إيهاب عمر
عاد دوي الاغتيالات إلى العاصمة الروسية موسكو يوم 20 أغسطس 2022، حيث لقيت الناشطة والصحفية داريا دوجينا (1992 – 2022) مصرعها بدلًا من أبيها المفكر الروسي ألكسندر دوجين. يطلق على دوجين في وسائل الإعلام الغربية لقب دماغ بوتين أو عقل بوتين، ولكن تصفح رحلة هذا الرجل فكريًا وسياسيًا –بعيدًا عن حرب الدعاية الغربية على روسيا– يكشف تفاصيلًا تجعله أبعد ما يكون عن كونه معبّرًا أيديولوجيًا عن الرئيس الروسي.
ولد ألكسندر دوجين في 7 يناير 1962 بالعاصمة الروسية موسكو، لأب يعمل بالمخابرات الحربية، ورغم ذلك كره ألكسندر التقاليد السوفيتية الصارمة، ومع نعومة أظافره بدأ ينضم للجماعات النازية الروسية المناهضة للحكم الشيوعي السوفيتي.
ولم يكن دوجين مناهضًا للشيوعية بوجه عام ولكن تحديدًا لسياسات الرئيس السوفيتي ليونيد بريجنيف، وإن لم يصرح بذلك قط، بل تبنى في ذلك الوقت خطابًا مضادًا للشيوعية وإن كان قد أيد سياسات الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين. ومن النازية الباطنية والنازيين الجدد الروس إلى تنظيمات سرية للفاشية الروسية ولاحقًا بعض الجمعيات الغنوصية والصوفية والثيوصوفية، وصولًا إلى الأرثوذكسية السياسية الروسية، فقد تنقل دوجين بين كافة الجمعيات والتيارات التي رفضت الهيمنة الشيوعية على روسيا.
هذا المزيج من الأفكار الروسية المتشددة، أنتج منه دوجين العديد من النظريات السياسية، مثل أن روسيا يجب أن تكون إمبراطورية أوروبية تمتد من دبلن الأيرلندية إلى فلاديفوستوك عاصمة الشرق الأقصى الروسي المطلة على سواحل اليابان.
وعقب تفكك الاتحاد السوفيتي، أطلق دوجين العنان لأفكاره مستغلًا حرية النشر النسبية التي تمتعت بها روسيا عقب سقوط الحكم الشيوعي، وأسس الحزب البلشفي الوطني ثم حزب أوراسيا، وبدأ في نشر أفكاره حول وجود وحدة أوروبية آسيوية عاصمتها روسيا في عدد من دول الجوار الروسي مثل تركيا وإيران، ونادى بتوحيد جميع الشعوب الناطقة باللغة والثقافة الروسية في دولة واحدة.
أغلب أفكار دوجين ليس لها صدى في المجتمع الروسي سواء الشعبي أو الأكاديمي، خاصة أنه يهوى ابتكار مصطلحات ليس لها أصل أيديولوجي ثم التنظير لها، مثل “النظرية السياسية الرابعة” و”نظرية الطابور السادس” و”نظرية الطابور السابع”، ونظرية “إمبراطورية أوروبية آسيوية”.
هذا بجانب أن الكثير من أفكاره ما هي إلا اقتباسات من مفكرين سابقين مع وضع تعديلات لها تفقدها رزانتها ودقتها؛ فقد اقتبس العديد من الأفكار من الفيلسوف البلجيكي الشيوعي جان فرانسوا تيريارت Jean-François Thiriart (1922 – 1992)، والأخير تعاون مع النازية الألمانية ضد بلاده في سنوات الحرب العالمية الثانية وسجن لفترة قبل أن يخرج من السجن ويدعو إلى القومية الشيوعية الأوروبية وإنشاء إمبراطورية شيوعية ضخمة، ونظر إلى فكرة الوحدة الأوروبية والاتحاد الأوروبي بوصفها اتحادًا شيوعيًا وليس ليبراليًا كما هو الحال اليوم، وحاول تأسيس الحزب الوطني الأوروبي لتطبيق فكرته حول الوحدة الأوروبية ولكنه فشل.
واقتبس دوجين كذلك نصوصًا مطولة من المؤرخ الألماني هيرمان ورث (1885 – 1981) الذي عاصر الحرب العالمية الأولى والثانية وسقوط ألمانيا النازية، وروج دوجين أن تلك الأفكار تعالج ما أسماه الفراغ الأيديولوجي عقب سقوط الشيوعية والليبرالية والديموقراطية، علمًا بأن هذا المؤرخ الألماني أثناء عمله مع النازيين قد أسس آننإربه Ahnenerbe أو كما أطلقت عليه الحكومة الألمانية النازية “مجمع الأجداد”، وهو بنك لكافة الأفكار الثقافية العنصرية التي تمجد سيادة الجنس الآري على باقي الأجناس البشرية.
طبيعة العلاقة بين بوتين ودوجين
على عكس الترويج الغربي لفكرة أن دوجين مستشار للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أو أن له هيمنة فكرية على الرئيس الروسي، فإن دوجين انتقد بوتين مرارًا، ووصف بعض رجالات إدارة بوتين بأنهم طابور سادس ليبرالي في الكرملين، وانتقد عدم ضم روسيا لجورجيا بالكامل في حرب العام 2008 بين البلدين.
ولكن الكرملين تنبه إلى أن لأفكار ألكسندر دوجين انتشار واسع بين الانفصاليين الموالين لروسيا في جورجيا وأوكرانيا، إضافة إلى بعض القوميين في تركيا وإيران، ما جعل الكرملين يقرر توظيفه للتواصل مع الانفصاليين في جورجيا عقب حرب 2008 وكذلك مع بعض الانفصالين في أوكرانيا بعد الحرب الأوكرانية.
يعد ألكسندر دوجين الأب الروحي للنازيين الجدد الموالين لروسيا في المناطق الانفصالية في جورجيا وأوكرانيا، فالنازيون الجدد ليسوا في صفوف كييف فحسب ولكن يوجد تيارات من النازيين الجدد من خلفية أرثوذكسية تحارب في شرق وجنوب أوكرانيا ضد النازيين الجدد من خلفية كاثوليكية الذين يحاربون في صفوف المقاومة الأوكرانية.
إن أبسط مقارنة بين أفكار بوتين ودوجين سوف تكشف أن بوتين بعيد تمامًا عن “مزيج التطرف” الذي يعتنقه دوجين ما بين النازية والفاشية والغنوصية والثيوصوفية والأرثوذكسية السياسية والصوفية المتشددة، والأهم أن بوتين قد بنى رؤيته وأفكاره من قبل أن يبدأ دوجين في نشر كتاباته وافكاره، بل إن رؤية بوتين ودوجين تتناقض بشدة في العديد من الملفات. ولكن نظرًا إلى أن للرجل نفوذ فكري على بعض التيارات المتحالفة مع روسيا في جورجيا وأوكرانيا، فإن الكرملين قرّبه للحاشية دون اتصال مباشر مع بوتين.
الإعلام الغربي وجد أن وصف ألكسندر دوجين بأنه عقل بوتين سوف يثري خطة الغرب الإعلامية لشيطنة الرئيس الروسي؛ إذ يكفي عرض بعض من أفكاره على الرأي العام الغربي حتى يحدث فزعة من فكرة أن تكون تلك هي “دماغ بوتين” حقًا.
ورغم وجود خطة لحرب المعنويات والوعي توظف مصطلح دماغ بوتين، ولكن أيضًا الغرب مليء بالكتابات التي انتقدت تضخيم دور دوجين، منهما المؤرخ والباحث الجيوسياسي المخضرم مارك جالوتي Mark Galeotti الذي أشار في مقال لمجلة The Spectator العام الجاري إلى أن تأثير دوجين في السياسة الروسية “ضئيل للغاية” وأنه هو الذي يحاول تقديم نفسه للإعلام الدولي بوصفه شخصًا مؤثرًا فكريًا في بلاده، وأن وصف “راسبوتين الجديد” هو وصف أبعد ما يكون عن الحقيقة حينما يتم تناول مسألة ألكسندر دوجين.
لماذا حاولوا اغتياله؟
العديد من الأقلام العربية كتبت أن محاولة اغتيال دوجين ما هي إلا إشارة إلى أن الغرب –المتهم الأول في كتاباتهم– حاول اغتياله لأن الغرب مهتم بالفكر لذا حاول اغتيال فيلسوف وليس رجلًا عسكريًا! ولكن على الضفة الأخرى، إن محاولة اغتيال دوجين لم تكن لأنه رجل فكر، أو حتى من الدائرة المقربة من الكرملين في لحظة ما هي لحظة الحرب الأوكرانية.
وإنما يعود ذلك إلى كونه ضابط الاتصال بين الكرملين وبعض العناصر الانفصالية الموالية لروسيا في أوكرانيا، وله تأثير فكري وروحاني على الحركات الانفصالية في أوكرانيا وجورجيا، وبالتالي فالهدف كان عسكريًا بحتًا وليس فكريًا أو ثقافيًا. ولعل الهدف الثاني في عملية الاغتيال هي إرسال رسالة إلى الكرملين بأن سلاح الاغتيالات قادر على الوصول إلى قلب العاصمة الروسية موسكو، وعادة ما تستهدف الرسالة العنصر الأضعف في الحماية الأمنية.
.
رابط المصدر: