أحمد الباز
يمكن القول إن فتح ومتابعة واشنطن لملف مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي كان أمراً سيحدث في كل الأحوال، إلا أن هذه المتابعة قد تم تعليقها حينها لمصادفة وقوع الجريمة أثناء رئاسة دونالد ترامب، وهي القضية التي لم تحوز اهتمامه باعتبارها لا تحتل مكاناً ضمن منظومة “القيم” الخاصة به على المستوى الشخصي، وبالتالي يمكن القول إن الموقف الأمريكي في ذاك الوقت كان (ترامبياً) أكثر من كونه (أمريكياً).
بالتوازي مع ذلك؛ لا يمكن وصف الدورة الرئاسية التي قضاها دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة بفترة عادية، حيث لم يتبع ترامب أي كتالوج متعارف عليه لإدارة العلاقات الدولية، ولم تتمتع قراراته بأي معايير استراتيجية، كما أنه أضر كثيراً بموقع الولايات المتحدة الأمريكية كقوة مهيمنة لصالح قوى دولية أخرى، ولم تكن لديه تصورات بشأن إنهاء الصراعات السياسية أو العسكرية، بل يمكن القول أنه غض الطرف أو أعطي ضوء أخضر لصراعات حتى تندلع، كما فلتت منطقة الشرق الأوسط قليلاً -من وجهة نظر أمريكية- من دائرة السطوة الأمريكية، وتحررت العديد من الدول من (رُهاب أمريكا).
وبالإشارة إلى التحول الحاصل بدخول جو بايدن للمكتب الرئاسي، فإن مهمته الرئيسية خلال الأشهر الأولى لافتتاح دورته الرئاسية ستكون إزالة إرث دونالد ترامب، وحتى ينجح في هذه المهمة فإنه يحتاج لأمرين، أولهما: تحركات عملية بأن (عهداً بائداً) قد ولى، أو بمعنى أخر أن (بايدن ليس ترامب)، وهو الأمر الذي قام به بالفعل بعد ساعة واحدة فقط من حلفه القَسم بإلغاء 17 قراراً تنفيذياً كان قد وضعها سلفه ترامب. ثانيهما: إرسال إشارة إلى الحلفاء الرئيسيين بأن الولايات المتحدة تعود إلى نمط علاقات ما قبل ترامب، أو (إعادة الضبط) بحسب توصيف الخارجية الأمريكية، وأن (القواعد تغيرت) بحسب توصيف جو بايدن نفسه. ولترجمة هذا التحول إلى واقع عملي فإن الإدارة الجديدة قامت باستدعاء ملف مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي واستخدامه لتحقيق هذا المسعى، بما يوفر بالتبعية أفضل إسناد لخطاب حقوق الإنسان الذي كان ركناً أساسياً في البرنامج الانتخابي لجو بايدن.
بالتالي؛ نحن لسنا بصدد قطيعة بقدر ما أننا بصدد إعادة ضبط للعلاقات والعودة بها إلى عهد ما قبل ترامب، حيث صفة هذه العلاقات في ذاك الوقت أنها علاقات استراتيجية مع السعودية كحليف عربي خليجي إسلامي مهم للغاية. خصوصاً أن الأزمات الرئيسية التي تطلع الإدارة الجديدة للتعامل معها غير منقطعة الصلة عن المملكة العربية السعودية، خصوصاً في اليمن وإيران والمغازلات الصينية والروسية للمملكة وستحتاج واشنطن لتعزيز شراكتها مع الرياض من أجل ترويض هذه الأزمات أو حلها، وبالتالي أي ابتعاد أمريكي عن المملكة العربية السعودية أو استنفار للكبرياء السعودي أكثر من اللازم سيكون له آثار سلبية على مساعي الإدارة الجديدة لحل هذه الأزمات المستعصية، خصوصاً أن إدارة بايدن قد وضعت على رأس أولوياتها إنهاء الحرب في اليمن والعودة للاتفاق النووي والحد من النفوذ الصيني، وهي كلها أولويات محكوم عليها بالفشل دون تعاون سعودي. عوضاَ عن أن بايدن لا يمكنه أن ينتقل بالعلاقات مع الرياض إلى مستوى أعمق دون أن يقوم بتجفيف قضية خاشجقي حتى لا تصبح صداعاً تشعله أطراف دولية ومحلية أمريكية كلما أراد أن يتقدم نحو السعوديين.
بدورها، من الواضح أن المملكة العربية السعودية قد أجرت عملية استباقية منذ أن لاحت بوادر فوز جو بايدن متمثلة في تعبيد الطريق أمام حل الأزمة الخليجية. محاولة منها لطي الأرض طياً تجاه الإدارة الجديدة، فالرياض تعلم بأن بايدن يحمل أمالاً بشأن العودة إلى الاتفاق النووي، ولا تود أن تفاجئ بجبهة إيرانية قطرية برعاية أمريكية في قلب الخليج، ولذلك كان قرار السعودية بالدفع نحو حل الأزمة في أحد أشكاله اقتراب من الإدارة الجديدة.
ومن الواضح أن الإدارة الجديدة تعلم أن السعودية قلقة من الهرولة الأمريكية تجاه إيران، إلا أن ردود الأفعال الخشنة الأخيرة التي قام بها الجيش الأمريكي للرد على التجاوزات المسلحة المتمثلة في الهجمات الصاروخية التي قامت بها ميليشيات تابعة لإيران في إربيل العراق قد مررت رسالتين؛ الأولى، لإيران بأن مساعينا للعودة إلى الاتفاق النووي لا تعني بأي حال من الأحوال تهاوناً مع أي تجاوز قد يطال الحلفاء الأمريكيين أو المصالح الأمريكية في المنطقة. والرسالة الثانية للسعودية بأن عودتنا للاتفاق لا يجب أن تتسبب في قلق للحلفاء لأننا نجيد الفصل بين السياسي والعسكري.
تعلم الولايات المتحدة أن المملكة العربية السعودية لديها العديد من أوراق الضغط إن قامت واشنطن بعبور خطوط حمراء تمس الكبرياء السعودي، كالحديث عن معاقبة ولي العهد، أهم هذه الأوراق النفط والاستثمارات السعودية، عوضاَ عن الشراكات الأمنية الهامة بالمنطقة التي تحتل المملكة ركناً أساسياً فيها. بالإضافة إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية تعلم أن الصين تستفيد من هكذا توتر بين الرياض وواشنطن.
ولأن الخطوة القادمة هي إنهاء الحرب في اليمن، وهي الحرب التي تتطلع المملكة العربية السعودية إلى إنهائها على قدر التطلع الأمريكي، فإن الطرفين في أمس الحاجة لبعضهما البعض لتيسير هذه المهمة، فلا المملكة العربية السعودية تستطيع أن تتخذ هذا القرار دون أن تحصل على ضمانه واضحة من الولايات المتحدة الأمريكية بأنه لا وجود لهجمات حوثية في العمق السعودي بعد الآن، وهذه الضمانة لن يتم الحصول عليها بالطبع إلا إذا تم تفعيل مسار العودة إلى الاتفاق النووي، حيث ستحصل واشنطن على هذه الضمانة من راعي الحوثيين أي إيران. ولا الولايات المتحدة تستطيع وضع حد للحرب في اليمن دون إقناع السعودية بذلك، حيث القرار يجب أن يكون سعودياً في نهاية الأمر. وبالتالي نحن أمام علاقات تبادلية تمر بمرحلة (إعادة ضبط) وليس (قطيعة)
.
رابط المصدر: