مع تراجع معدلات الولادة بصورة حادة فإن مزيداً من المجتمعات بات يسلك طريقه للدخول في حقبة ممتدة وغير محددة الأفق عنوانها التقلص السكاني، الظاهرة التي ستشمل في نهاية المطاف كوكبنا برمته. وما ينتظرنا في السياق هو عالم تقطنه مجتمعات متقلصة سكانياً وهرمة. من ثمَّ، فإن رجحان حاصل الموت…
بقلم: نيكولاس إبرستادت
البلدان الغنية والفقيرة على حد سواء شهدت انخفاضاً قياسياً ومذهلاً في معدل الخصوبة
تعد ظاهرة التقلص السكاني، الناجمة عن انخفاض معدلات الولادة عالمياً، من أبرز التحديات المستقبلية التي تؤدي إلى شيخوخة المجتمعات وزيادة الاعتماد على الدعم الحكومي. هذه الظاهرة، التي تعكس اختيارات بشرية بدلاً من أزمات صحية أو اقتصادية، تستدعي استعداد الحكومات لمواجهة تحديات جديدة في ظل تراجع عدد السكان.
على رغم أن قلة ترى ذلك قادماً فإن البشرية على وشك دخول حقبة جديدة في التاريخ. سموا هذه الحقبة الجديدة إن شئتم “عصر التقلص السكاني”. إذ للمرة الأولى منذ “الموت الأسود” (الطاعون) خلال القرب الـ14 سيشهد عدد سكان العالم تراجعاً. لكن في حين كان التقلص السكاني السابق خلال القرن الـ14 ناتجاً من مرض فتاك انتقل عبر البراغيث، فإن التقلص السكاني المقبل سيكون بالكامل نتيجة خيارات اتخذها البشر.
مع تراجع معدلات الولادة بصورة حادة فإن مزيداً من المجتمعات بات يسلك طريقه للدخول في حقبة ممتدة وغير محددة الأفق عنوانها التقلص السكاني، الظاهرة التي ستشمل في نهاية المطاف كوكبنا برمته. وما ينتظرنا في السياق هو عالم تقطنه مجتمعات متقلصة سكانياً وهرمة. من ثمَّ، فإن رجحان حاصل الموت – أي عندما تسجل المجتمعات معدل وفيات أعلى من معدل الولادات – سيغدو الوضع الطبيعي الجديد والسائد. وعلى وقع هذا التراجع المستمر في معدلات الخصوبة فإن بنى عائلية وترتيبات معيشية عديدة لا نعرف عنها حتى اليوم إلا من خلال روايات الخيال العلمي، ستغدو شائعة حولنا وتمثل سمات عادية للحياة اليومية.
ليس لدى البشر ذاكرة جمعية مرتبطة بالتقلص السكاني. إذ إن آخر مرة شهد فيها العدد الإجمالي لسكان العالم تقلصاً كانت قبل نحو 700 عام، وذلك في أعقاب “الطاعون الدبلي” الذي اجتاح معظم أنحاء أوراسيا (أوروبا وآسيا). وخلال القرون السبعة اللاحقة شهد عدد سكان العالم زيادة بمقدار 20 ضعفاً تقريباً. وخلال القرن الماضي فحسب تضاعف عدد سكان العالم أربع مرات.
آخر انخفاض عالمي في عدد السكان انعكس بفضل القدرة الإنجابية عندما انتهى الطاعون الأسود، أما هذه المرة فإن النقص في القدرة على الإنجاب هو سبب تراجع أعداد البشر، وهو حدث غير مسبوق في تاريخ البشرية. القوة الدافعة وراء التقلص السكاني المتوقع هي الانخفاض العالمي في الرغبة بإنجاب الأطفال.
وإلى يومنا هذا فإن المحاولات الحكومية لتحفيز إنجاب الأطفال والتشجيع عليه تفشل في إعادة معدلات الخصوبة إلى مستويات استبدالية (أو إحلالية) [معدل الخصوبة المطلوب للحفاظ على استقرار عدد السكان في بلد ما دون زيادة أو نقصان]. والسياسات الحكومية المستقبلية بغض النظر عن طموحاتها لن تمنع أو توقف تراجع عدد السكان، فالتقلص السكاني في العالم بات أمراً لا مفر منه. وستشهد المجتمعات بالتالي تقلصاً في أعداد العمال وأصحاب المشاريع والمبتكرين، فيما سيزداد في المقابل عدد الأشخاص الذين يعتمدون على دعم الدولة وبرامج الرعاية. على أن المشكلات التي ستطرحها هذه الدينامية لن تشكل كارثة بالضرورة. فتقلص عدد السكان ليس أمراً خطراً (بالمطلق) بل هو سياق جديد صعب، سياق لا تزال الدول والبلدان قادرة على أن تجد سبلاً للنمو والازدهار في ظله. لذا، على الحكومات اليوم أن تهيئ مجتمعاتها لمواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي يطرحها عالم يتجه نحو الشيخوخة والانكماش السكاني.
لكن إلى الآن يبدو أن المفكرين وصناع السياسات في الولايات المتحدة وغيرها من البلدان غير مستعدين لهذا النسق الديموغرافي الجديد. فمعظم الناس عاجزون عن استيعاب التحولات المقبلة أو تخيل كيفية إسهام التقلص السكاني في إعادة تشكيل المجتمعات والوقائع الاقتصادية وسياسات القوى في العالم. لكن لا يزال هناك وقت أمام القادة لمواجهة القوة الظاهرة للتقلص السكاني ولمساعدة بلدانهم على النجاح في عالم يزداد شيخوخة.
نظرة على العالم
تقلصت معدلات الخصوبة في العالم منذ الانفجار السكاني الكبير الذي حدث خلال ستينيات القرن الـ20 [الزيادة السريعة والمفاجئة في عدد السكان العالمي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وكان هذا النمو السكاني مدفوعاً بعوامل عدة منها تطور الرعاية الصحية وتحسن التغذية والصرف الصحي وارتفاع معدلات الخصوبة]. إذ على مدى أكثر من جيلين وبلا هوادة سلك متوسط معدل الإنجاب في العالم مساراً انحدارياً، فراحت البلدان واحداً تلو الآخر تنضم إلى ذاك المسار الانحداري. وبحسب “شعبة الأمم المتحدة للسكان” UN Population Division كان معدل الخصوبة الإجمالي للعالم خلال عام 2015 يعادل نصف ما كان عليه خلال عام 1965. ووفق تقدير “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي” UNPD فإن كل بلد خلال هذه الفترة شهد انخفاضاً بمعدل ولاداته، وذاك المسار الانحداري لا يزال مستمراً. والغالبية العظمى من سكان العالم اليوم يعيشون في بلدان تسجل معدلات خصوبة دون مستوى الإحلال، وهذه أنساق غير قادرة بطبيعتها على صون الاستقرار السكاني في المدى البعيد (كقاعدة عامة، يقارب معدل الخصوبة العام البالغ 2.1 ولادات لكل امرأة عتبة مستوى الإحلال في البلدان الغنية ذات المعدل المرتفع لمتوسط عمر الفرد – إلا أن هذا المستوى يعد أعلى إلى حد ما في البلدان حيث متوسط العمر المتوقع أكثر انخفاضاً، أو في البلدان التي تشهد اختلالات ملحوظة بين معدلي المواليد الذكور والإناث).
على أن معدل الولادات المنخفض خلال الأعوام الأخيرة لم يتواصل وحسب بل بدا متسارعاً أيضاً، إذ بحسب “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي” عاش ما لا يقل عن ثلثي سكان العالم داخل دول ذات معدلات دون الإحلال خلال عام 2019، قبيل جائحة كوفيد 19. وأكد العالم الاقتصادي خيسوس فيرنانديز فيلافيردي أن معدل الخصوبة الإجمالي العالمي قد يكون انخفض منذ ذلك الحين إلى ما دون مستوى الإحلال. فالبلدان الغنية والفقيرة على حد سواء شهدت انخفاضاً قياسياً ومذهلاً في معدل الخصوبة، وعملية استعراض سريعة لحال العالم في هذا الإطار ستتيح لنا صورة مقلقة.
لنبدأ من شرق آسيا، إذ أفاد “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي” بأن هذه المنطقة بأسرها دخلت في حال تقلص سكاني منذ عام 2021. وبحلول عام 2022 كانت جميع الدول الرئيسة هناك بما في ذلك الصين واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان تشهد انكماشاً في أعداد سكانها، وخلال عام 2023 كانت مستويات الخصوبة في اليابان أدنى بنسبة 40 في المئة من معدل الإحلال فيما كانت مستويات الخصوبة داخل الصين أدنى بأكثر من 50 في المئة من هذا المعدل، وفي تايوان أدنى بنحو 60 في المئة. أما النسبة المذهلة فسُجلت في كوريا الجنوبية وجاء معدل الخصوبة هناك أدنى بـ65 في المئة من معدل الاستبدال (أو الإحلال).
وبالنسبة إلى جنوب شرقي آسيا فقد قدر “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي” أن تكون المنطقة بأسرها تحت معدل الاستبدال منذ قرابة عام 2018. وتعد كل من بروناي وماليزيا وسنغافورة وفيتنام بلداناً ذات معدل استبدال فرعي منذ أعوام. وإندونيسيا بدورها البلد الذي يحتل المرتبة الرابعة في العالم من حيث عدد السكان دخل في لائحة البلدان ذات معدل الاستبدال الفرعي عام 2022، وفق أرقام ودراسات رسمية. والفيليبين من جهتها تسجل اليوم معدل 1.9 ولادة لكل امرأة. كذلك فإن معدل الولادات في ميانمار البلد الذي يعاني الفقر والحرب تحت معدل الاستبدال أيضاً. وفي تايلاند بالإطار عينه بات معدل الوفيات اليوم أعلى من معدل الولادات، وعدد السكان في حال تقلص.
وفي جنوب آسيا تسود معدلات الخصوبة دون مستوى الإحلال، ليس فقط في الهند –التي تعد اليوم البلد الأكثر اكتظاظاً بالسكان– بل أيضاً في النيبال وسريلانكا، وجميع هذه الدول الثلاث سجلت معدل خصوبة أدنى من معدل الاستبدال قبل جائحة كورونا (بنغلاديش على وشك بلوغ عتبة تسجيل معدل ولادات أدنى من المعدل الاستبدالي). وفي الهند تراجعت معدلات الخصوبة في المدن على نحو ملحوظ، ففي مدينة كولكاتا الضخمة على سبيل المثال أفادت تقارير مسؤولي الصحة الرسميين عام 2021 بأن معدل الخصوبة تراجع على نحو مذهل ليسجل معدل ولادة واحدة فقط لكل امرأة، وهذا أدنى من نصف المعدل الاستبدالي وأدنى من المعدلات المسجلة في أية مدينة كبرى داخل ألمانيا أو إيطاليا.
هذه التراجعات الدراماتيكية في معدلات الإنجاب تسود أيضاً في أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي. فقدَّر “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي” (UNPD) أن يكون معدل الخصوبة العام عام 2024 داخل هاتين المنطقتين 1.8 ولادة لكل امرأة، وهذا أدنى بـ14 في المئة من معدل الاستبدال. لكن هذه التوقعات قد تأتي دون الواقع الحقيقي لنسب التراجع، وذلك على ضوء ما قاله خبير الديموغرافيا الكوستاريكي لويس روسيرو بيكسبي حين وصف التراجع المسجل في معدلات الإنجاب بالمنطقة منذ عام 2015 بأنه تراجع “مذهل”. والمعدل العام للخصوبة في كوستاريكا بلد هذا المتخصص الديموغرافي تراجع الآن إلى 1.2 ولادة لكل امرأة. وخلال عام 2023 سجلت كوبا معدل خصوبة أعلى بقليل من 1.1 ولادة لكل امرأة، أي نصف معدل الاستبدال، وتخطت أعداد الوفيات في كوبا منذ عام 2019 أعداد الولادات. أما معدل الأورغواي في الولادات فجاء قريباً من 1.3 عام 2023، وكما هو الحال في كوبا فإن أعداد الوفيات تخطت أعداد الولادات. وفي تشيلي جاء معدل الإنجاب عام 2023 أعلى بقليل من 1.1 ولادة لكل امرأة. مدن رئيسة في أميركا اللاتينية منها بوغوتا ومكسيكو سيتي تسجل الآن معدلات أدنى من ولادة واحدة لكل امرأة.
وامتدت معدلات الخصوبة دون الإحلال إلى شمال أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط الكبرى إذ افترض الديموغرافيون على مدى طويل أن العقيدة الإسلامية هناك (في الشرق الأوسط) تشكل ما يشبه الحصن في مواجهة الانخفاض الحاد بمعدلات الخصوبة. فإيران على رغم الفلسفة المؤيدة للإنجاب التي يعتنقها حكامها الثيوقراطيون تسجل معدلات إنجاب دون مستوى الاستبدال منذ نحو ربع قرن تقريباً. وتونس بدورها تراجعت إلى ما دون معدل الاستبدال، وفي تركيا التي تشهد انخفاضاً أيضاً بلغ معدل الولادات في إسطنبول لعام 2023 نحو 1.2 ولادة لكل امرأة، وهو أقل من معدل الولادات الذي سجلته برلين.
وعلى مدى نصف قرن كانت معدلات الخصوبة في أوروبا أقل من مستوى الإحلال بصورة مستمرة. وانخفضت معدلات الخصوبة داخل روسيا للمرة الأولى إلى ما دون معدل الاستبدال في ستينيات القرن الماضي خلال حقبة بريجنيف. ومنذ سقوط الاتحاد السوفياتي شهدت روسيا 17 مليون حالة وفاة أكثر من حالات الولادة. ومثل روسيا تسجل الدول الـ27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي اليوم مستويات إنجاب أدنى بنحو 30 في المئة من معدل الاستبدال. وسجلت هذه الدول مجتمعة أقل من 3.7 مليون ولادة خلال عام 2023، بتراجع عن الـ6.8 مليون ولادة التي سجلتها عام 1964. وخلال العام الماضي سجلت فرنسا عدد ولادات أدنى من عدد الولادات الذي سجلته عام 1806، العام الذي انتصر فيه نابليون بمعركة يينا (Jena)، وسجلت إيطاليا خلال هذا العام (السنة الماضية) أدنى عدد ولادات منذ عام 1861 عام إعادة توحيدها. وسجلت إسبانيا عدد الولادات الأدنى منذ بدأت عام 1861 بتسجيل أعداد المواليد الجدد. وفي بولندا سُجل خلال عام 2023 أدنى عدد ولادات في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والأمر ذاته حصل داخل ألمانيا. هذا وتعد منطقة الاتحاد الأوروبي برمتها منطقة ذات وفيات تفوق الولادات منذ عام 2012 وسجلت خلال عام 2022 معدل أربع وفيات لكل ثلاث ولادات (أربعة مقابل ثلاثة). وكان برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNPD) حدد عام 2019 كعام الذروة لعدد سكان أوروبا، وقدر أن القارة ستبدأ عام 2020 في مسار تراجع سكاني طويل الأمد.
وتظل الولايات المتحدة في هذا الإطار الاستثناء الوحيد بين البلدان المتقدمة مقاومةً ظاهرة التقلص السكاني، إذ إنها مع مستويات الخصوبة العالية نسبياً لبلد غني (على رغم بقاء هذه المستويات أدنى بكثير من معدل الاستبدال، بتسجيلها عام 2023 معدل أعلى بقليل من 1.6 ولادة لكل امرأة)، ومع التدفق المستمر لأفواج المهاجرين أظهرت الولايات المتحدة ما أطلق عليه خلال عام 2019 في مقالات سابقة بـ”الاستثناء الأميركي الديموغرافي”. لكن حتى داخل الولايات المتحدة فإن التقلص السكاني لم يعد مستبعداً. فخلال العام الماضي قدر “مكتب الإحصاء الوطني” أن يبلغ عدد سكان الولايات المتحدة ذروته قرابة عام 2080، ثم يسلك بعد ذلك مسار تراجع مستمر.
أما المعقل الرئيس الوحيد المتبقي ضد موجة انخفاض الخصوبة العالمية هو منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا. مع عدد سكان يبلغ 1.2 مليار نسمة ومعدل خصوبة متوسط يبلغ اليوم 4.3 ولادة لكل امرأة، وفق توقعات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي فإن أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى تعد المعقل الأخير الذي يشهد أنماط معدلات الخصوبة التي سادت في البلدان منخفضة الدخل خلال حقبة الانفجار السكاني في منتصف القرن الـ20.
لكن حتى هناك تشهد هذه المعدلات تراجعاً. إذ قدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بأن مستويات الخصوبة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى انخفضت بأكثر من 35 في المئة منذ أواخر السبعينيات، حين سجلت مستويات الإنجاب في شبه القارة أرقاماً مذهلة وبمعدل 6.8 ولادة لكل امرأة. وجاء معدل الولادات في جنوب أفريقيا أعلى جزئياً من معدل الاستبدال مع بقاء بلدان أخرى داخل الجنوب الأفريقي في مستوى أدنى بقليل من المعدل المذكور (الاستبدال). وثمة بلدان جزرية (أي جزر) عديدة واقعة قبالة الساحل الأفريقي بما في ذلك كاب فيردي وموريشيوس كانت وصلت بالفعل إلى معدلات خصوبة أقل من الاستبدال.
ويقدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن عتبة الاستبدال على مستوى العالم تبلغ نحو 2.18 ولادة لكل امرأة. وأحدث توقعات الـUNPD بالنسبة إلى المتغير المتوسط – أي تقريباً متوسط النتائج المتوقعة – لعام 2024 وضعت مستويات الخصوبة العالمية أعلى بثلاثة في المئة فقط من معدل الاستبدال، أما التوقعات بالنسبة إلى المتغير المنخفض – أي تقريباً الحد الأدنى من النتائج المتوقعة – فرأت أن الكوكب بات فعلاً أدنى من هذا المستوى بنسبة ثمانية في المئة. ومن الممكن أن تكون البشرية بدأت بالفعل تسجيل معدل أدنى من معدل الاستبدال الصافي للعالم. لكن المؤكد أن ربع العالم بات أدنى من معدل الاستبدال الصافي، وأن التقلص السكاني جار بالفعل، وبقية العالم يسلك طريقه لينضم إلى البلدان التي سبقته في مسار التقلص السكاني.
قوة الاختيار
لا تزال ظاهرة الانخفاض العالمي في مستويات الخصوبة لغزاً محيراً في نواح عديدة. وثمة عموماً اعتقاد سائد يرى أن النمو الاقتصادي والتقدم المادي – أي ما يسميه العلماء غالباً “تنمية” أو “تحديث” – يفسران انزلاق العالم في مسار معدلات الولادة بالغة الانخفاض وفي ظاهرة التقلص السكاني الوطني (أي في كل بلد على حدة). فمنذ أن ترافق انخفاض معدلات الولادة مع الصعود “الاجتماعي-الاقتصادي” للغرب – ومنذ أن غدا الكوكب أكثر ثراء وصحة وتعليماً وتمدناً – افترض عديد من المراقبين أن انخفاض معدلات الولادة والإنجاب هو ببساطة نتيجة مباشرة للتقدم المادي.
لكن الحقيقة تشير إلى أن حركة معدلات الخصوبة دون مستوى الاستبدال كانت تتراجع مع مرور الزمن. وحاضراً يمكن للبلدان أن تنحدر إلى ما دون مستوى الاستبدال على رغم دخلها المنخفض ومستويات التعليم المحدودة والتوسع المديني الضئيل والفقر المدقع. إذ إن ميانمار والنيبال مثلاً هما وفق تصنيف الأمم المتحدة من البلدان الأقل نمواً في العالم، لكنهما الآن مجتمعان ذوا خصوبة دون مستوى الاستبدال.
وخلال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية نشرت مجموعة كبيرة من الأبحاث الاجتماعية والديموغرافية التي تناولت عوامل قد تفسر الانخفاض المتسارع في معدلات الخصوبة خلال القرن الـ20. فانخفاض معدلات وفيات الرضع، وزيادة توافر وسائل منع الحمل الحديثة وارتفاع معدلات التعليم ومحو الأمية وزيادة مشاركة الإناث في قوى العمل وتحسن وضع النساء في المجتمع، جميع هذه العوامل المحتملة وأكثر فُحصت بدقة من قبل العلماء. لكن الاستثناءات المستمرة التي لم تتوافق مع هذه العوامل حالت دائماً دون اعتماد أي تعميم اجتماعي واقتصادي صارم يفسر تراجع معدلات الخصوبة.
وفي النهاية، خلال عام 1994 اكتشف الاقتصادي لانت بريتشيت أقوى مؤشر لمعدلات الخصوبة الوطنية على الإطلاق. وتبين أن هذا المؤشر أو العامل الحاسم بسيط للغاية، ما تريده النساء أو ترغب به وتقرره. ولأن بيانات المسح تركز تقليدياً على تفضيلات النساء بالنسبة إلى الخصوبة وليس على تفضيلات أزواجهن أو شركائهن، فإن العلماء يعرفون عن رغبات النساء أكثر مما يعرفونه عن رغبات الرجال في مجال الإنجاب. واستخلص بريتشيت أن هناك تطابقاً شبه كامل على مستوى العالم بين مستويات الخصوبة الوطنية وعدد الأطفال الذي تقول النساء إنهن يرغبن في إنجابه. وأكدت هذه الخلاصة الدور المركزي الذي تلعبه الإرادة (أو الاختيار) – الإرادة البشرية – في أنماط الخصوبة ومعدلاتها.
لكن إن كانت الإرادة البشرية هي التي تشكل معدلات الإنجاب فما الذي يفسر الانخفاض المفاجئ إلى ما دون مستوى الإحلال عالمياً؟ لماذا فجأة في البلدان الغنية أو الفقيرة على حد سواء باتت العائلات التي لديها طفل واحد أو التي ليس لديها أي أطفال الأكثر شيوعاً؟ حتى اليوم لم يتمكن العلماء من الإجابة عن هذا السؤال. ولأن ليس هناك جواب نهائي في هذه المسألة بات لبعض الملاحظات والتكهنات أن تكون كافية في تفسير المسألة.
ومن الواضح مثلاً أن هناك ثورة في تكوين الأسرة –ثورة تعصف بفكرة تكوين الأسرة من أساسها، وليس فقط بفكرة الإنجاب– تجتاح المجتمعات في جميع أنحاء العالم. وهذا الأمر يحدث عبر التقاليد الثقافية ونظم القيم في البلدان الغنية والفقيرة على حد سواء. وتشمل علامات تلك الثورة ما يسميه الباحثون ظاهرة “الهرب من الزواج”، إذ يتزوج الناس في سن متقدمة أو لا يتزوجون أبداً، وانتشار ظاهرة المساكنة (أي العيش معاً دون زواج) والعلاقات الموقتة، وزيادة أعداد المنازل التي يعيش فيها أشخاص مستقلون، أي بكلام آخر أفراد وحيدون. وتتوافق هذه التغيرات مع ظهور الخصوبة دون مستوى الإحلال في المجتمعات حول العالم، ليس بصورة كاملة ولكن إلى حد كبير.
ومن اللافت جداً في السياق أن هذه التفضيلات الجديدة غدت سائدة بسرعة في كل قارة تقريباً. فالناس الآن في جميع أنحاء العالم يدركون أن هناك طرق حياة مختلفة تماماً عن تلك التي قيدت حياة آبائهم. ومن المؤكد في هذا الإطار أن المعتقدات الدينية – التي تحض عادة على الزواج وتحتفي بتربية الأطفال – باتت تتضاءل في عديد من المناطق والبلدان التي تتهاوى فيها معدلات الولادة والإنجاب. فالناس في تلك البلدان باتوا يقدرون أكثر مظاهر الاستقلالية وتحقيق الذات والراحة. لما يمثله الأطفال من “مصدر إزعاج”، على رغم ما يجلبونه من فرح وبهجة.
ينبغي من التوجهات السكانية في عالمنا اليوم أن تطرح أسئلة جدية تجاه جميع المعتقدات القديمة التي كانت ترى أن البشر بطريقة ما مبرمجون بصورة ما للتكاثر حفاظاً على النوع. إذ إن ما يحصل في الواقع يمكن تفسيره على نحو أفضل عبر نظرية المحاكاة التي ترى أن التقليد (أي المحاكاة) يمكنه توليد القرارات، وتأكيد الإرادة والتعلم الاجتماعي في سياق الترتيبات البشرية. فقد يكون كثير من النساء (والرجال) باتوا أقل حرصاً وإقبالاً على إنجاب الأطفال لأن عديداً من النساء الأخريات باتوا بأطفال أقل. كما أن الندرة المتزايدة للعائلات الكبيرة قد تصعب على البشر العودة لتكوين هكذا عائلات –بسبب ما يسميه العلماء “التعلم الاجتماعي”– وذاك يجعلهم في السياق يطيلون أمد انخفاض مستويات الخصوبة. إذ حتى في عالم يزداد صحة وازدهاراً ويتخطى عدد سكانه ثمانية مليارات نسمة، وتبقى الإرادة (البشرية، أو إرادة الأفراد) سبباً في جعل انقراض كل سلالة عائلية واقعاً على بعد جيل واحد منا، لا أكثر.
بلدان للمسنين
هناك إجماع بين الخبراء والسلطات المسؤولة عن الديموغرافيا اليوم على أن عدد سكان العالم سيبلغ ذروته خلال وقت لاحق من هذا القرن قبل أن يبدأ بالانخفاض. بعض التقديرات تشير إلى أن هذا الأمر قد يحدث خلال وقت قريب مع حلول عام 2053، والبعض الآخر يراه حاصلاً خلال أواخر سبعينيات القرن الـ21 أو في ثمانينياته.
لكن بغض النظر عن موعد حلول هذا المنعطف فإن المستقبل الذي تسود فيه ظاهرة التقلص السكاني سيختلف اختلافاً كبيراً عن حاضرنا. فمعدلات الخصوبة المنخفضة تعني أن الوفيات السنوية ستتخطى الولادات السنوية في مزيد من البلدان، وتلك الظاهرة ستوسع الهامش بين الولادات والوفيات (لصالح الأخيرة) خلال الجيل المقبل. وبحسب بعض التوقعات في هذا الإطار فإن أكثر من 130 بلداً في جميع أنحاء العالم ستكون بحلول عام 2050 جزءاً من “منطقة صافي وفيات” متنام (net-mortality zone) – وهي منطقة تضم قرابة خمسة أثمان عدد سكان العالم المتوقع في ذلك الحين. وبلدان “صافي الوفيات” ستظهر في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بحلول عام 2050، بدءاً من جنوب أفريقيا. وبمجرد دخول المجتمع خلال مرحلة صافي الوفيات فإن أفواج الهجرة المستمرة والمتزايدة المتدفقة إليه هي وحدها القادرة على منع انخفاض عدد السكان على المدى الطويل.
ستشهد قوى العمل مستقبلاً في جميع أنحاء العالم تقلصاً بسبب انتشار معدلات الولادة دون الإحلال خلال الوقت الحاضر. وبحلول عام 2040 ستتراجع أعداد مواطني الدول الذين تراوح أعمارهم بين 15 و49 سنة بصورة عامة خارج أفريقيا جنوب الصحراء. هذه المجموعة العمرية تتقلص بالفعل اليوم في غرب آسيا وشرقها. ومن المقرر أن تبدأ بالانخفاض داخل أميركا اللاتينية بحلول عام 2033، وستنخفض بعد بضعة أعوام داخل جنوب شرقي آسيا (2034)، والهند (2036)، وبنغلاديش (2043). وبحلول عام 2050 يمكن أن يرى ثلثا السكان حول العالم تضاؤلاً في أعداد الأشخاص الذي هم في سن العمل (أي الذين تراوح أعمارهم ما بين 20 و64 سنة) ببلدانهم – وذاك اتجاه في غياب التعديلات والتدابير المضادة المبتكرة، سيحد من القدرات الاقتصادية في تلك البلدان.
العالم الذي يتقلص سكانياً سيكون عالماً هرماً. ويؤدي مسار معدلات الخصوبة المتدنية، والآن معدلات الإنجاب المنخفضة للغاية، في جميع أنحاء العالم إلى خلق هرميات سكانية بالغة الثقل، إذ تبدأ أعداد كبار السن بتجاوز أعداد الصغار والشبان لتغدو المجتمعات الهرمة القاعدة السائدة في كل مكان.
بحلول عام 2040 – ومرة أخرى باستثناء أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى – ستنخفض أعداد الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن الـ50 عاماً. وبحلول عام 2050 ستكون أعداد من هم تحت عمر الـ60 أقل بمئات الملايين مما هي عليه اليوم – أي أقل بنحو 13 في المئة من عددهم الراهن وفق عدة تقديرات صادرة من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وخلال الوقت عينه سيتضخم عدد الأشخاص الذين هم في سن الـ65 وما فوق، وذلك نتيجة لمعدلات المواليد المرتفعة نسبياً خلال أواخر القرن الـ20 وارتفاع متوسط العمر المتوقع.
وفيما يشهد النمو السكاني الإجمالي انخفاضاً فإن عدد كبار السن (المعرفون هنا على أنهم الأشخاص في عمر الـ65 وما فوق) سيرتفع بمعدل كبير في كل مكان. إذ إن هذه المجموعة العمرية المسنة ستتضاعف خارج أفريقيا، لتبلغ 1.4 مليار نسمة خلال عام 2050. كذلك سيكون الارتفاع المفاجئ في أعداد الأشخاص فوق سن الـ80 – “أي الهرمين جداً” – أكثر سرعة. إذ ستتضاعف هذه المجموعة العمرية ثلاث مرات تقريباً في العالم خارج أفريقيا، وسيقفز تعدادها إلى نحو 425 مليون نسمة بحلول عام 2050. قبل أكثر من عقدين بقليل، أقل من 425 مليون شخص في عالمنا كانوا وصلوا إلى عيد ميلادهم الـ65.
شكل الأمور المقبلة التي ننتظرها تقترحها التوقعات المذهلة للبلدان التي تتصدر ظاهرة التقلص السكاني المستقبلي، وهذه أماكن شهدت معدلات مواليد منخفضة باستمرار لأكثر من نصف قرن، ومستويات عمر متقدمة. وفي هذا الإطار تشكل كوريا الجنوبية المثل الأكثر سطوعاً لمجتمع سيتقلص سكانياً بعد جيل واحد فحسب. إذ أشارت التوقعات الراهنة إلى أن كوريا الجنوبية ستسجل خلال عام 2050 معدل ثلاث وفيات لكل ولادة واحدة. وبحسب توقعات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي سيقترب متوسط العمر في هذا البلد من الـ60 عاماً. لذا فإن أكثر من 40 في المئة من سكان البلاد سيكونون من كبار السن، كما سيكون واحداً من كل ستة كوريين جنوبيين فوق سن الـ80. وخلال عام 2050 ستنجب كوريا الجنوبية فقط خمس عدد الأطفال الذين أنجبتهم خلال عام 1961. وسيكون لديها بالكاد 1.2 شخص في سن العمل مقابل كل مواطن مسن.
وإن استمرت معدلات الخصوبة في توجهاتها الحالية داخل كوريا الجنوبية، سيستمر عدد سكان البلاد بالانخفاض بمعدل يفوق ثلاثة في المئة سنوياً – وسيتهاوى بنسبة 95 في المئة على مدار قرن. والذي سيحصل في كوريا الجنوبية يمثل صورة مسبقة عما ينتظر بقية العالم.
في الجزء الثاني من المقال، سيتم استكشاف كيفية تأثير التغيرات الديموغرافية على السياسات الاقتصادية والعلاقات الدولية، مع التركيز على التحديات والفرص التي سيواجهها العالم في ظل التقلص السكاني. كما سيتم تحليل دور الهجرة والتكنولوجيا في مواجهة هذه التحديات.