ماهيتاب علي
جاءت استقالة جيفري هينتون من غوغل مؤشراً حرجاً على مخاطر الذكاء الاصطناعي وصناعة التكنولوجيا الضخمة على مستقبل المجتمعات المدنية. ولطالما كان للتمويل الضخم والأغراض العسكرية غير المعقولة طريقهما نحو تطويع الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الضخمة لأغراض عسكرية تتجه نحو إخضاع المجتمعات المدنية لقوة وتحكم الآلة في الحياة البشرية. وربما هذا ما انتقده هينتون، معتبراً الذكاء الاصطناعي دليلاً واقعياً على الاندماج بين فواعل صناعة التكنولوجيا الضخمة (Big Tech) وكيانات الدفاع الكبير (Big Defense).
مؤخراً حاولت وزارة الدفاع الأمريكية الاستحواذ على وادي السيليكون وعسكرة علمائه والتحكم في طرق عمله؛ وذلك من خلال تزايد العقود العسكرية، وإنشاء نقاط استيطانية بوادي السيليكون، كوحدة الابتكار الدفاعية التجريبية (DIUx) لإنتاج تقنيات متطورة للجيش قائمةعلى القتال المُحوسب وإحداث ثورة في الشؤون العسكرية. ومن ثم أصبح من الصعب فهم الكيفية التي يعمل بها الجيش الأمريكي اليوم دون تحليل روابطه العميقة بصناعة التكنولوجيا الضخمة وتمويله المتزايد للشركات المتخصصة في الذكاء الاصطناعي، والتي ستؤثر حتماً في طبيعة المجتمعات المدنية في العقود القليلة القادمة.
الخوارزميات.. ما بين عسكرة المعرفة وسلطة البنتاغون
على مدار العقدين الماضيين، أنفق البنتاغون مليارات الدولارات على تقنيات حولت الأجهزة الرقمية بأكملها، المحمولة والمجهزة بالإنترنت، إلى آلات مصغرة وفردية لإنتاج البيانات الضخمة، وهو ما أدى إلى إنتاج ملايين من نماذج الخوارزميات كل يوم، تؤسس لعملية التعلم الآلي العميق عن المجتمعات المدنية والأفراد العاديين. اليوم، تستخدم وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية بشكل دائم ودون أمر قضائي بيانات تحديد الموقع الجغرافي المتاحة تجارياً، والتي تُجمَع من الهواتف المحمولة الفردية لأغراض استخباراتية بحتة[1]. حيث يمكنها استخدام هذه البيانات لا للتجسس فقط، ولكن أيضاً لإعادة بناء الشبكات الاجتماعية، وحتى لاستهداف الأفراد بهجمات مميتة تحت اعتبارات الأمن القومي، وشن ما يُعرف بالحرب الافتراضية أو حرب الخوارزميات.
وفي هذا الصدد، يطرح وادي السيليكون نفسه بوصفه مركزاً رئيسياً لهذا النوع من العمل الدفاعي والاستخباراتي القائم على عسكرة البيانات وصعود صناعة الدفاع الرقمي[2]. وهذا ما أراده البنتاغون بشأن ثورة في الشؤون العسكرية، كعقيدة صاغها منذ بداية التسعينيات، تميل بشدة نحو الحلول العسكرية القائمة على التكنولوجيا والسيطرة الرقمية؛ لخلق أنواع جديدة من المناورات العسكرية والقتال بواسطة الخوارزميات، خصوصاً أن صعود دول منافسة مثل الصين وروسيا حفز على سباق تسلح تكنولوجي. وبناء عليه، احتل القتال المُحوسب على نحو واضح مركز الصدارة بين نخب المؤسسة العسكرية والاستخباراتية الأمريكية.
اندماج الدفاع الكبير وصناعة التكنولوجيا الضخمة
حديثاً، اندمجت قاعدة من أعضاء الكونغرس ومسؤولي البنتاغون لتغليف العلاقة بين الجيش وصناعة التكنولوجيا الدفاعية والرقمية بوادي السيليكون. وأحد العوامل الدافعة وراء هذا الاندماج هو أن كلا الجانبين يستفيد؛ فأحد الطرفين يستفيد من الحصول على أسلحة الحرب وتفعيل عقيدة آلة الحرب الحديثة القائمة على التكنولوجيا، والآخر يستفيد من الحصول على الأموال وترسيخ عقيدة النقد والأعمال الحرة في مجال صناعة التكنولوجيا القتالية الضخمة الجديدة. وتستند روابط هذا الاندماج إلى المساهمات السياسية لإقناع الرأي العام، والاستحواذ على وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الداعم والموافقة السياسية على توسع الإنفاق العسكري لتطويع شركات صناعة التكنولوجيا الضخمة وصناعات الدفاع الرقمي.
مثلاً، طورت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية كيان (In-Q-Tel)، للاستفادة من الابتكارات التكنولوجية في القطاع الحربي العسكري[3]. وذلك من خلال توجيه استثمارات مباشرة في تقنيات المراقبة، وتتبع جغرافية الاحتجاجات والأنشطة التفاعلية المحتملة من خلال تنقية المنشورات والبيانات والصور المتاحة على وسائل التواصل الاجتماعي[4]، وتدريب الخوارزميات على تصنيف والتعرف على ملايين الصور كمشروع ماﭬن[5]، الذي مولته وزارة الدفاع الأمريكية بحجم استثماري يزيد على 300 مليون دولار، وطورته كبرى شركات صناعة التكنولوجيا الضخمة في وادي السيليكون[6]، حيث استخدم الجيش الأمريكي خوارزميات المشروع لدعم مهام الطائرات بدون طيار ضد داعش في حربه في العراق وسوريا. وليس ذلك فحسب بل صرح لي فانغ أن شركة (In-Q-Tel) دعمت استثمارياً شركات للعناية بالبشرة تعمل على تطوير طرق غير مؤلمة لإزالة الطبقة الخارجية من الجلد[7]، وهي تقنية للحصول جينياً على مؤشرات حيوية فريدة، ومن ضمن ذلك جمع الحمض النووي المحتمل خلال تخزينها في صورة نماذج وأكواد رقمية لقاعدة بيانات ضخمة، ومن ثم استخدام تلك البيانات المٌجمعة في أغراض ومهام تؤول في النهاية لتعزيز سيطرة الوكالات الاستخباراتية والعسكرية على المجتمع المدني ضمن مشروعات ضخمة للتحكم في مستقبل العلوم والبشرية[8].
يبدو أن إنشاء كل من (In-Q-Tel) و[9](DIUx) وغيرها من كيانات مماثلة هو مثال رئيسي على: (1) عسكرة صناعة التكنولوجيا الضخمة، (2) تغذية العمليات الإلكترونية السرية للأمن القومي الأمريكي، (3) حلقة وصل بين وكالة المخابرات المركزية الأمريكية من جانب،وعلماء ومهندسي وادي السيليكون من جانب آخر، (4) سيطرة رأس المال الاستثماري (كاستثمار وسيط (التابع لوكالة الاستخبارات المركزية على عمليات إنتاج وتطوير صناعة التكنولوجيا الضخمة والذكاء الاصطناعي.
انقسام داخل وادي السيليكون ومقاومة عمليات التجنيد والاندماج
وبالفعل، نجحت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بالتعاون مع المركب الصناعي العسكري في التفوق على المنافسين الخاصين العالميين في مجال التكنولوجيا الضخمة؛ من خلال عسكرة وتجنيد المهندسين والمتسللين وعلماء الذكاء الاصطناعي والمبرمجين[10]. وفي هذا الصدد، فسرت عدة تحليلات متخصصة في التكنولوجيا الضخمة واقتصاديات الحروب الرقمية الجديدة[11]، أن تجنيد وعسكرة شركات صناعة التكنولوجيا الضخمة جاء: (1) لتسريع تكامل وزارة الدفاع الأمريكية مع مخرجات ونتائج التعلم الآلي وسيطرة قوة الآلة، وتحويل حجم هائل من البيانات الضخمة المتاحة إلى معلومات استخباراتية قابلة للتنفيذ والتطور السريع، (2) نشر أنظمة الأسلحة الروبوتية والدفاعية الرقمية عالية التقنية، (3) تزايد عمليات سباق تسلح الذكاء الاصطناعي بين الولايات المتحدة من جانب وروسيا والصين من جانب آخر، في محاولة للسيطرة على بنية النظام العالمي الجديد من خلال التكنولوجيا الضخمة وأنظمة الذكاء الاصطناعي والروبوتات القاتلة ذات الأهداف الممنهجة.
وفي المقابل، رأى آخرون أن عسكرة صناعة التكنولوجيا الضخمة ستربط الاقتصاد الأمريكي حتماً وبشدة أكثر من أي وقت مضى بحروب ونزاعات متتالية لا نهاية لها مع العالم الخارجي وحتى على المستوى الداخلي للمجتمع الأمريكي ذاته، مع تزايد الصراعات الداخلية لشركات صناعة التكنولوجيا الضخمة، أي بين المديريين التنفيذيين لتلك الشركات المتعاقدين مع المؤسسات العسكرية والاستخباراتية الأمريكية من جانب، وكبار المهندسين ومطوري البرمجيات الرافضين للعقود العسكرية لصناعة التكنولوجيا وعسكرة العلم لتطوير تقنيات حربية، من جانب آخر. وهذا ما دفع هؤلاء المهندسين وعلماء وادي السيليكون للدعوة إلى فتح نقاش أوسع حول أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، والمطالبة بأن يكون لهم رأي في كيفية استخدام علمهم وجهودهم الابتكارية حول تقنيات حديثة يمكنها أن تُحَول المجتمعات المدنية إلى ساحات حرب فعلية[12].
لهذا السبب قَدَّرَ عدد ليس بقليل من علماء ومهندسي وادي السيليكون خطورة تصاعد عمليات التجنيد والعسكرة الممنهجة لصناعة التكنولوجيا. حيث فهم بعض من علماء ومهندسي الوادي بشكل عام أنه بمجرد إنتاجهم للمعرفة، فمن المحتمل ألا يكون لديهم أي سيطرة على طريقة استخدامها، وأنه يمكن توظيفها لتكون أسلحة مدمرة للمجتمعات المدنية لا ضد مستوى البلدان الأخرى فحسب، بل وضد فئات المجتمع الأمريكي بذاته. فالعديد من العلماء والمهندسين الذين يعترضون الآن على العمل العسكري لوادي السيليكون ربما لم يتخيلوا قط أنهم سيصبحون بمنزلة “أعضاء الظل”، أو مجندي المركب الصناعي العسكري التكنولوجي الجديد. وهذا ما رفعه في الآونة الأخيرة متظاهرو مايكروسوفت بأنهم: “لم نقم بالتسجيل لتطوير أسلحة”، والعمل لدى شركات تعمل في الظل لتطوير مجال الحرب والتسلح[13]. وعكس ذلك حتماً انقسام بين المديرين التنفيذيين وكبار مهندسي وادي السيليكون. فالنتيجة المنطقية لسيطرة البنتاغون على صناعة التكنولوجيا الضخمة هو تعالي مطالب سياسية لعلماء ومهندسي الوادي ذاته من أجل محاولة تحكمهم في مستقبل الحروب الافتراضية وساحات المعارك الرقمية التي سيكون تأثيرها في المجتمعات المدنية بين أيديهم حصراً[14].
وبناء عليه، انتبه علماء ومهندسو وادي السيليكون لعمدية استبعادهم من قبل المديرين التنفيذيين من المناقشات حول طبيعة تعاون الشركات في تطوير أسلحة الذكاء الاصطناعي واستجلاب عقود عسكرية في مناطق صراعات حالية لتطوير تقنيات حربية[15]. وهذا ما أشار إليه روبرتو غونزاليس إذ صرح أن مثل هذا الاستبعاد كان سبباً جوهرياً لإيقاظ إحساس كامن بالوعي الطبقي لدى علماء ومهندسي الوادي ووصفهم لأنفسهم بأنهم بروليتاريا جديدة خفية يتحكم فيها المديرون التنفيذيون المندمجون مع كبار مسؤولي البنتاغون والمركب الصناعي العسكري التكنولوجي الجديد. كما وجدوا أن هذا قد يؤدي حتماً إلى تغيير جذري في البنُى الاجتماعية ومراقبة المجتمعات المدنية، وإعادة تشكيل القوة والسياسة والمقاومة بداخلها، والدخول في حقبة من القمع الرقمي داخل المجتمع الأمريكي ذاته، مع تراجع الديمقراطيات العالمية وسيطرت المؤسسات العسكرية الأمريكية على صناعة التكنولوجيا الضخمة والتقنيات الرقمية الحديثة.
خاتمة
نجد أن الاستحواذ الهادئ من البنتاغون على شركات صناعة التكنولوجيا الضخمة، وعسكرة العلماء، قَدَّمَ نظرة نقدية حول كيفية عمل الجيش الأمريكي وقيامه بتسليح التكنولوجيا والبيانات لأنواع جديدة من الحروب التي ستغير طبيعة الصراع العسكري، وستؤثر في بنية المجتمعات المدنية وحياة الشعوب، حيث تهدد التقنيات العسكرية الجديدة القائمة على الذكاء الاصطناعيّ بقاء الإنسان.
[1] Byron Tau. (Jan. 22, 2021). Military Intelligence Agency Says It Monitored U.S. Cellphone Movements Without Warrant: DIA says it buys commercially available geolocation data and has used it five times in recent years for authorized investigations. The Wall Street Journal. Available at:https://cutt.us/CemkM
[2] Roberto J. González. (April 2022). War Virtually: The Quest to Automate Conflict, Militarize Data, and Predict the Future. University of California Press.
[3] John T. Reinert. (2013). In-Q-Tel: The Central Intelligence Agency as Venture Capitalist. Northwestern Journal of International Law & Business. Volume 33 | Issue 3. Available at: https://cutt.us/1UGrh. See also, IQT HISTORY. Available at: https://www.iqt.org/about-iqt/
[4] Lee Fang. (April 14, 2016). THE CIA IS INVESTING IN FIRMS THAT MINE YOUR TWEETS AND INSTAGRAM PHOTOS: Among 38 previously undisclosed companies receiving CIA venture capital funding, several are developing tools to mine social media. The Intercept. Available at:https://cutt.us/NywqP
[5] Frank Wolfe. (November 12, 2020). NDAA Conference Bill Authorizes $250 Million for Project Maven. Defense Daily. Available at: https://cutt.us/Kn3cE. See also: DEPUTY SECRETARY OF DEFENSE. (APR 26, 2017). Establishment of an Algorithmic Warfare Cross-Functional Team (Project Maven). WASHINGTON, DC 20301-1010. Available at: https://cutt.us/9DZUw
[6] Colin Demarest. (Oct 26, 2022). Pentagon’s Project Maven transition stymied by Congress, official says. Sections. Available at: https://cutt.us/eJg0y
[7] Lee Fang. (April 8, 2016,). CIA’S VENTURE CAPITAL ARM IS FUNDING SKIN CARE PRODUCTS THAT COLLECT DNA: A company with an innovative line of cosmetic products caught the attention of Oprah’s Lifestyle magazine and beauty bloggers. Now the CIA is involved, too. The Intercept. Available at:https://cutt.us/0jikq
[8] Lee Fang. (May 5, 2022). AS THE SEC CRACKS DOWN ON SHADY SPACs, CIA OFFICIALS GET IN ON THE ACTION: Leaders of In-Q-Tel, a CIA-backed venture fund, and retired CIA officials are getting in on the latest stock market trend. The Intercept. Available at: https://cutt.us/YHTkg
[9] Defense Innovation Unit. Available at: https://www.diu.mil/
[10] Brian Fung. (December 8, 2022). Pentagon awards multibillion-dollar cloud contracts to Amazon, Google, Microsoft, and Oracle. CNN BUSINESS. Available at: https://cutt.us/BWoYD
[11] Roberto J. González. (April 2022). War Virtually: The Quest to Automate Conflict, Militarize Data, and Predict the Future. University of California Press.
[12] Kate Conger. (May 14, 2018). Google Employees Resign in Protest Against Pentagon Contract. Gizmodo. Available at: https://cutt.us/47u46
[13] Lee Fang. (March 9, 2019). DEFENSE TECH STARTUP FOUNDED BY TRUMP’S MOST PROMINENT SILICON VALLEY SUPPORTERS WINS SECRETIVE MILITARY AI CONTRACT: Palmer Luckey entered the tech industry with VR headsets for gaming. Now, he’s deploying them for real battles through the military’s Project Maven initiative. The Intercept. Available at: https://cutt.us/6TCfs
[14] EMILY BIRNBAUM. (Feb 25, 2019). Microsoft CEO defends $479 million contract with Pentagon after employee protest. The Hill. Available at: https://cutt.us/5EbNh. See also: Ellie Kaufman Zachary Cohen. (July 6, 2021). Pentagon cancels $10 billion cloud contract given to Microsoft over Amazon. CNN BUSINESS. Available at: https://cutt.us/2FyKz
[15] NITASHA TIKU. (June 29, 2018). Why Tech Worker Dissent Is Going Viral: The revolts at Google, Microsoft, Amazon, and Salesforce are part of a growing political awakening over contracts with government agencies. WIRED. Available at: https://cutt.us/SqZ42
.
رابط المصدر: