطالب بتحقيق مطالب الاحتجاجات الاساسية من كشف قتلة المتظاهرين واكمال قانون الانتخابات الممهد لانتخابات مبكرة ترسم ملامح التغيير وبدء مرحلة جديدة، بعد الوصول لحالة الانسداد السياسي والتقاطع شبه التام مع الطبقة السياسية الحالية.
تصدرت مواكب العزاء والمجالس الحسينية، صور الشهداء الذين سقطوا خلال الاحتجاجات وما رافقها من عمليات اغتيال وقنص للكثير من الناشطين والمحتجين من قبل جهات مجهولة او اشتباك مع القوات الأمنية دون كشف نتيجة التحقيقات في هذه الجرائم حتى الآن.
المجالس الحسينية كذلك شهدت لغة جديدة طابعها سياسي، رافضة ومقاطعة للطبقة السياسية ومواضيع مركزة عن الفساد والتظاهرات والثورة، ورثاء شهداء انتفاضة تشرين، بل حتى جرائم الاغتيال بالكواتم!
الكثير من المشاركين الذين نراهم هذه الأيام في المجالس الحسينية، لا يحملون نفس النظرة والفهم والتعامل مع القوى السياسية كما كانوا يحملوها بعد العام 2003، تغيرت الصورة كثيراً. كان المشهد غامضاً حينها ويحمل معه أمراض حقبة الاستبداد والكبت، يا ترى هل يستطيع أي سياسي عراقي في موسم الزيارات أن يذهب ويقدم الطعام والخدمات لزوار الحسين (ع) في هذه السنة تحديدًا؟
بعض الخطباء كان يجمّل الخراب والفشل، ويدعو إلى تقبله مهما كان، طالما ان النظام يسمح بإقامة المجالس الحسينية ويرفع كلمتنا عالياً وكأنما هي منَة يتفضلون بها على الناس بعد حرمانهم منها أبان العهد الدكتاتوري!!
لكن المجالس الحالية (في معظمها)، نجد الخطباء يتحدثون بلهجة وخطاب مختلف، يوجه بصورة مباشرة للسياسيين وللحكومة، لا نريدكم ان تتحدثوا بالحسين وأهل بيته وشعارات المذهب والصراعات مع الآخر لأنكم كاذبون، دعونا نرى كلامكم بالخدمات وتوفير فرص العمل وإعادة حقوق الناس والشهداء وعوائلهم والواجبات التي قصرتم بها تجاه الشعب، وماذا قدمتم.
بالتأكيد أن هذا الخطاب لم يأتِ من الفراغ، بل جاء نتيجة تراكمات تحققت بعد خيبات وويلات وتقصير صارخ بالواجبات تجاه الشعب العراقي واهل الوسط والجنوب على نحو خاص، المنبر الناجح، هو الذي يعمل على تحريك الأحاسيس والعواطف وتوجيهها نحو الخير والصلاح والتغيير والإصلاح والحرية، حتى تكون واعية وموجَّهة، واستخلاص العبر من الماضي وربطه بالحاضر وهذه هي رسالة المجالس الحسينية.
عاشوراء وروح الثورة والعطاء والتربية الحسينية هي من تبقي جذوة الثورة مشتعلة في القلوب والعقول، نهضة الإمام الحسين (ع) بدأت وقامت ضد الفساد أولا، وهدفت إلى تغيير هذا الواقع المكبّل بالفساد، واستمرت إلى يومنا هذا على هذا المنوال، لأنها نهضة انتصرت ولا زالت تنتصر للإنسان، وترفض إلحاق الظلم به، وتردع كل من تسوّل له نفسه التعدّي على حقوق الإنسان، ولذلك خرج الحسين (ع) ضد يزيد لكي يغير الواقع الفاسد ويضع حدا له، فما أحوجنا اليوم إلى نهضة حسينية تجتث الفساد من الجذور، وإعادة القيم والتعاليم الإسلامية إلى سابق تأثيرها إبان الرسالة النبوية، وفي عهد الإمام علي عليه السلام، حيث العدل، العفو، الإنصاف، التقوى، التعاون، التسامح، التكافل وغيرها.
ثقافة عاشوراء والثورة الحسينية هي الهوية الشاملة لشباب العراق المنتفضين اليوم بكافة توجهاتهم، متديناً كان أم غير متدين، تجمعهم بوصلة فكرية واحدة هي الحسين عليه السلام.
المواكب الحسينية مثلا، انتجت لنا شبابا يحبون خدمة وطنههم ومجتمعهم ومستعدون للتضحية والايثار تحت أي ظروف ويفتخرون بذلك، التصدي لخطر داعش ومعركة الإرهاب ودعم المقاتلين كان معظمه من هذه المواكب، الثبات في ساحات الاعتصام ودعم ومساندة المنتفضين في معركة الإصلاح كان في معظمه من هذه المواكب، ومساعدة الناس في الازمة الاقتصادية والصحية بسبب جائحة كورونا كان من هذه الشريحة بشكل كبير.
من يحضر المجالس الحسينية الآن، لا بد أن يكون واعياً متسلحاً بالحقوق، حراً قولاً وفعلا. يتحرَّر من أَنانيّته ومصالحهِ الخاصة الضيِّقة فلا يحمي فاسداً ولا يُبرِّر لفاشل ولا يهتِف للص، يُحب لأَخيهِ ما يُحبُّ لنفسهِ فيُدافع عن كرامةِ الآخرين كما يُدافع عن كرامتهُ، ويحمي حريَّات الآخرين وآراءهُم كما يحمي حريته وآراءه، يلطم ويبكي على مصيبة الحسين واهل بيته عليهم السلام ويبكي على اخوته في الوطن من أبناء الحسين من المظلومين في العراق أيضًا، ويلعن قتلة الحسين من بني أمية ويلعن القتلة المعاصرين لمنهج وفكر الامام الحسين، الذين افسدوا وقتلوا الأبرياء دون وجه حق، فقط لأنهم قالوا “نريد وطن”، ولأنهم طالبوا بأبسط حقوقهم في العيش الكريم.
ما حدث في تشرين وما بعده ليس شيئاً عادياً، بل لم يشهد العراق طوال تاريخه المعاصر احتجاجا بهذا الحجم، المرجعية الدينية تنبهت لذلك منذ البداية، وحذرت الطبقة السياسية من تجاهله عبر بياناتها، “وإذا كان مَنْ بيدهم السلطة يظنّون أنّ بإمكانهم التهرّب من استحقاقات الإصلاح الحقيقيّ بالتسويف والمماطلة فإنّهم واهمون، إذ لن يكونَ ما بعد هذه الاحتجاجات كما كان قبلها في كلّ الأحوال، فليتنبّهوا الى ذلك”.
لا بد أن يفهم القائمون على العملية السياسية في العراق دون استثناء وكل الجماعات التي تحميهم، أنهم مجبرون على الرضوخ وإصلاح أنفسهم واحزابهم، لأن ممانعة التغيير السلمي وفق المنهج الديمقراطي ستؤدي بنا الى الفوضى والسيناريوهات المظلمة.
رابط المصدر: