عثرة جديدة.. كيف نفسر الموقف الإيراني إزاء مطالب الوكالة الدولية للطاقة الذرية؟

 علي عاطف

 

في تطور جديد يُذكِّرنا بالأيام الأولى للمفاوضات النووية الإيرانية مع القوى الكبرى في فيينا والتي كانت قد انطلقت في أبريل 2021، أعلنت طهران رفضها لتقرير أصدرته الوكالة الدولية للطاقة الذرية يدين أنشطتها النووية من حيث كمية اليورانيوم المخصَّب والمواقع التي تَجري فيها هذه العمليات. وجاء ذلك الرفض في إطار الرد على مقترح الاتحاد الأوروبي الأخير الرامي إلى إحياء الاتفاق النووي لعام 2015، حيث طالبت طهران بإغلاق ذلك الملف مقابل مواصلة المفاوضات النووية في النمسا.

وأعقب هذا المطلبَ الإيراني تنديدٌ أوروبي بعدم تعاون إيران مع الوكالة الدولية واشتراطها إغلاق هذا الملف وربطه بالأساس بسعيها لإحياء الاتفاق، ما مثّل انتكاسة جديدة لهذه المحادثات التي كانت قطعت أشواطًا طويلة ومضنية قادت إلى توصل الأطراف المتفاوضة في فيينا مطلع شهر أغسطس 2022 إلى الإعلان عن توصلهم لـ “صيغة نهائية” للاتفاق النووي المرتقب بوساطة من الاتحاد الأوروبي، إلا أن تقرير الوكالة الذي كشف عن أنشطة نووية جديدة وأخرى غير معلن عنها في إيران قد مثّل صدمة للأوروبيين والأمريكيين في هذا التوقيت الحرج من عمر المفاوضات النووية.

ماذا جاء في تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية؟

أصدرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومقرها في فيينا، تقريرًا الأسبوع الماضي أكد على أن: 

1 – حجم المخزون الإيراني من مادة اليورانيوم المخصب تجاوز 19 مرة الحد المسموح به طبقًا للاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه في عام 2015 في مدينة لوزان السويسرية وهو 3.67%، وأن هذا قد حدث عبر مواصلة طهران، خلال الأشهر نفسها التي تَجري فيها المفاوضاتُ النووية مع القوى الكبرى بالأساس، تخزين هذه المادة. وأوضح التقرير أن حجم ذلك المخزون بلغ حتى يوم 21 أغسطس 2022 حوالي (3940) كيلو جرامًا، وذلك بزيادة قدرها 131.6 كيلو جرامًا عن التقرير الدوري ربع السنوي السابق الذي أصدرته الوكالة.

2 – كمية اليورانيوم المخصب بنسبة 60% وصلت إلى (55.6) كيلو جرامًا، أي بزيادة مقدارها 12.5 كيلو جرامًا عما أشار إليه التقرير الأخير الربع السنوي. وتكفي هذه الكمية، في حال زيادة نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 90%، لصنع سلاح نووي.

3 – لم تقدم إيران حتى الآن ردودًا واضحة ومقنعة للوكالة الدولية وللأوروبيين أيضًا بشأن العثور على آثار يورانيوم مخصب في مواقع نووية غير معلن عنها أو أخرى قد تم تدميرها في الماضي.  حيث أفادت تقارير الوكالة الدولية مطلع العام الجاري أن مفتشيها قد عثروا في 4 مواقع نووية “سرية” داخل إيران على جسيمات مشعة، ووجد المفتشون في 3 من هذه المواقع “جزيئات يورانيوم من مصدر بشري”، بينما حصلوا في الموقع الآخر على “جسيمات مشعة معدلة”.

وكان من بين هذه المواقع الأربعة اثنان في قرية وضاحية “تورقوز آباد”، الواقعة على بُعد 20 كيلومتر من العاصمة طهران، والآخر في مدينة أصفهان غرب البلاد وعلى بُعد 340 كيلومترًا من العاصمة. ويُذكَرُ أن موقع “تورقوز آباد”، وتُنطق أحيانًا في إيران (دوقوز آباد أو طرقوز آباد)، يحتل أهمية كبيرة لدى العسكريين والسياسيين الأجانب المعنيين بمراقبة أو تتبع الملف النووي الإيراني؛ إذ كان ذلك هو نفسه الموقع الذي استهدفه عملاء تابعون لإسرائيل عام 2018 للحصول الأرشيف النووي وآلاف الوثائق ذات الصلة بالبرنامج النووي الإيراني، والتي كشف عنها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، بنيامين نتنياهو، في اجتماع شهير بالعام نفسه.

نتانیاهو

وتُعد هذه القرية الإيرانية النائية، التي يُطلق عليها أحيانًا في الداخل الإيراني (بلدة فاطميه)، بلدة صغيرة للغاية وبدائية لا يسكنها سوى حوالي 3 آلاف شخص يعملون في الزراعة وتربية المواشي. وربما كانت هذه العوامل دافعًا قويًا لاختيارها من أجل إخفاء الأرشيف النووي الإيراني.

تجدد الأزمات.. لماذا أغضب الردُ الإيراني الأوروبيين؟

ردت إيران على لسان المتحدث باسم منظمة الطاقة الذرية، بهروز كمالوندي، يوم 9 سبتمبر الجاري قائلة إن “برنامج إيران النووي السلمي أظهر أكبر قدر من الشفافية حتى الآن”، مضيفًا أن “العودة لنظام التحقق السابق مرهونة بتنفيذ التعهّدات المنصوص عليها في الاتفاق النووي من جانب جميع أطرافه”.

أما المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني، فقد نفى صحة هذا التقرير وصرّح بأن إيران “لا تقوم بتخصيب غير مصرّح به” وأن “مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد زاروا إيران عدة مراتٍ في إطار تعاونها معها، وأكدوا على الطابع السلمي لنشاطات إيران النووية”. وشدد المسؤول الإيراني على أن “إنهاء تحقيقات الوكالة الدولية يُعد جزءًا من بين الضمانات التي نسعى إليها من أجل التوصل إلى اتفاق نووي مستدام”.

لقد أغضب هذا الردُ الإيراني الأوروبيين؛ لأن طهران “اشترطت وربطت” بين مواصلتها المفاوضاتِ النووية وإغلاق ملف الوكالة الدولية المُشار إليه ونقاطه التي اشتمل عليها والتي جاء من بينها العثور على يورانيوم مخصَّب في عدد من المواقع التي من المفترض أنه تم التخلص من بعضها في السابق منذ أكثر من عقد.  وعلى الجانب الآخر، يرى الأوروبيون أن ملف الوكالة الدولية منفصلٌ عن مسار المفاوضات النووية، ولا يجب أن تشترط إيران حذفه من أجل استكمال هذا المسار.

لذا، أعربت دول الترويكا الأوروبية (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) يوم 10 سبتمبر الجاري عن “الإحباط” بسبب مطلب إيران الداعي إلى إغلاق تحقيق الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن العثور على آثار اليورانيوم، مؤكدة أن هذا المطلب الإيراني “يعرض المحادثات للخطر”. وشددت “الترويكا” على أن “هذا المطلب الأخير يُثير شكوكًا حقيقية حول نوايا إيران والتزامها بنتيجة ناجحة لخطة العمل الشاملة المشتركة، ويهدد احتمالات إحيائها”. وقرأ دبلوماسيون أوروبيون ذلك الرد الإيراني على المقترح الأوروبي بأنه يمثل “خطوة للوراء” في طريق التوصل إلى اتفاق نووي عن طريق المحادثات الجارية منذ النصف الأول من العام الماضي. وما زاد من استياء الأوروبيين أن مطلب طهران جاء في توقيت حرج للغاية؛ بعد الانفراجة التي حدثت خلال شهر أغسطس 2022 عبر التوصل إلى “الصيغة النهائية” للاتفاق النووي، وهو ما دفعهم في الواقع إلى التعبير عن “إحباطهم” من هذه الخطوة الإيرانية.

لماذا تصر إيران على رفض المطلب الأوروبي بالتعاون مع الوكالة الدولية؟

تنظر إيران إلى المستوى الذي حققته في مسار الأنشطة النووية، خاصة كمية اليورانيوم المخصبة سواء بنسبة 60% أو أقل من ذلك، على أنها مكاسب “نووية” من جانب ومكاسب سياسية “استراتيجية” من جانب آخر، وأنه سيكون من الصعب (ولكن من غير المستحيل) أن تتخلى عنها، وذلك للأسباب التالية:

  1. ورقة ضغط استراتيجية:

يتضح لنا من خلال التدقيق في مسار الأنشطة النووية الإيرانية منذ أن بدأت تقع تحت الأضواء قبل عقدين أن طهران توظّف البرنامج النووي والأنشطة ذات الصلة كورقة ضغط سياسية على المستوى البعيد، وذلك حين التعامل أو التفاوض بشأن أي ملف مع القوى الكبرى، ومن بينها الولايات المتحدة. لذا، يصبح من المنطقي القول إن إحداث تطور في هذه الأنشطة سوف يتيح لإيران “قوة” ضغط أكبر على النحو المذكور، وهو ما يجعل من غير المتوقع أن تتخلى عن هذه الخطوات إلا مجبرة.

وهنا، سيكون من الجدير الإشارة إلى أن “إجبار” إيران خلال المفاوضات التي قادت إلى التوصل لاتفاق عام 2015 على التخلي عن بعض أنشطتها النووية أو بعض المكاسب التقنية ذات الصلة، كان أكثر سهولة مما قد يكون عليه الوضع الآن؛ لأن “الحالة النووية” الإيرانية آنذاك لم تكن مثلما هي عليه في الوقت الحالي.

فإيران قد حققت، كما ذُكر مسبقًا، مستوى تخصيب لم تكن تتوقع قبل عام 2015 أن تصل إليه وهو 60%، بجانب أن تقارير الوكالة الدولية قد أشارت مؤخرًا إلى أن إيران قد وسّعت من حجم أنشطتها النووية. وكشف التقرير أيضًا الذي رفضته إيران وأشير إليه هنا، إلى أن منظمة الطاقة الذرية الإيرانية قد أعادت العمل في بعض المواقع النووية الأخرى التي تم إغلاقها في الماضي.

وسوف تحاول إيران إبقاء هذا الوضع على ما هو عليه؛ خاصة لأنه صار قريبًا من مستوى التخصيب الذي يقود حتمًا في النهاية إلى تصنيع قنبلة نووية وهو 90%، ما يعني معه “مزيدًا احتمالات الضغط”. لذا، سيكون الأمر أكثر صعوبة (وليس من المستحيل مجددًا) هذه المرة أن تتخلى إيران عن “أوراق الضغط” هذه.

  1. ضمان عدم الخروج المتكرر:

تريد إيران من وراء عدم تحقيق مطالب الوكالة الدولية والأوروبيين حول تفتيش المنشآت النووية ومراقبتها وتخفيض حجم ونسبة المواد المخصَّبة أن يصبح ذلك بمثابة “تهديد” أمام خروج الولايات المتحدة أو أي طرف آخر من الاتفاق النووي لاحقًا. حيث ترى أن الاحتفاظ بهذه الكميات والمستويات سوف يقلّص من احتمالات خروج أي دولة من الاتفاق النووي أو حذفها لبعض الالتزامات أيضًا.

وهو الهدف نفسه الذي تتحدث عنه إيران منذ أسابيع، خاصة مع الإعلان عن “الصيغة النهائية” للاتفاق النووي في شهر أغسطس 2022، أي أن يكون هذا الأمر “ضامنًا” لعدم ترك الاتفاق النووي مجددًا. وقد خلص المعنيون في إيران إلى أن هذا سيكون “الضامن” الأسهل؛ في ظل فشلهم في الحصول على “ضمانات” أخرى من الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية، مثل طرح فكرة التعويض المادي.

وختامًا، على الرغم من أن المطلب الإيراني قد أحدث أزمة جديدة في المفاوضات النووية، إلا أنه لا يُتوقع أن تكون سببًا لانهيار المفاوضات أو حتى تعطلها لفترة زمنية طويلة هذه المرة؛ فتوصل مختلف الأطراف في فيينا إلى “الصيغة النهائية” واتفاقهم، حتى ولو جزئيًا، على ما ورد بها، يعني أننا اقتربنا من التوصل إلى اتفاق نووي، فضلًا عن أن المشهد السياسي الدولي الراهن والانتخابات الأمريكية المقررة شهر نوفمبر المقبل يدفعان إيران دفعًا نحوم التوصل سريعًا إلى اتفاق نووي.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/72811/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M