بعد أن التزمت أنقرة منذ بداية الحرب في أوكرانيا بالإمساك بالعصا من منتصفها -فحافظت على حالة من الحياد الإيجابي بين الأطراف، وانعكس ذلك أنها في الوقت الذي طبقت فيه اتفاقية مونترو وأغلقت ممر البسفور أمام السفن الحربية الروسية وهي الخطوة التي وصفها البعض بأنها سوء تفسير لبنود اتفاقية مونترو حيث لم يتم الاتفاق بعد على كون الوضع الحالي حالة حرب بين روسيا وأوكرانيا– أبقت على مجالها الجوي مفتوحًا أمام الطيران الروسي العسكري والمدني، وبالطبع فإن الطيران العسكري يضم طائرات تنقل الجنود إلى سوريا، قبل أن تعدل في الأيام الأخيرة عن هذا القرار، وتتخذ خطوة تصعيدية أبلغت بها الجانب الروسي وتضمنت منع الطيران الروسي المدني والعسكري من المرور بالأجواء التركية.
وهو قرار يمكن تفسيره في الكثير من السياقات عدا السياق الخاص بالتوازن أو الحياد الإيجابي. بجانب أن المفهوم ظاهريَا من تداعيات القرار أنه يصب إيجابيًا في مصلحة الغرب، خصوصًا أن توقيت القرار يأتي في وقت تصعد فيها موسكو من ضرباتها شمال غربي سوريا، وهي المنطقة التي تنتشر فيها قوات تابعة لتركيا، فضلًا عن أن لغز التوقيت يمكن تفسيره بأن القرار جاء لاحقًا لإجراء موسكو مناورة لسلاح جوها في سماء إدلب. وبعد أن أغلقت أنقرة ممراتها البحرية والجوية أمام موسكو لم يتبق أمامها سوى الانضمام إلى ركب تطبيق العقوبات على روسيا حتى تكون منحازة تمامًا للموقف الغربي.
وكذا، يمكن تفسير الأمر في سياق آخر يتضمن أن التغير الواضح في السياسة الخارجية الأمريكية بين إدارة ترامب وإدارة بايدن يؤثر بشكل كبير على العلاقات بين أنقرة وموسكو، وربما تقصد الولايات المتحدة من الضغط على تركيا في هذا السياق تقويض الوجود الروسي في سوريا.
ومما يستدل به على ذلك أن الحظر تم فرضه على الطائرات العسكرية المتجهة من روسيا إلى سوريا وليس العكس، ويفهم من ذلك أيضًا أن القوات الروسية الموجودة في سوريا لا تؤثر على الوضع في أوكرانيا وذلك في الوقت الذي تشير فيه واشنطن إلى أن المعارك المتصاعدة في ماريوبول كانت تدار من قاعدة حميميم الروسية في الشمال السوري. ومن التداعيات المباشرة للقرار أن إغلاق المجالات الجوية والبحرية أمام الروس سيؤدي إلى تأخير الإمدادات التي تصل إلى قاعدة حميميم وكذلك إلى قاعدة روسيا في طرطوس على البحر المتوسط، مما يؤخر تحقيق الأهداف العسكرية الروسية.
فالقرار التركي ليس حرًا في المطلق، خصوصًا أن الأوضاع الدولية قد تغيرت منذ نشوب الحرب الأوكرانية، وبالتالي فإن أنقرة التي تريد خطب ود الغرب والتي هي في نفس الوقت عضو في حلف شمال الأطلنطي الذي أثار الأزمة منذ البداية- ولا يستعبد أن تكون قد تعرضت لضغوطات من جانب واشنطن لوقف حالة الحياد كما تتعرض الصين أيضًا لنفس الضغوطات- ما نتج عنه اتخاذ قرار بإغلاق المجال الجوي أمام الطيران الروسي. وبالعودة إلى مسألة التوقيت أيضًا، فإن القرار جاء في أعقاب زيارة وفد من الكونجرس الأمريكي لتركيا، حيث تم التباحث بشأن عدد من الملفات وعلى رأسها بالطبع ملف إس 400 المثير للجدل.
ومن منظور أكثر وضوحًا، فإن واقع الضغط الدولي على روسيا جراء شنها عملية عسكرية على أوكرانيا فتح شهية أنقرة لممارسة المزيد من الضغوطات على موسكو للحصول على مكاسب في سوريا، لأن موسكو ستكون أكثر قابلية للتأثر بالضغوطات الآن. علاوة على أن التنافس بين روسيا وأمريكا على ضمان الانحياز التركي لصفهما في الحرب ربما يؤدي إلى حلحلة الأمور العالقة بين أنقرة وواشنطن، والتي أصبحت أكثر تعقيدًا منذ وصول بايدن إلى السلطة، خصوصًا مع كسب تركيا لورقة رعاية المفاوضات.
وإذا فسرنا القرار بشكل حيادي، فربما يكون الهدف هو ممارسة المزيد من الضغوطات على روسيا؛ بغية إعادتها إلى مائدة المفاوضات في إسطنبول مرة أخرى، ولكن القرار بإغلاق المجال الجوي أمام الروس إضافة إلى تنفيذ اتفاقية مونترو بمنع روسيا أيضًا من إرسال الإمدادات لقطعها البحرية في سوريا يعد تضييقًا للخناق على الوجود الروسي في سوريا لصالح تركيا والقوات الموالية لها. خصوصًا أنه مع إغلاق المجال الجوي لن تجد روسيا طرقًا بديلة سوى المجال الجوي العراقي حيث تتمتع واشنطن بتفوق هناك.
وقياسًا، فإن المرة الأولى التي أغلق فيها المجال الجوي التركي أما الطيران العسكري الروسي المتجه إلى سوريا كانت في عام 2015 حيث شهدت العلاقات بين البلدين توترًا عقب إقدام أنقرة على إسقاط طائرة روسية من طراز سو24- وقالت الدفاع التركية في ذلك الوقت إن الطائرة اخترقت مجالها.
وتكرار الأمر في وقت ليس فيه خلاف مباشر بين روسيا وأنقرة يوحي بأن الأمور تتعلق بإعادة توزيع قطع الشطرنج في سوريا، وربما تصل الجرأة التركية إلى محاولة كبح جماح الأكراد المدعومين من واشنطن في شمال سوريا وهو ما يفسر ما حدث من هجمات مكثفة لتركيا في عمق الشمال العراقي التابع للأكراد وما تبع ذلك من خروج مسؤولين أمريكيين رفيعي المستوى ليؤكدوا أن الدعم الأمريكي لوحدات الشعب الكردية إبان فترة حكم ترامب أضر بالعلاقات الأمريكية- التركية.
الموقف الروسي
إذا ما ثبت أن القرار التركي يستهدف الوجود الروسي في سوريا وليس مجرد أمر روتيني مثلما قال مولود جاويش أوغلو يتعلق بانتهاء مدة الثلاثة أشهر الخاصة بفتح المجال الجوي التركي أمام الطائرات العسكرية الروسية المتجهة إلى سوريا، فستحاول موسكو في هذه الحالة البحث عن البدائل تتمثل بداية في الحليف الإيراني الذي من المتوقع أن يقدم عرضًا بديلًا للروس باستخدام مجاله الجوي للوصول إلى القواعد التابعة لروسيا في الشمال السوري.
صحيح أن الطريق الإيراني سيكون أطول، ولكن لا خيار أمام الروس الذين وإن تمكنوا من تجاوز فكرة تطبيق اتفاقية مونترو ومنع عبور السفن العسكرية الروسية إلى البحر الأسود، فإن الأمر سيصبح أكثر تعقيدًا بشكل لا يمكن لموسكو تجاوزه إذا ما تم منع السفن العسكرية الروسية من العبور للبحر المتوسط.
وعلى ما يبدو فإن الأتراك لم يحسبوا بدقة حجم الخسارة والتراجع في العلاقات مع الجانب الروسي، بدليل التمادي في التقارب مع الولايات المتحدة والناتو. ومع تطور الأزمة سيبارح الأتراك مقاعد الحياد تمامًا، وسوف تخسر أنقرة تعاملات اقتصادية مع موسكو تصل إلى مائة مليار دولار سنويًا. وليس من المستحيل تعليق صفقة إس 400 مع تركيا في الوقت الذي تحرم فيه أيضًا من إف 35 الأمريكية.
وعلى المستوى الإقليمي، سيكون هناك تقارب بين الروس والإيرانيين الذين أبدو انحيازًا واضحًا لروسيا في هذه الأزمة، وهو ما يحبط طموحات أردوغان في المنطقة، إضافة إلى أن روسيا تمكنت من كسب ود الهند وحتى الآن الصين أيضًا أبدت حيادًا تكتيكيًا في الأزمة الأوكرانية وهي التي تمتلك وضعًا مشابهًا في تايوان. وعلى الصعيد السوري فقط قد يتغير الموقف الروسي بحيث تسمح موسكو للنظام السوري باجتياح إدلب تحت غطاء جوي منها، الأمر الذي سيؤدي إلى نزوح الملايين إلى تركيا مع الأخذ بالحسبان أنها فئة متشددة وترفع السلاح.
إجمالًا، لا يتضح لنا أن المراهنات التركية في الحرب الأوكرانية واقعية؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر قد تخسر تركيا النقاط التي استطاعت إحرازها حتى الآن مع المملكة العربية السعودية والإمارات باعتبار الدولتين على تباعد قياسي مع الحليف الأمريكي الذي تميل تركيا له، ولكن لا زالت أنقرة تراهن على أنه رغم دورها في الحرب الأوكرانية ومساعدة الأوكرانيين بطائرات البيرقدار المسيرة، ثم تطبيق مونترو، بعد ذلك ارتضت موسكو أن تلعب أنقرة دور الوسيط. وفي الأمر رهان خاسر؛ لأن التحركات الروسية المستقبلية من الصعب توقعها أو البناء عليها، ومن البديهي أن روسيا لن تقبل الخسارة في الجبهة السورية.
.
رابط المصدر: