اعداد : سيف راجح سراج – المركز الديمقراطي العربي
المقدمة :
تميزت الخلافة الإسلامية بكونها سلطة سياسية ودينية وهي عبارة عن نظام حكم تفردت به الدولة الإسلامية عن غيرها من الدول، وشهدت تغيرات وتبدلات منذ عصر الراشدين حتى نهاية العثمانيين، وخلال تلك الفترة الطويلة تعرضت الخلافة الإسلامية إنهيارات وصراعات وانتقالات دموية ومراحل من الفتن العظيمة التي طالت الأمة الإسلامية، وهذه الفترات المضطربة أسهمت بدورها في ظهور شخصيات إسلامية استطاعت الارتقاء بفكرة الخلافة والقضاء على الاضطرابات التي تحيط بها، وتأسيس مراحل من السلام والازدهار الذي أسهم في الانتعاش الحضاري للدولة الإسلامية بقيت آثاره حتى اليوم ومن تلك الشخصيات انتقينا الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان والخليفة العباسي أبي جعفر المنصور بسبب التشابه الكبير بين شخصيتيهما القيادية وأدوارهما المحورية في مسار التاريخ الإسلامي.
فالأول هو مؤسس العصر الذهبي للخلافة الأموية، وقد ورث الخلافة منقوصة عن والده مروان بن الحكم الذي ورثها بدوره عن أسرة مؤسس الدولة الأموية معاوية بن أبي سفيان، بعد وفاة حفيده معاوية بن يزيد والذي كان قد تنازل عن الخلافة وأكد على عدم أهليته لها، بل وتزيد بعض المصادر لتذكر أنه انتقد مطامح جده وأبيه للخلافة وقال عنهما أنهما نازعا الأمر أهله، وهكذا فقد تسبب هذا التنازل عن اختلاف الفرق الإسلامية والتكتلات القبلية القرشية والعربية حول من أحق بالبيعة، ليعلن القرشي عبدالله بن الزبير نفسه خليفة للمسلمين في مكة والمدينة ويدعوا المسلمين لمبايعته وقد كاد أن يتم له الأمر، وقد تحير الأمويين حينئذ في كيفية الحفاظ على دولتهم وآثر بعضهم الوفود على ابن الزبير ومبايعته، لكنهم تلافوا امرهم ليختاروا أحد كبرائهم وهو مروان بن الحكم ويبايعونه خليفة للمسلمين وتقف الشام وقبائلها مساندة لهم.
في الوقت الذي سبق هذه الأحداث كان عبد الملك بن مروان يعيش حياته شابا متدينا متزهدا لا يفارق المسجد في المدينة، وظل على هذه الحال بعيدا عن معمعة السياسة حتى وفاة والده ومبايعته وريثا للخلافة الأموية، حينئذ خلع لباس الزهد والتدين، وارتدى عباءة الملك والسياسة التي لم يخلعها حتى مات، وتروي كتب التراث أنه في اليوم الذي دعي لمبايعته خليفة للمسلمين كان يقرأ في المصحف، فأتم قراءته وأغلق المصحف قائلا: هذا آخر عهد بيني وبينك. ثم اعتلى المنبر خطيبا في الناس، وقال ضمن خطبته: واعلموا انه بعد مقامي هذا لو سمعت أحد يقول لي اتق الله لضربت عنقه.
وهكذا بدأت مسيرة الخليفة الذي سيوحد الدولة الإسلامية تحت راية بني أمية، ويعرب دواوين الدولة بعد أن كانت بالفارسية ويصدر أول نقود عربية اسلامية بعد أن كان المسلمون يتعاملون بالنقود البيزنطية، ثم تعود في عهده مسيرة الفتوحات الإسلامية بعد أن خفتت في عهد يزيد بن معاوية، وتتأسس معه أول دولة عربية شكلا ومضمونا قلبا وقالبا.
أما الشخصية الثانية أبو جعفر المنصور والذي يعتبره المؤرخين المؤسس الحقيقي للدولة العباسية، فقد كان الخليفة العباسي الثاني وجاء وريثا لأخويه الداعي ابراهيم بن علي الذي مات في سجن الأمويين خلال الثورة وابو العباس السفاح الخليفة العباسي الأول صاحب المآثر المضمخة بالدم والنار وتدشين الإبادة العرقية الأولى في تاريخ الإسلام وهو أيضا الرجل الذي عرف بالسخاء والكرم والوفاء لزوجته الوحيدة، ليكون الخليفة العباسي الوحيد الذي لم يتخذ زوجات ولا أمهات أولاد ولا جواري، وقد خلفه في الحكم ابو جعفر المنصور الذي توضحت وترسخت في عهده معالم ومحددات الدولة العباسية.
وقد نشأ ابو جعفر وتربى في مرحلة افول العصر الأموي وبداية مرحلة الانهيار وشهد على إعلان الثورة التي انطلقت من خراسان براياتها السوداء ومبدأها الأول وهو البيعة للرضى من آل محمد، و كان ابو جعفر حينئذ قد وصل مرحلة الشباب وشارك في أحداث الثورة، وحارب مع أخويه ودعاتهم ونقبائهم تحت راية السواد التي حملها أبو مسلم الخرساني، لتنتهي الحرب بإعلان الدعوة العباسية ومبايعة ابراهيم بن علي خليفة للمسلمين، وقد تلكئ دعاة وقادة الثورة في مبايعته وحرصوا على اختيار أحد الطالبيين لكنهم بايعوه وقد تم سجنه من الأمويين فمات في سجنه مسموما قبل أن ينال الخلافة الحقيقية، وقد كان من المفترض أن يكون إبراهيم خليفة مؤقت حتى يتم التوافق على خليفة من آل علي بن أبي طالب وهو مالم يحدث فقد ورثها من بعده اخيه السفاح، الذي دشن حملة التنكيل بالأمويين حتى كاد أن يفنيهم عن آخرهم، ليسلم الراية من بعده لأخيه ابا جعفر الذي سيبدأ مرحلة الدولة الحقيقية وينهي المرحلة الانتقالية.
العوامل المؤثرة في تكوين شخصية الخليفة عبد الملك بن مروان: –
من الملاحظ أن كل من عبد الملك بن مروان وابو جعفر المنصور نشئا في مرحلة اضطراب سياسي، أو بالأحرى مراحل انتقاليه شهدت صراعات سياسية محمومة، ومن نافل القول ان هذه المراحل بالذات تخلق من النخب شخصيات استثنائية قوية وفاعلة ومؤثرة في صناعة القرار، وذلك باعتبار أن الأوقات الصعبة تنشئ رجال أقوياء، والرجال الأقوياء يصنعون أزمنة الرخاء، والرخاء يصنع رجال ضعفاء، والرجال الضعفاء يصنعون الأوقات أو الأزمنة الصعبة، بحسب متتالية ابن خلدون المشهورة، وهكذا فإن الخليفة عبدالملك بن مروان الذي يسمى أبو الخلفاء أو والد الملوك نشأ خلال مرحلة اضطرابات كبيرة عمت الأمة الإسلامية بدأت بإحداث الفتنة واستشهاد الخليفة الراشد عثمان بن عفان حيث يذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء أنه “شهد مقتل عثمان وهو ابن عشر سنوات”[1] وبالتالي فأنه شهد بداية الصراع بين علي بن ابي طالب ومعاوية ثم بين الحسن ومعاوية ثم بين يزيد والحسين بن علي، وما داخل ذلك من الفتن وظهور الفرق المتناحرة أبرزهم الخوارج، وبالتالي فقد ساهمت هذه الأحداث في تشكيل شخصية عبدالملك بن مروان والقت بظلالها على أسلوب إدارته وسياسة حكمة وأسهمت في تكوين رؤيته للحياة بشكل عام وللحياة السياسية كما نوضح تالياً.
فقد مثل عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه المدخل الأول لعودة العصبية القبلية بين قبائل قريش، وعودة تأثير الأسرة الأموية التي كانت تتزعم قريش خلال الجاهلية إلى واجهة السلطة في الإسلام، وقد كان مروان بن الحكم والد عبد الملك من أبرز الشخصيات التي أتيحت لها فرصة في التأثير على المتغيرات وعلى السياسة العامة للدولة الإسلامية في عهد الخليفة عثمان، إذ تذكر المصادر الإسلامية العديد من المواقف التي كان لمروان دوراً بارزاً فيها، وعلى الرغم أن هذه المواقف من وجهة نظر المسلمين في ذلك العهد وفي وجهة نظر المؤرخين كانت سلبية او بالأحرى ذات أثر سلبي على السياسة العامة لدولة الإسلام، إلا أنها في الوقت ذاته كانت مواقف ساهمت في تشكيل ملامح الزعامة الأموية القادمة للإسلام، وقد استغل مروان بن الحكم لين وحياء عثمان وأثرته لقرابته فتقرب منه ونال الكثير من الأعطيات الجزيلة أبرزها هبته له جزء كبير من غنائم إفريقية حين وفد اليه مبشراً بالفتح كما منحه خمس خراج إفريقية أيضاً، ومنحه في بعض الروايات الف الف دينار وهو مبلغ كبير مقارنة بالعطايا التي كان يمنحها عمر بن الخطاب للمسلمين ولقريش، وذلك ما أوغر صدور المسلمين على عثمان وبني أميه ومهد لظهور الفتنة التي أدت في نهاية الأمر إلى مقتل عثمان ويحسب لمروان أنه كان ضمن الفئة القليلة التي دافعت عن منزل عثمان حين حوصر وقد اشتبك مع المحاصرين وتعرض للضرب المبرح حتى ظن الجميع أنه مات[2]، كما شارك مع علي بن أبي طالب في معركة الجمل، وبعد أن استوثقت الخلافة لاحقا لمعاوية بن ابي سفيان ولى مروان على المدينة، وخلال تلك الأحداث كانت نشأة عبدالملك بن مروان، على الرغم من أن المصادر الإسلامية لا تذكر دوراً واضحا لعبدالملك بن مروان في مساندة والده، بل تذهب الكثير منها إلى القول أن سمات وأخلاق عبدالملك لم تكن متشابهة مع والده، فحين يذهب جمهور المؤرخين والرواة إلى وصف مروان بالسلب فإنهم يصفون عبدالملك بأنه كان نموذجاً إيجابياً للشاب الذي نشأ على عبادة الله والتقوى وكان من الملازمين للمسجد وللعلم والتقفه في الدين حتى توليه الخلافة.
وفي الغالب فإن عبدالملك بن مروان بقي معتزلا للسياسة طيلة فترة ما قبل خلافته بشكل كلي مقبلاً على الدين والعبادة والفقه حتى صار من أعلام الفقه في المدينة، وتذكر المصادر الإسلامية العديد من الأقوال في هذا الشأن أبرزها بحسب ما ذكره السيوطي في تاريخ الخلفاء “قال نافع لقد رأيت المدينة وما بها شاب أشد تشميرا ولا أفقه ولا أنسك ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك بن مروان وقال أبو الزناد: فقهاء المدينة: سعيد بن المسيب وعبد الملك بن مروان وعروة بن الزبير وقبيصة بن ذؤيب وقال ابن عمر: ولد الناس أبناء وولد مروان أبا وقال عبدة بن نسي قيل لابن عمر: إنكم معشر أشياخ قريش يوشك أن تنقرضوا فمن نسأل بعدكم فقال: إن لمروان ابنا فيها فاسألوه” [3] وكانت الإنتقاله في حياة عبدالملك بعد وفاة معاوية بن يزيد بن معاوية وإعلان عبدالله بن الزبير دعوته للخلافة ثم سيطرته على الحجاز وإخراج مروان وبنيه من المدينة، حيث توجهوا إلى الشام مقر السلطة الأموية، وهناك بدأ كبراء الأمويون يتدارسون موضوع الخلافة فمنهم من رأى التسليم ومبايعة ابن الزبير، ومنهم من رأى أن الأمويون بها أحق وكان منهم مروان بن الحكم الذي وجده الأمويون مؤهلاً لوراثة الخلافة، فأعلنوا مبايعته لتستمر خلافته فترة قصيرة كانت سلطته فيها محصورة على الشام ومصر، بينما كان الزبيريين يحكمون سيطرتهم على الحجاز واليمن وبقية مناطق الجزيرة العربية إضافة إلى العراق، فيما اتخذت فرق الخوارج وخاصة الأزارقة من بلاد فارس قاعدة لمعسكراتهم ومنها كانت جيوشهم تهاجم المدن المجاورة وتزرع الرعب في المسلمين بسبب سياساتها القمعية والوحشية التي استهدفت عامة المسلمين بشكل خاص وأمعنت فيهم قتلاً وتنكيلاً كما تؤكد المصادر التاريخية.
في الحقيقة يميل أغلب المؤرخين إلى تجاوز مرحلة خلافة مروان بن الحكم، حيث يعتمد السيوطي في تاريخ الخلفاء عبدالله بن الزبير كخليفة للمسلمين بعد معاوية بن يزيد في ترتيب الخلفاء ولا يشير بأي شكل لخلافة مروان، ومثله فعل غالبية المؤرخين، والسبب في ذلك يعود إلى ضبابية المرحلة التي شهدتها خلافة مروان وغلبة ابن الزبير عليه، وهي الغلبة التي قلبها عبدالملك بن مروان بعد أن تولى الخلافة بعهد من أبيه، وبايعه اهل الشام والقبائل المساندة للأمويين، مدشناً عصراً استثنائيا من عصور التاريخ الإسلامي، بدأه بإقصاء سلطة الزبيريين عن العراق وقتل مصعب بن الزبير والي العراق ثم غزو مدينة مكة معقل وعاصمة الخلافة الزبيرية والقضاء على عبدالله بن الزبير، وتوحيد الدولة الإسلامية تحت راية الأمويين مضيفا بذلك عمرا مديداً للدولة الأموية استمر زهاء خمسون عاما.
ويمكن حصر أبرز العوامل التي ساهمت في تكوين شخصية عبد الملك بن مروان في الآتي:
- التغيرات والصراعات السياسية التي حدثت بعد مقتل الخلفية عثمان بن عفان والتي كان لوالده دوراً كبيرا فيها.
- الخلاف بين علي ومعاوية على الخلافة والصراعات بين الصحابة وظهور الآراء المختلفة في الخلافة والحكم وظهور الفرق الإسلامية المختلفة.
- الأحداث التي شهدتها المدينة المنورة التي ولد عبد الملك بن مروان فيها وعايش الكثير من أحداثها أبرزها واقعة الحرة في عهد يزيد بن معاوية.
- ظهور النزعة العصبية بين قبائل قريش وتنافس الأمويون والهاشميون على السلطة الإسلامية.
- الفقه والتدين الذي لازمه عبد الملك واقتبس منها رؤية للحكم وللسلطة تقارب بين التنافرات وتنزع إلى الوحدة تحت أي ظرف وبأي طريقة.
- بقاءه مع والده ومساعدته له خلال خلافته القصيرة في دمشق.
- معرفته بالتوازنات القبلية ودورها في مساندة السلطة السياسية.
العوامل التي ساهمت في نشأة المنصور.
كما ذكرنا سابقاً أن المراحل المضطربة تسهم في خلق نخبة قوية، فقد كانت المرحلة التي نشأ فيها أبو جعفر المنصور شبيهة إلى حد ما بالمرحلة التي نشأ فيها عبدالملك بن مروان، فإن كان الأول نشأ في مرحلة انهيار الخلافة الراشدة وتمكن الخلافة الأموية، فإن الثاني نشأ في مرحلة انهيار واضطراب الخلافة الأموية، وحين كان الأول ابناً لأحد دعاة السلطة الأموية وأحد رجالاتها البارزين، فإن الثاني كان إبناً لمؤسس الدعوة العباسية السرية، وكما ساهمت التطلعات الأموية بالسيادة على الإسلام كامتداد لزعامتهم القديمة لقريش في تشكيل شخصية عبدالملك بن مروان فقد ساهمت التطلعات والشعور بالظلم والأحقية بالسلطة الإسلامية التي كانت سائدة عند عموم الهاشميين وبالخصوص منهم العباسيين والطالبيين في تشكيل الهدف المحوري لحياة المنصور وبالتالي تشكيل شخصية أبو جعفر المنصور نفسه.
فقد ولد أبو جعفر كما تروي المصادر في خلافة عمر بن عبدالعزيز، وخلال خلافة هشام بن عبدالملك كان يقيم مع والده وإخوته في إحدى قرى الشام يتفقهون في الدين ويتدارسون في العلم ظاهرا، وفي الخفاء كان والده يعد العدة لإقامة الدولة الهاشمية وإزالة الدولة الأموية، وبذلك كان المنصور يتلقن من والده أبجديات الصراع الهاشمي الأموي في سن مبكرة، بل أن جده لم يكن يستنكف عن إعلان نبوته بأن الخلافة ستنتقل إليه ونسله وقد ذكرت المصادر التاريخية أن جد المنصور وفد إلى هشام بن عبدالملك ومعه حفيديه السفاح والمنصور وهما صغيرين، فقال لهشام سيصبح هذا الأمر[4] في ولدي هذين، فما كان من هشام إلا أن سخر من نبوءته واصفا إياه بالخرف” وهكذا بوفاة الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك بدأت الدولة الأموية تتصدع من داخلها، في الوقت ذاته كان دعاة العباسيين ينشطون في خراسان والنواحي القصية من بلاد الإسلام، محكمين في التنظيم والاستراتيجيات المتبعة يتلقون تعليماتهم من علي بن عبدالله بن عباس والد المنصور في ريف الشام، وحين بدأت الخلافات تعصف بين كبراء الأمويين وبدأ أبناء الخلفاء وأحفادهم يتنازعون على السلطة ودب الوهن في عضد الخلافة الأموية، وبدأت الانقلابات الداخلية كان العباسيون ينتظرون الوقت المناسب لإعلان دعوتهم، وهناك كان أبو جعفر المنصور يشب منتظراً الوقت الذي يعيدون فيه سلطة أجداده وهو ما تم لهم في نهاية الأمر.
وقد تمثلت أبرز العوامل التي شكلت شخصية أبو جعفر المنصور في التالي:
- موقف الأسر الهاشمية المعارض لسلطة الأمويين وشعورهم المتراكم بضرورة استرداد الحكم الذي سلب منهم بعد استشهاد الإمام علي بن أبي طالب.
- ملازمته لجده الذي كان المؤسس الحقيقي للدعوة العباسية وتنظيمها واطلاعه على أهم الاستراتيجيات التي يجب العمل بها في سبيل الثورة على الأمويين.
- ظهور النزعة الشعوبية التي قادها الفرس وغيرهم من الموالي الذين شاركوا العباسيين الشعور بالمظلومية أمام اعتماد الأمويين على العرب بشكل كلي.
- نشوب الخلافات والصراعات بين الأمويين وتنازعهم على الخلافة وبدأ انهيار تماسك الدولة الأموية.
- انطلاق الثورة العباسية ومشاركة المنصور فيها كقائد وزعيم ضمن قادتها من الفرس والعرب.
سياسات عبد الملك بن مروان وأبرز إنجازاته.
بخلاف والدة يعتبر المؤرخون الإسلاميون عبدالملك بن مروان رجل دولة استثنائي، ويصفونه بالذكاء والحكمة والمرونة وقوة الشخصية وثبات الجأش، وأبرز مميزاته إضافة إلى ذلك السخاء الشديد في إنفاق المال لشراء ولاء القبائل والشخصيات المؤثرة في المجتمعات سواء من المناوئين أو المناصر، فقد كان يميل إلى شراء ولاء الخصوم القابلين للشراء، والشدة مع الخصوم الذين يصعب شرائهم، وعرف عنه الفراسة في تمييز الرجال فقلما أخطأت تنبؤاته وتوسماته في الناس وبناء على تلك الفراسة كان يمنح كل منهم الدور الذي يليق به فيمكن الشديد القوي منهم حيث يحتاج القوة ويمكن اللين السهل منهم حيث يتطلب اللين، فيرسل أخاه عبدالعزيز واليا على مصر ويرسل الحجاج بن يوسف ليكون والياً على العراق، وينتهز السخط الذي يكنه المهلب على الخوارج فيمنحه قيادة الجيش لقتالهم وتحجيم نفوذهم في بلاد فارس.
أتقن عبدالملك لعبة العصا والجزرة وعرف المواضع التي يلينها الدينار والمواضع التي لا يلينها إلى السيف، فقد تمكن من شراء ولاء بعض الزبيريين واستمال إلى جانبه أحد أخوة عبدالله بن الزبير نفسه، بل أنه أرسله على رأس جيش لمهاجمة أخاه إلا أنه تعرض للهزيمة، ثم على الطريقة ذاتها حاول استمالة مصعب ابن الزبير والي العراق قبل المعركة إلا أن رفض مصعب لإغراءات عبدالملك دفعت الأخير إلى القتال والفوز ثم قطع رأس مصعب وإرساله إلى أخاه عبدالله في مكة، واستطاع استمالة قوة المهلب بن أبي صفرة والي الزبيريين على البصرة واعتمده وثبته واليا له عليها ثم ولاه قيادة الجيوش لقتال الخوارج، وتمكن أيضا من استمالة الخارجين عليه من الأمويين مثل سعيد بن العاص الذي تمرد في مصر ووعده بالأمان حتى قدم إلى دمشق فضرب عنقه.
كان عبد الملك بن مروان نموذج حقيقي لرجل الدولة المتمرس وقد تمثلت أبرز إنجازاته في التالي:
- تثبيت أركان الدولة الأموية والقضاء الخلافة الزبيرية والتخلص من خطر الخوارج وتحييدهم.
- إعادة مسيرة الفتوحات الإسلامية التي توقفت في عهد يزيد بن معاوية وإتاحة المجال لقادة وزعماء القبائل العربية الكبيرة في قيادة الجيوش الفاتحة ومنحهم الصلاحيات الكاملة للتصرف في الغنائم لاكتساب ولائهم وولاء قبائلهم.
- هيكلة الدولة الإسلامية وتنظيم دواوينها وبريدها واعتماد اللغة العربية كلغة رسمية لدواوين ومعاملات الدولة وبذلك حقق الاستقلال الثقافي العربي عن اللغة الفارسية التي كانت مهيمنة على شكل الدولة.
- طباعة النقود العربية والاستقلال عن الهيمنة الاقتصادية البيزنطية وتأسيس أول منشئة عربية لسك العملة في دمشق.
- إنشاء ديوان خاص بالمظالم لفتح خط اتصال بين السلطة الحاكمة والشعب حيث كان أول خليفة أموي يخصص جزأ من وقته لمتابعة شكاوى ومظالم المسلمين.
- التوسع العمراني وبناء القصور والمساجد والمدارس وتأسيس المدن الجديدة في البلاد المفتوحة.
- تحقيق الاستقرار السياسي والتوازن الاجتماعي في الدولة الإسلامية وإتاحة الحريات الدينية والمذهبية مالم تشكل خطرا على السلطة.
- تمهيد الأجواء الملائمة لاستمرار سلطة أسرته والتي امتدت لما يزيد عن خمسين عام.
سياسات أبو جعفر المنصور وإنجازاته.
عرف أبو جعفر المنصور بالشدة والحزم والذكاء والفطنة والبعد الكامل عن اللهو والترف فقد كان لا يريح ولا يستريح لا يأمن ولا يثق يتحسب لخيانة الصديق أكثر من تحسبة لمواجهة العدو، ولأنه مثل المرحلة الأخطر والأهم في تاريخ الخلافة العباسية فقد بذل كل ما بوسعة في سبيل تحييد الشخصيات والقوى المؤثرة التي ساهمت مع العباسيين في الثورة على بني أمية، وقد وجه اهتمامه لتحجيم كل مراكز القوى القريبة والبعيدة، فبدأ بتحقيق توازن بين المكون الفارسي الذي كان قد تعاظم نفوذة في الدولة العباسية والمكون العربي الذي يعتبر محور الخلافة وأهم أعمدتها وشرعيتها فعمد إلى تحجيم نفوذ الفرس في الدولة وأتاح مجال للقبائل العربية في المناصب والولايات وبذلك ضمن ولائها دون أن يفقد ولاء المكون الفارسي.
ولما كانت الدعوة العباسية في بدايتها تدعو لخلافة الرضى من آل محمد فقد كان الطالبيين يعتقدون أن الدعوة تهدف إلى إعادتهم للخلافة لكن العباسيون استأثروا بالخلافة فتحول الطالبيين إلى دائرة المعارضة خاصة في عهد أبو جعفر المنصور، وهو ما جعله يعتبر مطامع الطالبيين في الخلافة وشعورهم بالأحقية في السلطة أبرز التحديات التي تواجه حكمه، فاتخذ وسائل واستراتيجيات حكيمة لاحتواء معارضتهم في بداية أمره فكان يجزل لهم العطاء والتكريم على الرغم من بخله وحرصه المعروف على المال، حيث كان يسمى “أبو الدوانيق” لفرط بخله وشحته ولما تمكن من تحييد الخصوم الأهم من غير الطالبيين أبرزهم عمه عبدالله بن علي الذي تمرد على المنصور في أول دولته فاستمال المنصور مكانة ونفوذ وقوة أبو مسلم الخراساني واستعان به للقضاء على تمرد عمه وقد أستطاع هزيمته ليتفرغ بعد ذلك ويعد العدة للتخلص من أبرز شخصيات الدعوة العباسية وهو القائد أبو مسلم الخراساني الذي تحايل عليه ودبر له مكيدة محكمة جره بها إلى قصره وقتله غيلة بعد أن سرد له خياناته وتجاوزاته منذ بداية الثورة حتى يومه، وليسكت رأي الناس المستنكرين لمقتل أبو مسلم الخراساني بتلك الطريقة صعد على المنبر ليلقي خطبته الشهيرة مهددا ومتوعدا ومؤكداً على خيانة أبو مسلم للدولة وتماديه في سفك دماء المسلمين بل ويتحسر على تأخره في قتله ويقول للناس أنهم لو عرفوا بأمره لتوجهوا باللوم على أمير المؤمنين في إمهاله له طول هذه المدة، وبعد أن تم له الأمر وتخلص من مناوئيه المقربين وجه اهتمامه على الطالبيين الذين توارى زعمائهم عن السلطة وتحولوا للمساجد والدعوة لكنه لم يأمن ذلك بل حاول استثارة سخطهم واجترارهم لإعلان التمرد ثم قتالهم والخلاص منهم، وقد قتل في عهده محمد ذي النفس الزكية أبرز زعماء الطالبيين بعد أن أعلن تمردا على سلطة المنصور ودعى للثورة عليه وسانده جمع كبير من العلويين فرس وعرب.
وقد تمثلت أبرز إنجازات أبو جعفر المنصور إضافة إلى قمع الثورات والتمردات التي ظهرت في عهده: –
- بناء مدينة بغداد لتكون عاصمة مميزة وحصينة ومأمونة للخلافة العباسية حيث جعلها في منطقة وسط بين الكوفة والبصرة.
- توسيع نفوذ الدولة العباسية واعتماد المذهب السني بدلاً عن المذهب الشيعي الذي كان يميل اليه دعاة العباسيين في بداية الأمر.
- تمهيد السلطة لذريته وإقصاء كافة المنازعين لهم سواء من البيت العباسي او الطالبي.
- بناء دار الحكمة ليؤرخ بذلك بداية الاهتمام بالثقافة والفكر والفلسفة التي ستزدهر بقوة في عهد بقية الخلفاء العباسيين.
- بناء علاقات مع الدول والإمبراطوريات المجاورة للدولة الإسلامية أبرزها إمبراطورية بيزنطة.
- تحقيق استقرار سياسي واجتماعي في العالم الإسلامي أتاح فرصة لتوجه العرب والموالي نحو الإنتاج الثقافي والحضاري في كافة المجالات المختلفة.
الخلاصة: –
إذا فقد تميزت شخصيتي الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان والعباسي أبو جعفر المنصور بمواصفات جمعت بين السياسة والدين وحققت توازن بين النظريات الدينية للسلطة في الإسلام وبين النزعة العصبية القبلية والشعوبية التي سادت في ذلك التاريخ وبين لوازم وضروريات السلطة السياسية البراغماتية، فشكلت شخصيتيهما مزيجا فريدا من الكاريزما القيادية التي لم تتكرر، وجمعت بينهما العديد من المزايا والصفات التي مكنتهما كل على حدة من تأسيس دول بقيت ممثلة للأمة الإسلامية بمختلف فئاتها فترات طويلة من الزمن، وأبرز هذه المزايا التي اجتمعت في عبدالملك والمنصور هي الحكمة والفطنة والفراسة والسياسة والبراغماتية المعتدلة والحزم والشدة وحسن توظيف المال السياسي وحسن وضع التوازنات بين القوى ومراكز النفوذ في الأمة لتصب في بوتقة الحضارة التي بنيت بهما.
[1] الذهبي، الحافظ، كتاب سير أعلام النبلاء، عبد الملك بن مروان، نسخة الكترونية متاحة في ويكي مصدر، الرابط مختصر” https://cutt.us/vevEc”
[2] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، المجلد الثالث الاحداث من 30 إلى 62هـ، ذكر مقتل عثمان ص 65
[3] السيوطي، جلال، تاريخ الخلفاء، نسخة الكترونية متاحة في ويكي مصدر، الرابط مختصرhttps://cutt.us/6UkgG
[4] أي الخلافة
.
رابط المصدر: