الأخبار عن الأنشطة النووية فى تصاعد لم يسبق له مثيل. فى كل يوم هناك جديد اخرها وأكثرها أهمية ودلالة نشر أسلحة نووية تكتيكية روسية فى بلاروسيا، وأخبار أخرى عن غواصة نووية هجومية مسيرة صنعتها كوريا الشمالية أنهت تجربة ناجحة، وصفقة غواصات نووية أمريكية وبريطانية ستُقدم لأستراليا، وأسلحة تحتوى على يورانيوم منضب سوف ترسلها بريطانيا إلى أوكرانيا وتؤيدها واشنطن، واكتشاف لجزئيات يورانيوم فى موقع إيرانى مُخصب بنسبة عالية تثير القلق وفقا للوكالة الدولية للطاقة الذرية، والعثور على براميل يورانيوم كانت مفقودة فى جنوب ليبيا.
مصادر الأخبار متنوعة من روسيا وكوريا الشمالية إلى أوكرانيا وإيران وليبيا ثم استراليا. المواقع الستة ذات تأثير كبير على الاستقرار العالمى والإقليمى، وتمس علاقات القوى الكبرى النووية المُعترف بها وفقا لمعاهدة منع الانتشار النووى. وهى القوى التى تأخذ على عاتقها نظريا منع جميع الدول من الحصول على أسلحة نووية، لكنها فى الآن ذاته تقوم بنشر القدرات النووية لمن تراهم قوى صديقة، أو لاعتبارات إستراتيجية تتعلق بمحاصرة من يتم وصفهم بمصادر تهديد أو تحديات جسيمة، أو خطر يتطلب القضاء عليه بأى صورة ممكنة.
الإجمال السابق هو جزء من عالمنا المضطرب، والمفتوح على تطورات درامية تزداد مؤشراتها فى كل لحظة. فإرسال أسلحة تحتوى على يورانيوم منضب، ثابت أنه يشكل خطرا جسيما على البيئة لعقود طويلة، ولا يفرق بين فرد يهجم وآخر يدافع، يشكل نموذجا مؤلما للاستخدام غير المسئول إنسانيا وقانونيا لمكون نووى خطير، يفترض أن يتم تخزينه فى أماكن آمنة لا تصل إليها أى أيد عابثة، ولكنه تم توظيفه وصنعه فى صورة صواريخ بهدف زيادة القدرة على اختراق دروع الدبابات والمدرعات. وحين يستخدم فى أوكرانيا لمواجهة الدبابات الروسية الحديثة، فقد يؤدى إلى تدمير بعضها، وفى الآن نفسه تدمير البيئة الأوكرانية نفسها لسنوات مقبلة، أرضا وبشرا وموارد طبيعية، سواء ما سيبقى فى أيدى روسيا أو ما قد تستطيع أوكرانيا استرداده.
السؤال المهم هنا ما هو الهدف الحقيقى الذى يدفع حلفاء أوكرانيا إلى الإضرار بها وبسكانها وبيئتها؟ وهل درس القادة الأوكرانيون العواقب الخطيرة لهذه الأسلحة ذات المكون النووى على أرضهم وجنودهم؟ ألم يسمعوا عن تأثير الأسلحة الفسفورية التى استخدمتها القوات الأمريكية ضد العراق فقتلت مئات الآلاف من العراقيين، وأصابت أيضا آلافا من الجنود الأمريكيين بأمراض خطيرة ليس لها علاج. إن تدمير بضع دبابات روسية لا يُقارن بالدمار الذى ستخلفه تلك الصواريخ ذات التأثيرات الإشعاعية فى الأرض والمحصول ومصادر المياه لسنوات وسنوات. والشىء بالشىء يُذكر، فاستخدام هذه النوعية من الأسلحة من قبل الناتو والجيش الأوكرانى لن يمر مرور الكرام، فروسيا أيضا لديها هذه النوعية من الصواريخ، وتطبيقا لمبدأ كل فعل ينتج عنه رد فعل، يصبح استخدام روسيا لتلك الصواريخ أمرا طبيعيا ومشروعا، ومع التوسع فى استخدام تلك الأسلحة من طرفى الحرب، سيؤدى الى مآس كبرى حتى بعد توقف القتال. وقد تنزلق الأمور إلى استخدام أسلحة نووية تكتيكية، ما سيجلب خرابا ودمارا موسعا، وردود فعل من الناتو، ما يجعل الحرب النووية واقعا مؤلما للبشرية كلها.المثير أن هذا التصور يشير إليه خبراء إستراتيجيون من الولايات المتحدة نفسها، ومع ذلك لا تهتم واشنطن بعواقب القرار البريطانى، بل تؤيده وتدافع عنه، وتقلل من قيمة التحذيرات الروسية، وتتمسك بأن تكون الحرب الأوكرانية الباب الملكى لاستنزاف روسيا، وإلحاق هزيمة إستراتيجية بها على المدى المتوسط، وهو ما تدركه القيادة فى موسكو، وقطعا لن تسمح بحدوثه.
لقد قرر الأوروبيون شراء مليون قذيفة دعما للجيش الأوكرانى، ولكنهم يصرخون ويهددون إذا حصلت روسيا على أسلحة من دول صديقة. فى العرف الغربى أن أى دعم لروسيا هو خطأ جسيم، لاسيما إذا جاء من الصين أو إيران أو أى طرف آخر. أما دعمهم السخى الذى يقترب من 100 مليار دولار لأوكرانيا بأسلحته ذات المكون النووى المشع، فهو سلوك حميد. تجاهل أن هناك حربا ضروسا وهجينة يشنها حلف الناتو ضد روسيا لا يعكس سوء نية وحسب، بل تشويها للواقع بهدف الاستفراد بروسيا، والإجهاز عليها متناسين أن روسيا هى البلد الأقوى نوويا فى العالم، وسوف تدافع عن وجودها بكل القدرات المتاحة لديها.
الرؤية الغربية حين تتعمد خلط الأمور بهذا الأسلوب المكشوف، فإنها فى الواقع تشكل مصدر خطر على البشرية كلها. ومن ذلك الاستخفاف بحق كوريا الشمالية فى الدفاع عن نفسها، وإرسال رسائل مضادة للتدريبات الأمريكية مع كوريا الجنوبية والموجهة أساسا لردع بيونج يانج، التى لم تجد سوى تطوير أسلحة نووية وقدرات صاروخية يمكنها أن تسبب دمارا هائلا لمن يهددونها. والثابت أن أسلوب الحصار والعقوبات القاسية وغياب المحفزات والتركيز على تدمير النظام فى كوريا الشمالية وإسقاطه، تمثل أسبابا وجيهة لبيونج يانج لتطوير قدراتها النووية التى تراها بمثابة الحائط المنيع الذى يحول دون زوال كوريا الشمالية. والمشكلة أن الخطأ البسيط فى الحسابات من أى طرف سوف يكلف الكوريتين معا وجيرانهما والعالم كله الكثير من المآسى الهائلة.
لا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لصفقة الغواصات النووية لاستراليا، التى تم ربطها أمريكيا وبريطانيا باحتواء ما يصفونه بالخطر الصينى، ولمنع بكين من تغيير الواقع الجيوسياسى لبحر الصين الجنوبى. وتأخذ التحركات الأمريكية طابعا استفزازيا متعمدا، كمرور فرقاطة أمريكية فى بحر الصين الجنوبى الذى يمثل للصين أهمية إستراتيجية كبرى، ما يدفعها إلى تطوير قدراتها العسكرية بأعلى مستوى ممكن فى الأسلحة والخطط. ومرة ثانية فإن أى خطأ بسيط فى الحسابات قد يقلب العالم رأسا على عقب.
نقلًا عن جريدة الأهرام 27 مارس 2023
.
رابط المصدر: