عبد الحميد الصائح
ليسَ عاماً فقط مرّ على رغبةِ العراقيين في أن يكونَ لهم وطنٌ طبيعي مستقلٌ يحظونَ فيه بكرامتِهم، ويتمتعونَ بثرواتِه في ظلّ سيادة القانون ومبدأ المواطنة الذي يعلو على الهويات الفرعية جميعها، فالعراقُ من تأسيسه حتى اليوم كانَ ضحيةَ أمواجٍ متقاطعةٍ من السياساتِ والحروبِ والتدخلِ الخارجي وتهميش الكفاءات الثقافية والسياسية والفكرية التي يزخر بها شعبه.
وظل هذا المطلب الجماهيري بين فئتين، فئة ساكتة أمام توحش الأنظمة، وفئةٍ تنادي بصوتٍ عال فتدفع الثمنَ من حياة الأحرار المدافعين عن بلادهم، العراق الذي شهد اعلى مراتب القسوة ضد معارضي انظمته الجائرة، قوافل من الشهداء والحركات الوطنية المقموعة التي تتعرض للتشويه والإبادة.
اذاً ليس عاما واحداً مرّ على (نريد وطن) الشعار الذي حلمَ به العراقيون طويلاً، لكن عنوان المقال الخاص هذا، يتصل باسطورة ثوار تشرين الشباب الأبطال، الذين قالوا (لا) وتصدوا ببسالة مذهله نيابةً عن جميع من سكنَ هذه الأرض المعطاء وظُلِمْ، ورفعوا شعاراً استفزازيا للعملاء والحرامية وتجار الدم وعبيد العقائد المتوترة الزاحفين بذريعتها لخدمة أجندات خارجية تتدخل في شؤون البلاد والعباد، وتوجّه بوصلتها حيثما شاءت، فبعدَ ثمانيةَ عشر عاماً من الفشل السياسي والفساد وغياب الأمن وضياع المستقبل الجماعي لشباب العراق، خرجوا في الأول من تشرين وفي الخامس والعشرين منه العام الماضي، ليسطّروا ملحمة الرفض الشامل للشخصيات والآليات التي حكمتْ هذا البلد، شبانٌ شاركوا في دحر الارهاب وقدموا اخوانهم وآباءهم شهداء على مذبح الحرية والاستقلال.
فاستُغلّتْ دماؤهم لدى جماعات مشبوهة قفزت الى الحياة السياسية بطرق ملتوية، وأخذت تتحكّم بالقرار الوطني وتَرهنُه بيد مراكز نفوذ خارجية، هؤلاء اجتمع فيهم يأسُ المواطن وأملُ الثائر، لينقلبوا على ذوي القربى من الحكام الفاسدين، فوُجِهوا باشد ما يوصف من القسوة، قتل مباشر واغتيال رخيص جبان واعتقال واغتصاب وتشويه وشيطنة، قاوموا الاسلحةَ الكاتمة بصدورهم، في غياب أي فعل محترم للدولة، وقف معهم اهل العراق جميعا بالدعم والمساعدة والدعاء في اضعف الايمان، ثورة للمرة الاولى تتشكل من جميع أطياف العراق ليس الاثنية والدينية بل الثقافية والفنية والفكرية والجماهيرية العاطفية العامة، ولذلك بقيت انتفاضة تشرين خالده ولم تنته رغم مامر بالعراق من ظروف صحية مفزعة ووضع سياسي مضطرب، خالدة من خلال المعاني التي أرستها، ففي الوقت الذي سُعِد الفاسدون والمجرمون فيه لأن الاحتياطات التي فرضتها جائحة كورونا خففت من التجمع الشعبي المكثف.
بقيَ فعل الانتفاضة فاعلا، وأخذ السياسيون يبحثون عن منفذ للاحتواء غير المجدي، أو الالتفاف الخائب على القيم التي كرّستها انتفاضة تشرين، واهمها انها أعلنت وأثبتت ان الطائفية والفئوية والكراهية والتحريض الذي كان وسيلةً لاسكاتِ الناس على الخطأ قد انكشفْ.
وأنّ ما يحدث هو معارضةٌ نوعية ضد المجرمين والدول التي تقف معهم، جميع الدول الملطخة بدماء وثروات العراق دون استثناء، كما قدّمت صورة للمرأة العراقية الكريمة الحديثة الحرة التي عملت طبيبة ومسعفة وثائرة، وأنّ القيم التي يحملها الشباب من الثورات والثقافة الدينية هي القيم الجوهرية ومنها قيم ثورة الامام الحسين ضد الظلم من أجل الحرية، وليس خطاب المخرّفين الذين يريدون اهانة الانسان الذي أمرت وصايا الديانات كافةً باحترامه واعلاءِ شأنه.
درسُ تشرين كان قوياً الى درجة أن السياسةَ العراقية صغرت أمامه، وان الحكومة العراقية المستقيلة والبديلة والكتل السياسية مختلفة فيما بينها، فهذا يكرم المتظاهرين وشهداءهم، وهذا يهين المتظاهرين ويقلل من شان ضحاياهم، لا توجد دولة واحدة ولاقرار وطني ولا رؤية ولاقوة محددة ولاقانون، وهذا بالضبط ماسببّه احراج ثوار تشرين وشهدائهم لهذه المجاميع السياسية غير المحترفة الراجفة الغبية التي تحكم العراق وتتحكم بمصيرة.
لهذا فان (نريد وطن) خلال هذا العام يختلف عن كل الآمال الباطنية والرغبات المستترة لأجيال العراق السابقة، رفعها ثوار تشرين ولن تنال من عليائها حتى يستعيد شعب العراق وطنه فعلا ، الاستقلال والعدالة والتقدم والكرامة الانسانية التي تعني منظومة طويلة من الواجبات والحقوق والعهد القانوني والاخلاقي بين المواطن والدولة .
هذه هي ببساطة الاسس التي انتجتها ورسختها تظاهرات تشرين، وجعلتها فاعلة في اي قرار رسمي، سواء بقي المتظاهرون في الساحات أم أجبرتهم الظروف الصحية على احترامها ومغادرتها، فتشرينُ حربٌ ثقافية وفكرية وشعبية بين دولة فاشلة، ولا دولة مجرمة، وبين شباب لن يرضى بغير الوطن، الوطن كاملا، مطلبا حتمياَ نهائياً له دون مساومة.
رابط المصدر: