«عقيدة بايدن».. أي مستقبل للبشرية؟!

د.محمد حسين أبو الحسن

 

بعد ترقب طويل، أصدرت الإدارة الأمريكية وثيقة استراتيجية الأمن القومي، نهاية الشهر الماضي، شغلت 48 صفحة في أربعة أقسام: الأول يحدد رؤية الإدارة للتهديدات التي ينبغي مواجهتها، الثاني يطرح تصورًا لتنمية عناصر القوة الأمريكية، أما الثالث فيصنف أولويات واشنطن حول العالم، بينما يعرض الرابع رؤيتها لكل إقليم على حدة. تضع الوثيقة يدها على تحديين استراتيجيين، الأول انتهاء حقبة ما بعد الحرب الباردة، وبدء المنافسة بين القوى الكبرى لتشكيل الحقبة التالية لها، وتشير الوثيقة إلى أنه لا أمة، في وضع أفضل للنجاح والتغلب على منافسيها الأساسيين أكثر من الولايات المتحدة،.

تقدم استراتيجية الأمن القومي -أو “عقيدة بايدن”- مقاربة لأهداف الإدارة الأمريكية وآليات تحقيقها، في عالم بات أكثر تعقيدا، تقول: نريد نظامًا دوليًا حرًا ومنفتحًا ومزدهرًا وآمنًا، يسمح للناس بالتمتع بحقوقهم وحرياتهم الأساسية، يوفر لجميع الدول التي تراعي هذه المبادئ فرصة المشاركة في تشكيل القواعد الجديدة لنظام مزدهر، من حيث أنه يمكّن جميع الدول من رفع مستوى معيشة مواطنيها، نظام آمن خالٍ من العدوان والإكراه والتخويف. بيد أن الاستراتيجية تلمح إلى نزال حقيقي بين الأنظمة الديمقراطية بقيادة الولايات المتحدة وأنظمة تعدها سلطوية مستبدة كالصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية.

وهي ترسم خريطة طريق؛ لضمان تنفيذ الأهداف الأمريكية، بأن تعيد أمريكا بناء قواها الذاتية، خاصة في البحث العلمي والتكنولوجيا والأمن السيبراني والصناعة والتجارة وكفاءة الحكومة، أيضًا تحديث جيشها وتعزيز قوتها العسكرية، مع السعي إلى بناء تحالفات في جميع القارات، وذلك من أجل المنافسة مع الخصوم، وتشكيل قواعد (الحقبة الجديدة) عالميًا، بضبط معايير دولية لقضايا الديمقراطية والتجارة والتكنولوجيا، على مقاس المصالح الأمريكية؛ والتعاون مع الحلفاء كدول الناتو وأوكوس وغيرهما، لمواجهة الأخطار والتحديات المشتركة. في هذا السياق، يمثل تغيّر المناخ المشكلة الأكبر وربما الوجودية لكل الأمم، ثم الأوبئة وأزمات الطاقة والاقتصاد العالمي، بتأثيراتها على الأمن الغذائي والاستقرار الأمني وانتشار الإرهاب والصراعات.

وبرغم رصد الاستراتيجية تصاعد المنافسة الجيوسياسية مع القوى الأخرى، فإنها تعلن أن أمريكا جاهزة للتعاون مع هذه القوى، بمواجهة التحدّيات المشتركة، ثم تلقي الاستراتيجية باللوم على الصين؛ بذريعة أنها تعرض تعاونًا مشروطًا، هنا تصل الوثيقة إلى بيت القصيد أو الغاية الحقيقية من وراء كلماتها المنمقة، عندما تشير إلى صراع الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية؛ ترى الوثيقة روسيا تهديدًا للنظام الدولي، تنتهك قوانينه بتهور، مثلما فعلت في أوكرانيا.

لكن الخطر الفعلي على أمريكا يأتي من الصين؛ تراها استراتيجية الأمن القومي المنافس الوحيد لأمريكا الذي لديه النية لإعادة تشكيل النظام الدولي، والقوة الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية لتحقيق هذا الهدف. ثم تستدرك الوثيقة بإصرار: إن واشنطن لا تبتغى حربًا باردة مع بكين، ولكن بنودها حول بناء تحالفات ضد الصين، وحجب مصادر التكنولوجيا المتقدمة عنها، وحصارها داخل حدودها ومسألة تايوان، وعسكرة المحيط الهادئ، سياسات تصبّ كلها في قلب الحرب الباردة، تبدو الاستراتيجية مرتبكة في هذا الجانب، ترى النظام الصيني سلطويًا عدائيًا، في الوقت نفسه تبدي استعدادًا للتعاون مع دول غير ديمقراطية؛ شريطة الاعتراف بالهيمنة الأمريكية.

تكرّس (عقيدة بايدن) ثنائية متضادة، مع/ ضد النظام العالمي، ما يجعله ساحة صراع بين القوى العظمى، وبالأخص أمريكا والصين، ومن وراء كل منهما عدد من الحلفاء قل أو كثر، ما يهدد فرص التعايش السلمي والتناغم الحضاري الضامر بين الشرق والغرب. يمارس العم سام لعبة صفرية مع التنين الآسيوي، ما يلقي ظلال الشك على الادعاءات الأمريكية بإدارة منافسة مسؤولة بلا صراع مع الصين.

من ثمّ اعتبرت صحيفة جلوبال تايمز الصينية أن واشنطن فقدت عقلها في سعيها إلى قمع بكين واحتوائها. وقالت الصحيفة: إننا لو قارنا مخططات العملاقين؛ فسوف نلمس أن توقعات واشنطن للعقد القادم مملوءة بالصراعات والمعادلات الصفرية، تبحث عن أعداء في كل مكان، في المقابل تنهج الصين نهجًا مسالمًا يبني صداقات ودية، وتركز على التنمية والتعاون المربح مع بقية الدول، ما يجعل التزام الوثيقة الأمريكية بعدم السعي إلى صراع أو حرب باردة مجرد قسَم رخيص، بتعبير الصحيفة.

هنا وجه آخر للارتباك، تؤكد الوثيقة انتهاء حقبة ما بعد الحرب الباردة، لكنها آثرت الصمت حول طبيعة العصر الحالي؛ ما يؤجج المخاوف من السعي الأمريكي لتحشيد الحلفاء؛ بغية إطلاق منافسة جيوسياسية ضد الصين، مثلما سبق أن نجحت ضد روسيا في أوكرانيا.

إن استراتيجية الأمن القومي مرآة مقعرة، تعكس مخاوف وطموحات النخبة الأمريكية، تظهر بنودها أن العالم الآن أمام منعطف خطير، وأن السنوات العشر المقبلة ستكون حاسمة، في تحديد ملامح النظام الدولي الذي سيخرج من رحم الصراعات الراهنة بين القوى الكبرى، لاسيما أمريكا والصين، صراعات أنانية وجشعة للغاية، من جانب الطرفين؛ لأنها تهدد وجود البشرية برمتها، وقد تغلق نافذة الفرصة أمام معالجة التحديات المشتركة، كالتغير المناخي والتلوث البيئي والمجاعات وتدهور أحوال معظم شعوب الكوكب. إن عودة الحرب الباردة أو الساخنة، في هذه الظروف بمثابة إعلان حرب وحشية على الإنسانية بأسرها، فأي طريق تسلك البشرية؟!. الزمن وحده كفيل بالإجابة.. لكن ماذا عن الشرق الأوسط في عقيدة بايدن؟.. ذاك حديث آخر.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/74486/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M