عالم ملتهب: قراة في مؤشر السلام العالمي 2024

أطلقت النسخة الـ18 من مؤشر السلام العالمي (GPI) من مؤسسة الأبحاث الدولية معهد الاقتصاد والسلام (IEP) في 11 يونيو 202، والذي يصنف 163 دولة وإقليمًا وفقًا لمستوى السلام فيها، مُقدمًا تحليلًا شاملًا مستندًا إلى عدة بيانات تكشف عن اتجاهات السلام عبر ثلاثة مجالات هم؛ مستوى السلامة والأمن المجتمعيين، ومدى الصراع المحلي والدولي المستمر، وأخيرًا درجة العسكرة، وذلك وفق 23 مؤشرًا نوعيًا وكميًا.

اعتمد التقرير في دراسة اتجاهات السلام العالمي عبر ثلاث مجالات وفق 23 مؤشرًا مقسمة إلى مؤشرات كمية ونوعية، حيث يتم تقييم كل مؤشر من مستوى 1 إلى مستوى 5. أول هذه المجالات: هو الصراع المحلي والدولي، استنادًا إلى 6 مؤشرات إحصائية، لدراسة مدى تورط الدول في الصراعات الداخلية والخارجية، وما تلعبه من دور.

أما بالنسبة للمجال الثاني فيُقيم مستوى السلام والأمن المجتمعين، استنادًا إلى 11 مؤشر؛ منها عدد النازحين داخل الدولة ومستوى الجريمة ونشاط الإرهاب، بينما تقوم 6 مؤشرات أخرى بتقييم القدرات العسكرية للدول وقدرتها على تحقيق التوازن بين الحشد العسكري وتطوير ترسانة أسلحتها وحفاظ الدولة على سلميتها، منها مؤشرات قياس الإنفاق العسكري للدول كنسبة مئوية من الناتج المحلي الاجمالي، وعدد ضباط الخدمة العسكرية، وحجم المساهمات المالية في بعثات حفظ السلام الأممية، وهو ثالث المجالات الرئيسية لدراسة اتجاهات السلام العالمي.

ولقد اعتمد التقرير في نسختة الحالية مؤشرًا جديدًا في قياس القدرات العسكرية للدول، يتمثل في دراسة كمية ونوعية الأصول العسكرية، بالإضافة إلى الخبرة القتالية والاستعداد القتالي، عبر أربع فئات من الأسلحة: الطائرات ذات الأجنحة الثابتة، والطائرات ذات الأجنحة الدوارة، والأصول البحرية، والمركبات المدرعة، ناهيك عن دراسة مدى التطور التكنولوجي العسكري، وما اعتمدته البلدان من أنظمة تسليح أكثر تطورًا من الناحية التكنولوجية.

أوضح مؤشر السلام العالمي لعام 2024، أن هناك 56 صراعًا نشطًا، وهو عدد أكبر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مع تسجيل انخفاض في عدد الصراعات التي انتهت بانتصار حاسم من 49% في السبعينيات، إلى 9% في العقد الأول من القرن الـ21، بينما انخفض عدد الصراعات التي انتهت باتفاقيات سلام من 23% إلى 4% خلال الفترة نفسها. مع انخراط 92 دولة في عدد من الصراعات الخارجية، باتت الصراعات أكثر تدويلًا، مدفوعًا بحالة التنافس بين القوى الكبرى والقوى المتوسطة الصاعدة، وهو ما أدى إلى تعقيد عمليات التفاوض من أجل التوصل إلى سلام دائم.

علاوة على ذلك، أوضح المؤشر إلى أن انخراط مجموعة من القوى المتوسطة مثل مصر وجنوب أفريقيا وتركيا وإسرائيل في الشئون العالمية استنادًا إلى سعيها نحو الانخراط في شبكة تفاعلات مع القوى العظمي، ولعب دور في عدد من الملفات والقضايا الدولية والإقليمية، يؤسس لنظام دولي متعدد القطبية على نحو متنامي، بينما يفضل العديد من دول الجنوب العالمي العزوف عن الاصطفاف مع القوى العظمى

أوضح مؤشر السلام العالمي 2024 تدهور مستوى السلام العالمي بنسبة 0.56%، مع تسجيل تراجع حالة السلام في 97 دولة، وهو رقم أعلى من أي عام منذ إنشاء مؤشر السلام العالمي في عام 2008، كما أن الصراعات في غزة وأوكرانيا كانتا المحرك الرئيسي لتراجع السلام العالمي، في حين أن الصراع في غزة كان له تأثير كبير على السلام العالمي.

تظل أيسلندا الدولة الأكثر سلمية في العالم، وهو المركز نفسه الذي حصلت عليه في النسخة الأولى من المؤشر، يليها أيرلندا والنمسا ونيوزيلاند، وسنغافورة. وعلى النقيض، صُنفت اليمن بالدولة الأقل سلمية في مؤشر السلام العالمي لعام 2024، يليها السودان وجنوب السودان وأفغانستان وأوكرانيا.

أما على مستوى الأقاليم، تُعد أوروبا المنطقة الأكثر سلمية على مستوى العالم، والتي تضم 8 دول من إجمالي 10 دول أكثر سلمية حول العالم. بل إن المنطقة حافظت على تصنيفها كالمنطقة الأكثر سلمية على مستوى العالم منذ إصدار مؤشر السلام العالمي، بينما سجلت منطقة آسيا والمحيط الهادئ تدهورًا طفيفًا في مؤشر السلام العالمي لعام 2024، مع تراجع تصنيفها في مؤشر السلام بنسبة 0.1%، والذي يرجع لتدهور المنطقة في مجال العسكرة بنسبة 2.4 %، وتسجيلها زيادة طفيفة في مؤشر الصراع بنسبة 1.6%، في حين سجلت المنطقة تحسنًا في مجال السلامة والأمن نتيجة تسجيلها تحسنًا في مؤشرات التظاهرات العنيفة وجرائم القتل.

لكن في المجمل، لا تزال تُصنف المنطقة بثاني أكثر المناطق سلمية على مستوى العالم، وهو المركز الذي لا تزال تُحافظ عليه منذ العام 2017؛ حيث سجلت 11 دولة من أصل 19 تدهورًا، مع تسجيل 8 بلدان فقط تحسنًا في تصنيفها في مؤشر السلام العالمي. وتُعد نيوزيلندا الدولة الأكثر سلمية في المنطقة وتحتل المرتبة الرابعة عالميًا في مؤشر السلام العالمي لعام 2024. على الجانب الآخر، صُنفت كوريا الشمالية بالدولة الأقل سلمية في المنطقة منذ إنشاء مبادرة السلام العالمية، مع تسجيلها رابع أسوأ تدهور داخل المنطقة في 2023، مدفوعًا بزيادة في مجال العسكرة، باعتبارها واحدة من أكثر الدول تسليحًا في العالم، حيث حصلت على أعلى درجة ممكنة في الأسلحة النووية والثقيلة، والنفقات العسكرية، ومؤشرات معدل أفراد الخدمات المسلحة، يليها ميانمار.

وتُصنف منطقة جنوب آسيا بثالث أقل المناطق سلمية في مؤشر السلام العالمي لعام 2024، متقدمة في ذلك على منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى فقط، وذلك مع تسجيل 4 دول من إجمالي 7 دول في المنطقة تدهورًا في مؤشر السلام وهو ما يتعلق بشكل رئيسي بالتراجع الكبير في مجال العسكرة وانخفاض المدفوعات اللازمة لتمويل عمليات حفظ السلام الأممية، وزيادة الإنفاق العسكري. وتُعد بوتان الدولة الأكثر سلمية في منطقة جنوب آسيا، بينما صُنفت أفغانستان بالدولة الأقل سلمية في منطقة جنوب آسيا.

ولقد سجلت منطقة أمريكا الوسطى والبحر الكاريبي تدهورًا بشكل طفيف في مؤشر السلام العالمي لعام 2024، بنسبة 0.17 %، وأن من إجمالي 12 دولة في المنطقة، سجلت نحو 5 بلدان تسحنًا، بينما تدهور مؤشر السلام في 7 بلدان مقارنة بالعام 2023؛ حيث كان الانخفاض العام في مؤشر السلام مدفوعًا إلى حد كبير بالتدهور الكبير في الصراعات الخارجية التي تم خوضها والصراعات الداخلية، وكذلك في مقياس الإرهاب السياسي، حيث تكافح العديد من بلدان المنطقة مع التأثير المستمر لمستويات عالية من الجريمة المنظمة والاضطرابات المدنية.

ولقد صُنفت كوستاريكا التي تحتل المرتبة 58 في مؤشر السلام العالمي 2024، بالدولة الأكثر سلمية في المنطقة، على الرغم من تسجيلها انخفاضًا وتدهورًا كبيرًا في مؤشرات جرائم العنف والمظاهرات العنيفة وجرائم القتل. على الجانب الآخر، فلقد صُنفت هايتي ولأول مرة بالدولة الأقل سلمية في المنطقة، كما احتلت المرتبة الخامسة في قائمة البلدان الأقل سلمية على مستوى العالم؛ وذلك نتيجة تسجيلها زيادة كبيرة في جرائم العنف والمظاهرات العنيفة وجرائم القتل.

أما أمريكا الشمالية )كندا والولايات المتحدة(، فسجلت أكبر تدهور من أي منطقة في مؤشر السلام العالمي لعام 2024، لتسجيلها تراجعًا في مجالات المؤشر الثلاثة، لا سيما في مجال الصراع، مع انخفاض متوسط ​​مستوى السلامة والاستقرار في المنطقة بنسبة تقل قليلًا عن 5%. ومع ذلك، على الرغم من هذا التدهور، فإنها تظل ثالث أكثر المناطق سلمية على مستوى العالم، بعد أوروبا وآسيا والمحيط الهادئ.

ولقد سجلت أمريكا الجنوبية ثاني أكبر انخفاض في مؤشر السلام العالمي لعام 2024، مع تدهور متوسط ​​مستوى السلام بنسبة 3.6%، مع تسجيل 7 دول من إجمالي 11 دولة تراجع في مؤشر السلام؛ نتيجة تسجيل هذه البلدان تراجعًا في مؤشرات الصراع وجرائم القتل والإرهاب السياسي، بينما سجلت 3 دول تحسنًا محدودًا، في حين حافظت واحدة على مستواها. ومع ذلك صُنفت المنطقة بخامس أكثر المناطق سلمية على مستوى العالم، كما تُعد الأرجنتين الدولة الوحيدة في أمريكا الجنوبية التي تم تصنيفها بين أكثر 50 دولة سلمية في العالم، في حين صُنفت كولومبيا بالدولة الأقل سلمية في أمريكا الجنوبية للعام الرابع على التوالي.

وسجلت منطقة روسيا وأوراسيا أكبر تحسن مقارنة بأي منطقة أخرى في مؤشر السلام العالمي لعام 2024، مع تحسن متوسط ​​مستوى الهدوء في المنطقة بنسبة 0.6%، مع تسجيل 4 دول من إجمالي 12 دولة في المنطقة تحسنًا في مؤشر السلام، بينما سجلت 8 دول تراجعًا. وفي المجمل، لا تزال مستويات السلام العامة في المنطقة منخفضة للغاية، بسبب الحرب الأوكرانية التي تظل القضية المحورية والمهيمنة في هذه المنطقة.

أما بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فقد صُنفت بالمنطقة الأقل سلمية في العالم للسنة التاسعة على التوالي، حيث تُصنف 4 دول من بينهم السودان واليمن من إجمالي 10 دول الأقل سلمًا على مستوى العالم في منطقة الشرق الأوسط، بينما لا تزال التوترات مستمرة خلال العام 2024. وتُعد الكويت الدولة الأكثر سلمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مع احتلالها المرتبة الـ25 الأكثر سلمية على مستوى العالم، وواحدة من ثلاث دول في المنطقة التي تُصنف من بين أكثر 50 دولة سلمية عالميًا. وعلى النقيض صُنفت اليمن بالدولة الأقل سلمية في المنطقة، بل والدولة الأقل سلمية على مستوى العالم في مؤشر السلام العالمي لعام 2024 للمرة الأولى.

تسببت عملية طوفان الأقصى، والحرب الإسرائيلية على غزة، في انخفاض مؤشر السلم في منطقة الشرق الأوسط بشكل رئيسي، لا سيما أن استمرار وجود حركة حماس في شمال غزة يُثير الشك حول قدرة إسرائيل على تأمين المنطقة أو حتى القطاع على حماس، رغم ما سببته الحرب من أزمة إنسانية حادة في القطاع، وهو ما يعكس غموضًا واسعًا حول مستقبل الحرب التي تراجع تصنيف المنطقة في مؤشر السلام العالمي بشكل كبير مع اندلاعها.

ولقد أوضح المؤشر أن تورط إيران ولبنان وسوريا واليمن في الحرب الإسرائيلية على غزة، وضع منطقة الشرق الأوسط في أزمة كبيرة، وجعلها على اعتاب حرب مفتوحة، لا سيما أنه سبق وأن هاجمت إسرائيل وإيران بعضهما بعضًا، ونزح 100 ألف إسرائيلي من شمال إسرائيل بسبب ضربات حزب الله الذي يمتلك نحو 100 ألف – 150 ألف صاروخ، كما يُهاجم الحوثيون السفن في البحر الأحمر، وهو ما يُثير المخاوف من اتساع دائرة التصعيد بين إسرائيل ودول أُخرى في المنطقة بما في ذلك مصر ولبنان وسوريا والأردن.

أما بالنسبة لتصنيف مصر في مؤشر السلام العالمي، فلقد سجلت مصر تطورًا إيجابيًا في المؤشر باحتلالها المرتبة الـ105، وتحقيقها تقدم ملحوظ بـ16 مركز، مقارنة بالعام 2023 الذي احتلت فيه القاهرة المرتبة الـ121، على الرغم من أنها إحدى القوى الإقليمية المنخرطة في الشئون العالمية ولكن على نحو إيجابي في سبيل استعادة الأمن والسلام والاستقرار.

أما بالنسبة لمنطقة أفريقيا جنوب الصحراء، فلقد سجلت المنطقة ثاني أقل المناطق سلمية على مستوى العالم في مؤشر السلام العالمي 2024 بعد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث تضم المنطقة 3 من الدول العشر الأقل سلمية في العالم في ضوء ما تواجهه من أزمات مركبة ومتزامنة أمنية وسياسية، أبرزها تمدد الإرهاب، حيث أن لبوركينافاسو أعلى تأثير إرهابي على مستوى العالم، كما أن خمسة بلدان من إجمالي 10 دول الأعلى تأثرًا بالإرهاب تقع في أفريقيا جنوب الصحراء . وتُعد موريشيوس الدولة الأكثر سلمية في المنطقة للعام الـ17 على التوالي، كما أنها الدولة الوحيدة في المنطقة التي لم تُشارك في أي صراعات خارجية أو داخلية على مدى السنوات الخمس الماضية، بينما تُعد جنوب السودان الدولة الأقل سلمية في المنطقة، في حين سجلت إثيوبيا أكبر تحسن في السلام في المنطقة عقب توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في تيغراي. وعلى النقيض من إثيوبيا، سجلت الجابون أكبر تدهور في السلمية في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا، وثالث أكبر تدهور في أي بلد.

سجل مجال العسكرة (Militarisation) أكبر تدهور في مؤشر السلام العالمي، حيث انخفض في المتوسط بنسبة 1.7%. وكان هذا أكبر تدهور سنوي للعسكرة منذ إصدار المؤشر عام 2008؛ فمن بين 163 دولة في مؤشر التقدم العالمي، سجلت 108 دول تدهورًا في هذا المجال، في حين كان الإنفاق العسكري المحرك الرئيسي لزيادة العسكرة؛ حيث قامت 86 دولة بزيادة الإنفاق العسكري، بينما سجلت 50 دولة انخفاضًا في إنفاقها العسكري.

يشير نظام التسجيل العسكري الأول من نوعه الذي يركز على دراسة الاختلافات التكنولوجة العسكرية، إلى أن القدرات العسكرية الأمريكية أعلى بثلاث مرات من الصين، بينما سجلت الأخيرة أكبر زيادة في القدرة العسكرية من بين القوى العسكرية الكبرى، في حين سجلت فرنسا وروسيا انكماشًا طفيفًا. وبشكل عام، زادت القدرة العسكرية العالمية بنسبة 10% منذ العام 2014، على الرغم من انخفاض عدد الأفراد العسكريين؛ حيث سجلت القوات المسلحة على مستوى العالم تحولًا كبيرًا من الاعتماد على المشاة إلى الاعتماد على أسلحة أكثر تطورًا، عقب تخفيض 112 دولة معدل أفرادها العسكريين خلال الفترة (2008 – 2024).

تُعد الخسائر الاقتصادية أحد التداعيات/ الآثار الناجمة عن نشوب الصراعات والحروب والأحداث العنيفة، وما يتطلبه من إنفاق للحد منها أو منعها أو معالجتها والتي تُعرف بـ”الأثر الاقتصادي العالمي” الذي يأتي في صورة الإضرار بممتلكات وأصول أو أضرار جسدية أو أضرار نفسية، والتي قد ينجم عنها تغيير في السلوك الاقتصادي إثر الحد من الميل إلى الاستثمار والإنفاق على الأنشطة الإنتاجية، وتوجيه المصروفات نحو معالجة واحتواء الصراعات والحوادث العنيفة.

ويتكون الأثر الاقتصادي العالمي من ثلاثة مكونات أساسية تمثل الطرق المختلفة التي يؤثر بها العنف في النشاط الاقتصادي، هي (التكاليف المباشرة، والتكاليف غير المباشرة، والأثر المضاعف). تشمل التكاليف المباشرة لكافة أنماط العنف والصراع العواقب المباشرة على الضحايا والجناة والأنظمة العامة، بما في ذلك الصحة والسلامة القضائية والعامة، بينما تُشير التكلفة غير المباشرة إلى التكاليف طويلة الأجل مثل الإنتاجية المهدرة الناجمة عن الآثار الجسدية والنفسية وتأثير العنف في تصور السلامة والأمن في المجتمع. أما الأثر المضاعف فيعبر عن الفوائد الاقتصادية نتيجة توجيه الإنفاق إلى بدائل أكثر انتاجية.

ولقد أوضح مؤشر السلام العالمي ارتفاع الأثر الاقتصادي العالمي للعنف إلى 19.1 تريليون دولار في عام 2023، أو 2380 دولارًا للشخص الواحد، وهو ما يمثل 13.5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وهذه زيادة قدرها 158 مليار دولار، مدفوعة إلى حد كبير بزيادة قدرها 20٪ في خسائر الناتج المحلي الإجمالي بسبب الصراع، وهو ما يُشكل خطرًا كبيرًا على سلسلة التوريد للحكومات والشركات، كما بلغ إجمالي الإنفاق على بناء السلام وحفظ السلام 49.6 مليار دولار، وهو ما يمثل أقل من 0.6% من إجمالي الإنفاق العسكري. ولقد تم تسجيل أكبر زيادة للأثر الاقتصادي للعنف والصراعات في فلسطين وإسرائيل، بعدما زاد الأثر الإجمالي بنسبة 63% و 40% على التوالي.

علاوة على ذلك يُمثل الإنفاق العسكري والأمن الداخلي أكثر من 74% من إجمالي الأثر الاقتصادي للعنف، بينما تُمثل النفقات العسكرية وحدها 44% من إجمالي الأثر، بما يُعادل 8.4 تريليونات دولار. ومن ثَمّ، تؤثر الحروب والصراعات بشدة في الاقتصاد العالمي وقد تؤدي إلى ركود عالمي. فعلى سبيل المثال، انكمش الاقتصاد السوري بنسبة تزيد على 85% بعد بداية الحرب الأهلية في عام 2011، وانكمش الاقتصاد الأوكراني بنسبة 29% في العام الذي أعقب اندلاع الصراع في عام 2022.

على مدار 16 عامًا، بات العالم أقل سلمية، مع تراجع 17 مؤشرًا من إجمالي 23 مؤشرًا من مؤشرات السلام العالمي، أبرزها المؤشرات المتعلقة بالنزاعات الخارجية والداخلية التي خاضتها الدول، وعدد اللاجئين والنازحين والمظاهرات العنيفة، والتي على إثرها تم تسجيل 110 ملايين شخص إما لاجئين أو نازحين داخليًا بسبب الصراعات العنيفة، بينما تستضيف 16 دولة الآن أكثر من نصف مليون لاجئ.

 ومع ارتفاع عدد النزاعات والصراعات حول العالم، وما أسفر عنها من لجوء ونزوح، وعدد قتلى خلال العقدين الماضيين، اتجه مؤشر السلام العالمي 2024 لدراسة كيف تغيرت الحروب والنزاعات في القرن الـ21؛ حيث تُظهر الحرب الأوكرانية والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة حجم التكلفة البشرية الهائلة الناجمة عن الحروب، كما أنهما يعكسان تعقيدات الحروب الحديثة. ولقد أوضح مؤشر السلام العالمي أن هناك اتجاهين رئيسيين لتغير الحروب في القرن الـ21؛ أولهما: التغيرات في التكنولوجيا العسكرية، وثانيهما: التنافس الجيوسياسي المتزايد، في حين أن انخراط الفواعل من غير الدول في حلبة الصراعات والحروب، إلى جانب استخدام أنماط جديدة من التسليح أبرزها الطائرات غير المأهولة أدى إلى تعقيد الصراعات والحروب وعرقلة محاولات تسويتها.

فلقد أوضح المؤشر أنه خلال الفترة ( 2018- 2023) ارتفع عدد الدول التي تستخدم الطائرات غير المأهولة من 16 إلى 40، بزيادة قدرها 150%، كما ارتفع عدد الفواعل من غير الدول التي ارتكبت هجومًا واحدًا على الأقل بطائرات غير مأهولة من 6 إلى 91، بزيادة قدرها أكثر من 1,400%. أما بالنسبة للتحولات الجيوسياسة ودورها في تعقيد جهود تسوية الصراعات، فإن تحول النظام العالمي من نظام أحادي القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب أدى إلى اشتداد المنافسة وطول أمد الصراع، لا سيما في ظل ما تواجهه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من ضغوطات تُحد من قدراتها على إدارة التوترات العالمية، بينما تتنافس القوي الصاعدة مثل روسيا والصين، والقوى الإقليمية المتوسطة نحو تأمين مصالحها ومناطق نفوذها في المناطق المتأثرة بالصراعات حول العالم.

إن ما قدمه مؤشر السلام العالمي لعام 2024 من نتائج عاكسة لاتجاهات السلام على مستوى العالم، استنادًا إلى مؤشرات كمية ونوعية، يعكس عدة نقاط محورية ذات أهمية بالغة؛ أولها: أن النظام العالمي بات في دور التحول من نظام أحادي القطبية بتفرد الولايات المتحدة في قيادته، إلى نظام متعدد الأقطاب تحاول العديد من القوى الصاعدة الدولية مثل روسيا والصين، والقوى الإقليمة المتوسطة مثل إيران إسرائيل ومصر – أن ترسخ قدمها كفواعل رئيسية في إدارة العديد من الأزمات والملفات الحيوية.

أما بالنسبة لثاني النقاط المستخلصة فتتمثل في أن بؤر الصراعات والحروب حتى وإن كانت محدودة النطاق، فهي مرشحة للاتساع والتفاقم مع تحول هذه المناطق لساحات للتنافس بين القوى الكبرى والصاعدة بين جناحها الشرقي (روسيا والصين) والغربي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وهو ما يُنذر بتفاقم عدد الصراعات والحروب المحتمل اندلاعها في المستقبل دخليًا وخارجيًا، بينما تُشير ثالث النقاط المستخلصة إلى أن تعدد الصراعات والحروب يرافقه ركود اقتصادي وأزمات إنسانية كالنزوح واللجوء وتراجع معدل الأمن الغذائي، وهو ما يفاقم في حدة ذاته الفجوة الاقتصادية والتكنولوجية بين الشمال ودول الجنوب العالمي، كما أنه يخلق دورات متجددة من العنف والجريمة والإرهاب، ستلقي بظلالها على دول الشمال العالمي، وهو ما ينجم عنه كذلك تفاقم فجوة السلام بين دول الشمال ودول الجنوب.

رابعًا: إن أحد العوامل الرئيسية المحددة لأنماط الحروب والصراعات هو تطور تكنولوجيا الحرب، وتطور أنماط التسليح، في ظل تخفيض الاعتماد على كثافة عدد الأفراد العسكريين، لا سيما أن انخراط الفواعل من غير الدول في مناطق الصراع والحروب، وامتلاكها أنماط تسليح متطورة يُساهم في تشكيل حرب غير متكافئة ولا متناهية.

خامسًا: إن الطائرات غير المأهولة باتت سلاح العصر الحالي، الذي تكمن خطورته في سهولة امتلاكه من قبل الدول والفواعل المسلحة من غير الدول، وتوظيفه في إدارة الحروب والصراعات وتوجيه مسارهما على نحو يخدم مصالحهما بما يهدد من سيادة واستقرار الدول ويُساهم كذلك في إعادة تشكيل نمط الحروب الحديثة.

سادسًا: هناك حاجة لتكثيف الجهود الدولية لتسوية العديد من الصراعات قبل أن تتحول لأزمات وحروب واسعة النطاق، لن تكون دول العالم بمعزل عنها، لا سيما أن دول الجنوب العالمي تواجه في الوقت نفسه تحديات مركبة اقتصادية وسياسية وأمنية وإنسانية تُنذر بتفاقم خطورة تراجع معدلات الأمن والاستقرار والنمو والتنمية، وتجعل منها بيئة مثالية لنشوب صراعات وحروب.

نهاية القول، العالم اليوم على صفيح ساخن مع تعدد الصراعات والحروب، واحتدام التنافس بين القوى الكبرى (روسيا والصين) والولايات المتحدة وأوروبا في عدد من الأقاليم ومناطق الصراع، بما في ذلك التسابق نحو تعزيز القدرات العسكرية وإدخال أنظمة تسليح حديثة واختبارها في مناطق الصراع بشكل يُساهم في بروز أنماط حديثة من الحروب، تؤثر سلبًا في مستويات السلام والأمن والاستقرار العالميين. علاوة على ذلك إن تعقيد شبكة التفاعلات الدولية مع تعدد القوى الدولية والإقليمية المنخرطة في مناطق الصراع وذات التأثير في عدد من الملفات الدولية والإقليمية المحورية يُعجل من ترسيخ نظام عالمي متعدد الأقطاب. ستكون منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء أحد ساحات هذا التنافس.

 

المصدر : https://ecss.com.eg/46775/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M