عام على طوفان الأقصى

نتناول في هذه المقالة معركة “طوفان الأقصى” التي تقترب من إتمام عامها الأول والتي تعد الحرب الأطول في تاريخ الحروب العربية مع إسرائيل، وهي الحرب الأولى التي استطاعت المقاومة خلالها الدخول إلى المواقع الإسرائيلية وقتل وأسر هذا العدد الكبير من جنود ومستوطني الاحتلال، وهي الحرب الأولى في تاريخ المقاومة الفلسطينية واللبنانية زمنيًا وكفاحيًا من حيث الصمود المتواصل والاستمرار في القتال على الرغم من شراسة الحرب والاغتيالات للقادة والتدمير من قبل إسرائيل والغرب على غزة ولبنان.

ومما لا شك فيه أن الطوفان جاء بعد 76 سنة من ممارسات الاحتلال بالقتل والمصادرة والاستيطان والهدم والحصار المطبق على القطاع؛ وبعد الفشل الذريع لاتفاقية أوسلو التي مضى عليها أكثر من ثلاثة عقود من استغلال إسرائيل لنافذة الفرص السياسية المتمثلة في عملية تهويد القدس وضم الضفة، وفي المقابل أغلقت نافذة الفرص السياسية لمنظمة التحرير فلم تتمكن من إقامة الدولة الفلسطينية ولكن أبقت أوسلو على السلطة الفلسطينية “سلطة بلا سلطات”، وتنصلت إسرائيل من جميع التزاماتها تجاه الشعب الفلسطيني وسلبت أمواله وحملت السلطة أعباء احتلالها، مما ساعد على تهشيم منظمة التحرير التي تحولت من أم السلطة إلى بنت السلطة وضاقت النوافذ السياسية للمنظمة على المستوى المحلي الذي بدأ يشكك في مصداقيتها وقدرتها على تحقيق الحلم الفلسطيني في الحرية والاستقلال إلى حد إنها قبلت في تهميش ذاتها على جميع الصعد وصولًا إلى وجودها الشكلي حفاظًا على تمرير قرارات واستدعائها وقت الحاجة.

فعلى المستوى الإقليمي، تجاوزت الدول العربية منظمة التحرير، وبدأت تتعامل مع السلطة على أنها بديل عن قيام الدولة الفلسطينية، وأن السلطة يمكن تطويرها بحكم ذاتي يشبه الدولة المنزوعة السيادة، كما قامت الدول العربية بالتطبيع مع إسرائيل قبل إنهاء الاحتلال، وخالفت قرار قمة بيروت عام 2002، الذي نص على لا سلام مع إسرائيل قبل إنهاء الاحتلال، إلا أن الموقف الرسمي العربي كان باهتاً جداً ومازال.

أما على المستوى الدولي، فقد خفت نجم فلسطين وأصبحت مهمشة ومنسية وتقع تحت باب الوعود الإمبريالية الكاذبة بإقامة الدولة الفلسطينية، وهذا ما عملت عليه الإدارات الأمريكية المتعاقبة تجاه القضية الفلسطينية التي فتحت نافذة الفرص السياسية لإسرائيل من خلال شراء الوقت لتصفية القضية الفلسطينية وحتى وصل الحد في التآمر على تضحيات الشعب الفلسطيني، فالانتفاضة الأولى تم إنهائها من خلال اتفاقية أوسلو التي أوصلتنا إلى هذا الحال، والانتفاضة الثانية تم تصفيتها بالوعود الأمريكية بقيام الدولة الفلسطينية وتم تحديد عام 2005 من قبل وزير الخارجية كلون باول آنذاك؛ حتى جاء الرئيس دونالد ترامب بصفقة القرن التي أنهت ما تبقى من القضية الفلسطينية؛ فبعد ثلاثة عقود قامت إسرائيل بتحطيم جميع النوافذ السياسية أمام الشعب الفلسطيني وأوصلته إلى طريق مسدود، وقامت بتصفية السلطة وطنيًا وأبقت على التنسيق الأمني المشروط بوجودها.

كل ما سبق؛ دفع بحركة حماس إلى الطوفان لإعادة الحياة للقضية الفلسطينية، فعمل الطوفان على إغلاق نوافذ الفرص السياسية لإسرائيل وبنفس الوقت فتح النوافذ السياسية أمام القضية الفلسطينية، ومن هذا المنطلق سنناقش النوافذ السياسية المغلقة والمفتوحة بعد مضي عام من الصمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية واللبنانية، والقدرة على تأخير تمرير مشاريع تصفية القضية الفلسطينية.

أولًا، عطل الطوفان تقدم المشروع الصهيوني المدعوم من قبل الغرب لتصفية القضية الفلسطينية والوطن العربي، وسجل إنجازات عظيمة لحلف المقاومة الذي استطاع كسر عنجهية الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر فتم قهره في عقر معسكراته، وتم تسجيل نمط نوعي من أنماط المقاومة والشجاعة التي لم تكن متوقعة.

ثانيًا، كشف ومحاصرة أعداء المقاومة والمشككين بقدرات المقاومة الذين يقولون أن الطوفان لم يجلب سوى الإبادة والدمار، وكان يجب على المقاومة التفكير بقدرات إسرائيل وعدم الإقدام على هذه المعركة والبحث عن مسار آخر للنضال؛ على الرغم من أن إسرائيل على مدار احتلالها لفلسطين ولبنان وهي تقوم في المجازر والتدمير وأكثر من ذلك تم تدمير مشروع إقامة الدولة من خلال الاستيطان، وأن أعداء المقاومة يعلمون أن أي احتلال يعمل على قتل الشعب وسلب أرضه وهذا هو هدفهم، ولو عدنا إلى الجزائر التي كانت تطالب بالاستقلال وكيف تم قتل أكثر من مليون من أبناء الشعب الجزائري من قبل الاستعمار الفرنسي، الذي لم يترك لهم مجالًا غير النضال المسلح للتحرير وهذا ما حصل مع محور المقاومة.

ثالثًا، وأد الفتنة ما بين السنة والشيعة وتعطيل المخططات وعطب عجلات تسويق دعاية الفتنة والفراق، فبعد حرب الإبادة لغزة لم يقف معها غير حزب الله، والمقاومة الإسلامية في العراق، وأنصار الله في اليمن، وثلاثتهم من البيئة الشيعية، وهو ما شكل حاجزًا أمام أصحاب أجندات الفتنة فتم تحجيم تأثيرات الاختلاف المذهبي، وتراجع حدة الفتنة السنية الشيعية التي تم تغذيتها من قبل أجهزة المخابرات الأمريكية والغربية والعربية والإسرائيلية لعقدين؛ فدماء سماحة السيد حسن نصر الله فرضت تحالفًا ما بين السنة والشيعة ضد الاحتلال وقطعت الطريق على الفتنة وعلى كل من كان يروج بأن الشيعة يعملون مع إسرائيل، فلم تجد المقاومة الفلسطينية غير المقاومة الشيعية التي لم ولن تقبل بكل العروض الأمريكية والعربية لترك مساندة غزة على الرغم من الخسائر اللبنانية الفادحة، إلا أنهم اشترطوا وقف الحرب على غزة لوقف جبهات المساندة.

رابعًا، كشف الادعاء العربي الرسمي بالوقوف والدفاع عن فلسطين، فبعد مضي سنة على حرب الإبادة والتجويع وسقوط 42 ألف شهيد ومئة ألف جريح وتدمير القطاع والحرب المستعرة على لبنان التي حصدت أرواح المدنيين بالصواريخ الإسرائيلية، يمكن وصف الموقف العربي بالموقف المتآمر والمنتظر لعل إسرائيل تستطيع تخليصهم من حماس وحزب الله، وما جاء في خطاب بنيامين نتنياهو في 27أيلول/سبتمبر 2024، في الأمم المتحدة كشف الموقف العربي.

خامسًا، كشف الموقف الأمريكي والغربي وجميع المنظمات والهيئات الدولية التي تدعي حقوق الإنسان والحريات، فبعضها وقف عاجزًا عن قول الحق، والبعض الآخر وقف مع القاتل ضد المقتول والعديد منهم شارك في الحرب من حيث القتال والدعم العسكري والسياسي والقانوني والدبلوماسي بلا حدود -أمريكا وبريطانيا وألمانيا إيطاليا وفرنسا- فرفع الفيتو الأمريكي لأكثر من خمس مرات دليل قطعي على أنها لا تريد وقف الحرب وتريد لإسرائيل تسجيل النصر على المقاومة الذي لم ولن يتحقق بظل محور المقاومة؛ ولعل الضربة غير المسبوقة على الضاحية الجنوبية لبيروت فاقَ كل السوابق، بقنابل أمريكية بعد دقائق من خطاب نتنياهو في الأمم المتحد يؤكد أن نتنياهو لا يعير العالم الاهتمام لمعرفته أن العالم متآمر معه على المقاومة.

سادسًا، إحياء الأمل بالإفراج عن أسرى المؤبدات في السجون الإسرائيلية، فقضية الأسرى من القضايا المقدسة عند الشعب الفلسطيني والتي تتعمد إسرائيل معاقبة الأسرى بقتلهم وعدم القبول بالإفراج عنهم لمحاسبتهم على دورهم الوطني في المقاومة، فتم قتل المئات منذ سنة 1967، وحجز واعتقال جثامينهم في ثلاجات السجون؛ فكل ذلك دفع بالقائد الشيخ يحي السنوار والعديد من قادة حماس بالتعهد للأسرى بإطلاق سراحهم وفعلًا كان الوعد صادق من خلال حجز أكثر من مئتي رهينة إسرائيلية لإتمام صفقة تبادل.

سابعًا، الفشل الأمني واستقالات عدد من قادة الجيش والاستقالات التي سوف تحصل بالجملة بعد انتهاء الحرب؛ بعد أن واجهت إسرائيل فشلًا استخباريًا وعسكريًا وسياسيًا لهجوم “طوفان الأقصى” مثلما حدث في حرب 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973، فاستقالة اللواء يوسي شارييل رئيس وحدة “8200”، وإعلان رئيس أركان جيش الاحتلال هرتسي هاليفي عن نيته الاستقالة من منصبه على خلفية إخفاق الجيش، واستقالة رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية “أمان” أهارون هاليفا، وقائد “فرقة غزة” العميد آفي روزنفيلد ، واستقالةَ قائد القوات البرية، اللواء تامير يادعي، يعتبر زلزال ضرب المؤسسة الأمنية والعسكرية فكل ذلك جاء نتاج الإخفاق في منع هجوم “الطوفان” وتحقيق أهداف الحرب على غزة، ووفق القناة 12 العبرية، فإن جيش الاحتلال يواجه أزمة، بسبب ارتفاع طلبات الاستقالة في صفوف الضباط ورغبتهم في ترك الخدمة.

ثامنًا، وتتمثل في نافذة الفرص المتاحة لإسرائيل في اغتيال القيادات الفلسطينية واللبنانية والإيرانية السياسية والعسكرية الكبيرة وفي مقدمتهم سماحة السيد نصر الله والشيخ إسماعيل هنية والقائد محمد رضا زاهدي وغيرهم؛ ويجب الاعتراف بأن هذه الاغتيالات أحدثت زلزالًا وبالتحديد في لبنان بحجم القنابل الأمريكية الهائلة التي تم استخدامها في اغتيال سماحته، مما يؤكد على أن العديد من الأجهزة الاستخباراتية العالمية تتعاون مع إسرائيل ضد المقاومة. فالغرب وغيرهم يقاتلون مع إسرائيل من أجل إعادة فتح نافذة الفرص السياسية لإسرائيل لتسجيل نصر لها تعويضًا عن هزيمة السابع من أكتوبر؛ ولقد حققت إسرائيل نشوة في هذا المجال الذي لم تستطع تحقيقه منذ سنة؛ إلا أن هذه النشوة انتهت بعد الصواريخ التي أمطرت إسرائيل في الأول من أكتوبر 2024.

وعليه يبقى التساؤل الذي فرضته معركة الطوفان على المشككين في جدوى المعركة وعلى إسرائيل نفسها وعلى الغرب الذي كان ينظر لها على أنها هي الشرطي القوي الذي يحافظ على مصالحها في الشرق الأوسط، وفي النهاية على من كان يسعى لتشكيل تحالف مع إسرائيل من خلال المضي قدمًا في التطبيع معها وحتى التساؤل فرض على المقاومة التي لم تكن تتوقع تنفيذ الطوفان بكل هذه السرعة والسهولة وبلا مواجهة وتصدي من الجيش الأسطوري الذي هزم الجيوش العربية، وهل هو نفسه الذي احتل فلسطين وأجزاء من الدول العربية؟.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M