د. مهدي فدائي مهرباني
فضيلة الدكتور مهدي فدائي مهربان باحث ومتخصِّص في العلوم السياسية. ويشغل حاليًا منصب عضو اللجنة العلمية في كلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة طهران. من بين مؤلّفاته: (نقد على كتاب التحليل السياسي الحديث)، و(الحكمة السياسية الإسلامية)، و(أسس التعرّف على مشروعية علم الاجتماع)، و(التنوير الديني والبروتستانتية الخيالية)، وغيرها من الكتب الأخرى. كما أن لفضيلته ـ بالإضافة إلى تدريس المسائل والأبحاث التخصّصية في حقل السياسة ـ إطلالة مناسبة على هذا الحقل من زاوية موضوعات الفلسفة والعرفان.
«المحرّر»
في هذا الحوار نتناول أبرز المسائل المتعلقة بالحداثة السياسية ومشكلاتها:
* لو أمكن لنا تقسيم الحداثة ـ في بعض تقسيماتها ـ إلى أربع مساحات: الحداثة السياسيّة، والحداثة العلميّة/ التقنيّة، والحداثة الجماليّة، والحداثة الفلسفيّة. أين تقع الحداثة السياسيّة في مجال المعنى والمفهوم؟
الحداثة السياسيّة هي في الأساس ذلك الجانب من الحداثة التي تخوض في البُعد السياسي من الإنسان والمجتمع الحديث. أو بعبارة أخرى: إنّها إجابة سياسيّة عن واقع الإنسان والمجتمع الحديث. في الحداثة السياسيّة يتمّ بحث الواقع السياسي للإنسان الحديث قياسًا إلى المرحلة التّراثية والتقليديّة. وهي مسائل، من قبيل: حقوقه السياسيّة، والمشروعيّة السياسيّة، ومصدر المشروعيّة، ونظائر ذلك مما يرتبط بالأبعاد السياسيّة من الحداثة. إذا كان الله أو الإرادات الكونيّة في العصر التقليدي هي مصدر المشروعيّة السياسيّة، فقد اكتسبت المشروعيّة السياسيّة في عصر الحداثة جانبًا علمانيًّا. والبحث هنا حاليًا لا يدور حول السّلطة المستبدّة أو الديمقراطية؛ إنّما البحث يدور حول مصدر المشروعيّة. فإنّ الحكومات الدكتاتوريّة والمستبدّة في العصر الحديث لا تزال علمانيّة، ولها في الأساس جذور في الرؤية السياسيّة التي بدأت مع نيكولاي ميكافيلي. حيث الأمير في تلك الرؤية هو المرجع في مركزيّة السّلطة. وأمّا في الآراء الأكثر ديمقراطية، تتجلّى السياسة بوصفها حقًّا فرديًّا. فإنّ فردانية جون لوك ـ على سبيل المثال ـ تقوم على نوع من الذرّية العلمية التي كانت في الغالب تطرح في العلوم التجريبية، ثم تسلّلت لاحقًا إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية. وهنا يكون الأشخاص بمثابة الذرّات، حيث كان العلم في تلك المرحلة يذهب إلى الاعتقاد بأنّ جميع الأشياء تتكوّن منه. وكما أنّ كلّ شيءٍ يتألّف من ذرّات مختلفة، كذلك المجتمع يتألّف من أفراد، وعلى هذا الأساس فإنّ الحقوق السياسية بدورها تتعلّق بهؤلاء الأفراد. ومن هنا فإنّ كلتا الرؤيتين (الاستبدادية والديمقراطية) تحتوي على موضوعيّة في الحداثة السياسية. ويكمن الاختلاف الأصلي بين الحداثة السياسية والمنهج التقليدي في اختيار الرؤية العرفانية بوصفها بديلاً عن الرؤية القدسيّة.
* لقد أشرت بوجه عام إلى خصائص الحداثة السياسية في سياق جوابكم.. هل تذكرون لنا الأركان الأساسية لهذه الخصائص؟
يمكن اعتبار العلمانية، ونقد التراث، وتأصيل الإنسان، والرؤية الأحادية للتاريخ السياسي للإنسان، والتطلعات السياسية والاجتماعية الجامحة، والرؤية اليوطوبية إلى عالم الوجود، وتوهّم علمية حقل العلوم الإنسانية، بوصفها من خصائص الحداثة السياسية. وبطبيعة الحال هناك آراء مختلفة حول تفسير الحداثة السياسية، ومن ذلك أن موريس باربييه ـ على سبيل المثال ـ يذهب في تفسيره للحداثة السياسية إلى تعريفها على أساس شاخص الدولة. وعلى هذا الأساس، فإنّ الكلام عن الحداثة السياسية هو في الدرجة الأولى كلام عن الدولة الحديثة. ومن هذه الناحية فإنّ النظام السياسي للدولة/ الشعب، يمثّل الخصيصة الأصلية للحداثة السياسية. في هذه الرؤية إلى السياسة يكون للإنسان السياسي تعريف خاصّ أيضًا. إنّ الإنسان في العصر الحديث هو مثل الإنسان في العصر القديم، لا يتمّ تعريفه في إطار العلاقة القائمة بين الحاكم والمحكوم فقط، بل هو مواطن يكتسب مفهومه في نسبته إلى مساحة سياسية خاصّة. بل إنّ باربييه يذهب حتى إلى القول بأنّ خصيصة الحداثة السياسية لا تشبه حتى الحرية السياسية للمواطنين أو شيء نظير ذلك؛ إذ يمكن العثور على الحرية حتى في مرحلة ما قبل الحداثة أيضاً. فهو يزعم بأنّ الخصيصة الأصلية للحداثة السياسية تكمن في الفصل بين الدولة السياسية والمجتمع المدني، والفصل بين المساحة العامة والمساحة الخاصة، والمواطن والفرد، حيث ظهر ذلك للمرّة الأولى في القرن الثامن عشر للميلاد. وفي المجموع يمكن القول: في المرحلة الحديثة تبلور إدراك جديد عن الإنسان السياسي، وعن الدولة، والمواطنة، وحدود المساحة السياسية، والعلاقات السياسية بين الإنسان والسلطة الحاكمة، وكان هذا الإدراك الجديد يتميّز من العلاقات السياسية في المرحلة القديمة، ويمكن اعتبار هذا الإدراك الجديد للعلاقات السياسية بشكل عام هو الحداثة السياسية.
* لقد وجدنا أنّ النظام الإقطاعي بوصفه واحدًا من الأركان الحضارية في العصور الوسطى يفقد اعتباره في عصر النهضة؛ فهل يمكن اعتبار الحداثة السياسية بمنزلة القفزة النوعيّة في إلغاء الإقطاعية؟
لقد كان النظام الإقطاعي ـ كما نعلم ـ نظامًا شموليًّا، وكان يحتوي على أسلوب حياة خاصّ به. إنّ النظام الإقطاعي كان مشتملاً على مختلف الأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والاعتقادية، حيث تمكّن في العصور الوسطى من بلورة النظم السياسي للشعوب المسيحية. لقد كان النظام الإقطاعي يقوم على أساس تقسيم المجتمع إلى طبقتين، وهما: الطبقة العليا، والطبقة السفلى، وذلك ضمن عنوان الإقطاعيين والخدم. وقد كان الإقطاعي أو النبيل هو الذي يمتلك السلطة بسبب امتلاكه للأرض والإقطاعات، وكان بذلك يعمل على إدارة وحدة سياسية تتمتع بالحكم الذاتي. وأما الخدم فهم في الواقع عبيد يرزحون تحت ملكية الإقطاعي، وكانوا في الكثير من الحالات ينتقلون مع الأرض. لقد كان الإقطاعيون يتمتعون باستقلال واكتفاء ذاتي، وكانوا يحصلون على كل ما يحتاجون إليه تقريبًا. وبطبيعة الحال كانت هناك طبقة أخرى تحمل عنوان الفرسان وهم من المقاتلين الذين كانوا يتحالفون مع الإقطاعين. وكان رجال الكنيسة والملوك في العادة من كبار الإقطاعيين. إن هذا النظام القائم على الأسياد والعبيد، لا ينتهي عند هذه الوجوه فقط، وقد بيّن هيغل في رسالة الأسياد والعبيد ـ مصيبًا في ذلك ـ ما هي التأثيرات الخارجية التي تتركها العلاقات بين السادة والعبيد، وكيف تبلورت هذه العلاقات. والذي يحظى بالأهمية هو أن هذه الرؤية القروسطية كانت تشتمل على أنحاء سكولائية (مدرسية) أيضًا، وكانت امتدادًا لتفسير أرسطو في تقسيم الناس إلى أحرار وعبيد، حيث شاع هذا التقسيم في أوروبا بواسطة التراث السكولائي. وعلى الرغم من أن هذه الرؤية كانت موجودة قبل توما الأكويني والسكولائية أيضًا، ولكن من خلال قراءته المسيحية لأرسطو، حظيت آراء أرسطو بالقداسة. فقد كان أرسطو يرى أن الإنسان يولد من رحم أمّه حرًّا أو عبدًا، والعبد يكون بحكم الآلة الحيّة، ويتم لذلك استخدامه في الأمور الدنيا. لك أن تتصوّر من أين نشأ هذا التصوّر عن الإنسان، وهو التصوّر الذي شكّل مادةً لاستخدام الغالبية من الناس في العصور الوسطى، بالإضافة إلى تلك الإنثروبولوجيا السلبية في الديانة المسيحية التي تعتبر وجود الإنسان في الأساس مدنّسًا بالمعصية الأولى! وعليه فمن الطبيعي أن لا يُؤدّي هذا الأمر إلى شيء آخر غير منظومة محاكم التفتيش. وإنّ ظهور عصر الإصلاح الديني في ألمانيا والهجوم على المنظومة الكنسية المتشدّدة من قبل مارتن لوثر وكالفين، كان يحظى بالأهميّة من هذه الناحية. فقد عمد هؤلاء إلى إدخال نوع من الفردانيّة إلى المسيحية حيث تبتعد عن النظام الكنسي والإقطاعي. وقد ذهبوا إلى الاعتقاد بضرورة ترجمة الكتاب المقدس، وأن لا يتم الاقتصار على نشره باللغة اللاتينية فقط؛ حيث لا يمكن قراءته لغير العلماء المسيحيين، بل يجب العمل على تعميمه ليتمكّن جميع الناس من قراءته بأنفسهم. وقد أضحى الإصلاح الديني، وهذه القراءة الجديدة للدين، واحدة من دعائم الحداثة السياسية في المراحل اللاحقة.
* إذا اعتبرنا الحداثة السياسية مسارًا في اتّجاه تحقيق الحريّة، فكيف تحلّلون الحريّة في الحضارة الغربيّة بعد تصرّم كلّ هذه القرون وبعبارة أخرى: كيف تقاربون النجاحات التي حقّقتها الحداثة السياسية وفي المقابل ماذا عن الإخفاقات التي منيت بها حتى الآن؟
كما سبق أن ذكرت فإنّ موريس باربييه ـ الذي تأمّل بشكل خاص في الحداثة السياسية ـ لا يرتضي القول بأنّ الحداثة السياسية تمثّل مسارًا في إطار تحقّق الحريّة. ولكن علينا أن نرى في المجموع ما هو المراد من الحريّة؟ كان أفلاطون يذهب إلى الاعتقاد بأنّ الفرد إذا كان يسعى في العالم إلى مجرّد الحصول على المتعة الماديّة فقط، فإنّ الديمقراطية سوف تكون من أفضل الحكومات بالنسبة له. وأمّا إذا كان يبحث عن شيء أسمى من ذلك، فإنّ الديمقراطية سوف تكون نظامًا ناقصًا. وهكذا الأمر بالنسبة إلى الحريّة أيضًا. فعلينا في البداية أن نرى ما هو المراد من الحرية؟ إنّ ماهيّة الحريّة في الحداثة السياسيّة، ليست حريّة مطلقة؛ بمعنى أنّ الحريّة تشتمل على تحرّر من جهة، وعلى تقيّد من جهة أخرى. وكان جان جاك روسو يقول: (على كلّ مواطن أن يحظى بعدم التبعيّة الكاملة للآخرين، وأن تكون له تبعيّة كاملة إلى الدولة). وبعبارة أفضل: إنّ الحداثة في مفهوم الحريّة تمثّل تعريفًا للحريّة على أساس الحريّة المدنيّة والسياسيّة. إنّ الإنسان في العالم الحديث ـ على حدّ تعبير روسو ـ يتنازل عن حرّيته الطبيعيّة التي يتمتّع بها في الوضع الطبيعي، كي يحظى بالحريّة السياسيّة التي تتبلور في الحالة المدنيّة. ومن هنا فإنّ الحريّة المنشودة لجان جاك روسو ـ خلافًا لجون لوك ـ ذات طبيعة جماعيّة ومدنيّة، وليست ذات طبيعة فرديّة. وبعبارة أفضل: إنّ الإنسان يحصل على الحريّة من خلال العقد الاجتماعي. وعلى هذا الأساس عندما نتحدّث عن الحريّة، علينا أن نحدّد أيّ فيلسوف حداثوي تنتمي هذه الحرية المنشودة لنا، وما هي الحرية من وجهة نظرهم؟ الأمر الآخر: ما مدى صحّة هذا التفسير القائل باعتبار الحداثة السياسية مسارًا في إطار تحقّق الحريّة؟ فقد ذهب ألكس دوتوكفيل ـ مثلاً ـ بعد الثورة الفرنسية، إلى الاعتقاد بأنّ الأهداف الديمقراطية في الثوريّة الفرنسية ـ بوصفها واحدة من أهم المنعطفات في تاريخ تبلور الوضع الحديث للإنسان ـ لم يكتب لها التحقّق. وكان دليله الرئيس على ذلك هو أنّ أساس الديمقراطية يقوم على العدالة وليس الحريّة. إنّ الحريّة بمعزل عن العدالة تخلو من القيَم. وعلى هذا الأساس فإنّ منظري الثورة الفرنسيّة قد أخطأوا في التأكيد المفرط على الحريّة. لقد ذهب دوتوكفيل إلى الاعتقاد بأنّ هذا الأمر هو الذي أدّى بالثورة الفرنسية إلى تحقيق الانتصار، وإفضائها إلى دكتاتورية من نوع جديد. كما ذهب دوتوكفيل إلى القول: بعد هذا الإخفاق، حيث تكبّد الثوريون ـ الذين قادوا الثورة الفرنسية ـ خسارة في العالم الواقعي، جنحوا نحو تأسيس عالم في الخيال، وأخذوا يتحدثون هنالك عن أهداف ثورتهم. وقد تولّى هذا العالم الخيالي كلّ من الأدباء والشعراء والمستنيرين. ولهذا السبب فقد اختار دوتوكفيل لهذا السنخ من ممارسة السياسة مصطلح (السياسة الأدبية). والخصيصة البارزة في السياسة الأدبية تكمن في تفسير العالم الخارجي على أساس تمنياتهم الوهميّة. إنّ الواقع الراهن للقوى العظمى في العالم الغربي في الوصول إلى الحريّة أسوأ بكثير من واقع ما بعد الثورة الفرنسية. وإن كان إثبات الشيء لا يعني نفي ما عداه؛ إلا أنّ هذا الكلام لا يؤتى به للمقارنة؛ بمعنى أنّ هذا الكلام لا يعني أنّ واقع الحريّة في بلدان منطقتنا مثالي للغاية. وإنّما كلامنا الآن يقتصر على واقع المجتمعات الغربية. فإذا ما استثنينا بعض البلدان الخاصّة في العالم الغربي، فإنّ الحداثة السياسية في البلدان الغربية تواجه تحديات خاصّة. إنّما النقطة الجديرة بالملاحظة في باب أساليب الحكم في الغرب هي أن الحكام والنظام السياسي يتمتعون بقدرات كبيرة تمكّنهم من إقناع المواطنين بالشعور بالحرية. بيد أنّ الشعور بالحريّة غير التمتّع بالحرية. ولا سيّما في المجتمعات الرأسمالية، حيث يتمتّع الناس بالحريّة، ولكن تمّ تجريدهم من إمكانيّة المواجهة. وأنا إنّما أقول ذلك طبقًا لتفسير كارل شميت، حيث يرى أنّ النّاس أحرارٌ في المجتمعات الرأسمالية، ولكن تمّ تجريدهم من إمكانية العداوة والمواجهة مع القوى المتسلطة. إنّ الليبرالية تعمل في الواقع على تغيير كلّ عدوّ مقاتل إلى خصم منافس، والخصم المنافس في أحسن حالاته شخص ـ على الرغم من اختلاف رؤيته عن رؤيتك ـ يتعيّن عليك التعاون معه؛ وعلى هذا الأساس فإنّ المجتمعات الرأسمالية تخلو من إمكانيّة تغيير الوضع القائم، أو بعبارة أخرى: إنّ الحريّة بالمعنى المطلق للكلمة منعدمة فيها. هذا هو الشيء الموجود في بلدان منطقتنا، بيد أنّ النقص الذي تعاني منه بلدان منطقتنا يكمن في عجزها عن إيجاد آليات المشاركة السياسية، ومن هنا فإنّ مواجهة المواطنين مع النظام السياسي غالبًا ما تتّخذ شكلَ التّضاد والعداء. وجوابي هو أنّ الشعور بالحريّة في الكثير من الحالات يؤدّي إلى الاستقرار الاجتماعي أكثر من الحرية ذاتها.
* كيف ترون إلى حريّة الإنسان بوصفها واحدةً من أهداف الحداثة السياسيّة، بينما نجد أنّها تأخذ مسارها التّراجعي بالزّوال في النّظريات الرأسماليّة والإمبرياليّة والنّظام السّلطوي؟
الحداثة السياسيّة هي استمرار للسياسة الحديثة بوصفها شرخًا في رؤية الإنسان الغربي إلى العالم. وعلى الرغم من أنّ الحداثة السياسية كانت ـ قياسًا إلى العصور الوسطى حيث السّلطة تنقسم بين الكنيسة والنّظام الملكي ـ تمنح حريّة أكبر للمواطنين، ولكنّها لم تتمكّن أبدًا من تحقيق أهدافها. يمكن القول إنّ الحريّة في الحدّ الأدنى منتفية في واحدة من المذاهب الاقتصادية والسياسية الحديثة الأصلية، ونعني بها الرأسمالية. وهناك تبعة أخرى تترتّب على نظام السلطة الرأسمالية في البلدان العظمى أيضًا، وهي أنّ هذه البلدان حيث تعدّ من البلدان المؤثّرة على الساحة العالميّة، وتلعب دورًا مصيريًّا في اقتصاد العالم وسياسته، فإنّ من شأن سياساتها أن تترك تأثيرًا على البلدان الثانويّة وبلدان العالم الثالث. من ذلك أنّ رجال السياسة في الولايات المتحدة الأميركيّة ـ على سبيل المثال ـ يتأثّرون بسبب هيمنة النظام الرأسمالي بكبار الرأسماليين، وقد تجلّت هذه الحقيقة مؤخّرًا بوصول تاجر كبير؛ ليحتلّ أعلى منصب سياسي في الدولة الأميركية. وعلى هذا الأساس فإنّ سياسات هذه الدولة سوف تسير على طبق إرادة الرأسماليين. إنّ سلطة الرأسماليين هذه بوصفها دولة ظلّ، تؤدّي إلى قيام تحالف بين البلدان الرأسماليّة والزعماء الفاسدين في البلدان الغنيّة، وبذلك تتّجه السياسة الدولية عمليًّا نحو نوع من السلطة تتمحور حول القوّة التي تنشد أهدافًا وغايات سياسية واقتصادية. الوجه الآخر من الانتقادات ورد من ناحيتين، وهما: الأفكار الانتقادية، والأفكار ما بعد الحداثوية. إنّ المفكرين التقليدين في التراث النقدي، من أمثال: ماكس هوركهايمر، وثيودور أدرنو، وهربرت ماركوزه، ويورغن هابرماس، ووالتر بنيامين، وألفرد اشميت ـ من الذين كانوا يمارسون التحليل الاجتماعي من زاوية العلوم الاجتماعية الماركسية الجديدة ـ كانوا يؤكّدون على دور العناصر غير الاقتصادية، ولا سيّما الدور التحرّري للسياسة. ويتمّ توجيه النقد الأساسي من قبل مدرسة فرانكفورت على الاتساع المتزايد للعملانيّة، والوضعيّة، وصناعة الثقافة، وسلطة وسائل الإعلام، ونقد الأيديولوجيا، والعقلانية الذرائعيّة، وحتى الموسيقى الحديثة. إنّ السياسة في المجتمع الرأسمالي قد تحوّلت ـ من وجهة نظر المدرسة النقدية ـ إلى أداة بيد السلطة، وفقدت دورها التحرّري، وهذه الأزمة أمر كامن في الرأسمالية. إنّ فلاسفة من أمثال هابرماس، يذهبون إلى الاعتقاد بأنّ الحداثة مشروع غير مكتمل، وعلى هذا الأساس يجب العمل على إصلاحها بدلاً من نبذها. ويقترح هابرماس أن تحقّق الديمقراطية بوصفها غاية للحداثة رهنٌ بتوفير الشروط المناسبة لإقامة الارتباط والتواصل على أساس (الحوار) في المجتمع. ومن هذه الزاوية يقف هابرماس في قبال أنصار ما بعد الحداثة، الذين يصفهم بـ (أعداء الحداثة). كما يأمل هابرماس بإمكانية تخليص الحداثة من براثن العقلانية الآلية والعملانية وكل ما يؤدّي إلى هيمنة الإنسان وسلطته. وأما أنصار ما بعد الحداثة فيتّخذون موقفًا أكثر تحديًا تجاه الحداثة، ولا يرجون صلاحها. رغم أنّ مفكرًا مثل بن إيجر قد أشار إلى نقاط التشابه بين النظرية الانتقادية وما بعد الحداثة، وأظهر تأثير كلّ واحد منهما على الآخر. فإنّه يزعم أنّ رؤية هاتين المدرستين ـ بالإضافة إلى ما بعد البنيوية ـ إلى المجتمع والسياسة متشابهة إلى حدّ كبير. وقد أشار بشكل خاص إلى فريدريك جيمسون الذي ينظر إلى ما بعد الحداثة من زاوية الماركسية الجديدة. إنّ الانتقاد الأساسي الذي يورده أنصار ما بعد الحداثة على السياسة يتّجه بدوره إلى النقد العام لروايات ما بعد الحداثة. هناك من يرى أنّ التعاليم الأساسية لما بعد الحداثة يجب رؤيتها في كتاب (واقع ما بعد الحداثة) لمؤلفه ليوتار. كما يؤكّد ليوتار بدوره على أنّ موقف أنصار ما بعد الحداثة تجاه السياسة يقوم على نفي النظر إليها من الزاوية العامة للروايات، وخفضها إلى مستوى تفاصيل الحياة اليومية.
* بالنّظر إلى التطوّرات المفهوميّة للعلمانيّة ونتيجة تلك التطورات المفهوميّة في الدائرة الاجتماعية، نريد منكم الآن أن تشرحوا لنا النسبة القائمة بين السياسة والدين في الحضارة الغربية؟ وما هي التحديات التي ستنجم عن فصل السياسة عن الوحي؟
لا بدّ أوّلاً من القول إنّ الحضارة الغربية ليست متجانسة. ففي بعض البلدان الغربية نجد تأثير الدين أكثر من بعض البلدان الأخرى. وبالنسبة إلى بعض الناس أكثر دنيوية، ولدى بعضهم أكثر علمانية. ويصدق هذا الأمر في مورد اختلاف الأنظمة السياسية أيضًا. ولكن من الطبيعي أن تكون العلمانية الأصلية هي المقبولة في أغلب البلدان الغربية، وإن ّبلوغ هذه النقطة بالنسبة إلى أوروبا المسيحية ليس بعيد المنال. وعلى كلّ حال فإنّ سلطة الكنيسة الممتدّة إلى عشرة عقود على أوروبا تركت واقعًا مزريًا، حتى لو أنّها قد تحقّقت في أيّ نقطة أخرى من العالم، ربّما أفضت إلى ذات النتائج وربّما أسوأ وأكثر تطرّفًا منها. النقطة الأخرى كانت هي القراءة التي سادت في تفسير القديس بولس للمسيحية، وحوّلت المسيحيّة إلى دين يميّز بين الدين والدنيا. في حين أنّ المسيحية لم تكن كذلك من الناحية العملية. وقد أثبت المحقّقون مؤخّرًا من خلال دراساتهم التاريخية أنّ السيّد المسيح × كانت له مطالب سياسية، وإنّ رفعه على الصليب، وتعصيب رأسة بالتاج الشائك بدلاً من تاج السلطان، كان بمثابة عقوبة ذات مغزى تُرصد لمن يرتكب جرائم سياسية. أمّا هذا التفسير القائم على فصل الدين عن الدنيا، فلا يرتبط بالمرحلة الحديثة فقط، بل كان هذا التصوّر في الأساس موجودًا في المسيحية ذاتها أيضًا. وعلى الرغم من قيام بعض آباء الكنيسة بمجهود في سياق إثبات العلاقة والنسبة القائمة بين الدين والسياسة، إلا أنّه لم يكن بمقدور أحد أن يتغلّب على ثنائيّة الدنيا والآخرة. وعلى هذا الأساس فإنّ السياسة ـ طبقًا لقراءة ورؤية القديس بولس عن المسيحيّة، والتي حوّلت هذا الدين إلى دين باطني ـ ليست مستنبطة من الوحي، بل هي سلطنة مأذونة من قبل البابا. وعلى الرغم من أنّ الأمر كان على هذه الشاكلة من الناحية النظرية، إلا أنّ الحياة الاجتماعية للمسيحيين طوال العصور الوسطى كانت حياة إيمانيّة، وكان المجتمع يُعدّ واحدًا من التجليات الجماعية للأمّة المسيحية، وكانت مختلف مجالات الحياة الاقتصادية والفنية والثقافية وما إلى ذلك متأثّرة بالمسيحية. وفي العصر الحديث واجه هذا الحضور الاجتماعي بدوره تحديًا، لا سيما في فرنسا التي كانت تعد واحدة من المراكز الأصلية للعلمانيّة. من ذلك أنّ دائرة الحقوق ـ على سبيل المثال ـ كان يجب أن يتمّ تفريغها من جميع المظاهر الدينية، وفي الأساس لم يكن بمقدور الحياة الاجتماعية أن تكون ممثّلة للتبشير بنوع من الحياة الإيمانية.
* هل يُعدّ كتاب الأمير لميكافيللي بياناً للحداثة السياسية؟ وهل يمكن تعريف الأفكار الميكافيليّة ضمن سياسات الحكومات الغربية؟
فيما يتعلّق بالسؤال الأوّل يجب القول: إنّ هذا هو ما يُقال عادة، ولكن حتى في المرحلة الحديثة نواجه الكثير من الفلاسفة الذين لا يسلكون مسار ميكافيللي. وعلى هذا الأساس فإنّنا إذا واجهنا مدّعيات مثل هذا الادعاء، فالمراد من ذلك هو التيار الأصلي للتفكير في الحداثة السياسية، وليس في كليتها. ومن خلال هذه الملحوظة يمكن القول بأنّ الرؤية السياسية للإنسان الحديث تقوم ـ في الأساس ـ على قراءة للسياسة التي أسّس لها ميكافيللي. وفي الحقيقة فإنّ عملية استئصال السياسة التي بدأت بعد ظهور ميكافيللي في فلورنسا، إنّما كانت في سياق تجريد السياسة من الحقيقة والأخلاق. ومن هذه الناحية يمكن الحديث عن الثورة الميكافيللية في السياسة، حيث تحقّقت من خلال تقويض أواصر العلاقة بين الأخلاق والسياسة. ومن هذه الناحية يمكن اعتبار ميكافيللي مؤسّسًا لفلسفة سياسية جديدة، حيث كان له في علم السياسة الحديث الدور نفسه الذي كان لغاليلو في علم الطبيعة الحديث. وقد عمد ميكافيللي إلى مقارنة نجاحه بنجاح رجال من أمثال كريستوف كولمبس، معتقدًا أنّه قد اكتشف قارّة جديدة في عالم السياسة، وكانت هذه القارّة خالية من الأخلاق. وقال اشتراوس في معرض قبوله بميكافيللي بوصفه كاشفًا للقارّة السياسية الجديدة: (إنّما السؤال الوحيد الذي يجب طرحه في هذا الشأن هو: هل يمكن لهذه القارّة الجديدة أن تشكّل موطنًا صالحًا لحياة الإنسان؟). لقد عمد ميكافيللي ـ من خلال تقويضه للعلاقة بين الأخلاق والسياسة ـ إلى إقامة السياسة على أساس (السلطة)، ولكن لا يمكن اعتبار (السلطة) بوصفها أساسًا جديدًا للسياسة؛ وذلك لأنّ السلطة مفهوم متحرّك؛ حيث تسعى في كلّ حين إلى شأن. وعلى هذا الأساس فإنّ قطع ارتباط وصلة السياسة بالعلم والأخلاق وميتافيزيقا السلطة، وتقعيدها على أمور سطحية واتفاقية، إنّما كان يمثّل في حقيقة الأمر تقويضًا لأصول السياسة النظرية. وقد أحسن توماس مكولي في اعتباره ميكافيللي (مؤسّسًا للاحتيال والخديعة). إنّ اختيار السلطة القائمة على الخداع والاحتيال يعني في حد ذاته الاستئصال وعدم القرار. وفي مثل هذا الفضاء تخرج السياسة من تحت مظلّة الحقيقة والمعرفة، وتتحوّل إلى وسيلة وأداة يجب أن تعمل على إظهار وجوهها المتعدّدة في مختلف الأحوال والموقعيات. ومن هنا فقد تحوّل (الخداع) و(الاحتيال) إلى عنصر أساسي في الفكر السياسي لدى ميكافيللي. إنّ الخداع هو الفنّ الذي يتعيّن على الأمير أن يوظّفه من أجل ممارسة السلطة في الحالات العديدة والمختلفة؛ إذ ليس هناك أيّ موقعيّة أخلاقيّة عامّة. وبعبارة أوضح: إن السلطة في الأساس (تقع في قبال الحقيقة). إنّ التأثير الأهم لميكافيللي على الفكر السياسي هو فصل السياسة عن الأخلاق والتمييز بينهما بوصفهما حقلين غير مرتبطين ببعضهما. ومن هنا يذهب ميكافيللي إلى الزعم بأنّ كلّ ما من شأنه أن يحافظ على السلطة حسن وممدوح، ولا ينبغي تصوّر (الظلم) شؤمًا في حدّ ذاته، وإنّما هناك من الظلم ما هو حسن، وهناك من الظلم ما هو قبيح وخاطئ. وهناك منه ما يساعد على بقاء السلطة، وهناك منه ما يؤدّي إلى الطغيان وانهيار السلطة؛ وإنّما المهمّ هو أن يقع الظلم في الزمان والمكان المناسبين. وحتى الأمير الجديد في الدولة يمكن أن يعمل في بداية الأمر على اقتراف الظلم من أجل ترسيخ دعائم حكمه وسلطته؛ ومن هنا كان جان جاك شفالييه يذهب إلى الاعتقاد بأن هتلر ـ في قتله لأنصار اليمين واليسار بشكل متزامن في الثلاثين من يونيو/ حزيران سنة 1934 م، قد طبّق هذه القاعدة. يرى ميكافيللي في ذهاب رجال السياسة إلى ضرورة التقيّد بالقيَم الأخلاقية أمرًا مثيرًا للضحك. كان سيشرو قد قال: (هناك من الأعمال ما هو من الفداحة والقبح والخبث واللؤم، بحيث لا يرتكبها عاقل حتى إذا توقف عليها إنقاذ دولته). وقد سخر ميكافيللي من هذه العبارة قائلاً: لو أن الأمير فعل ذلك سيكون مفتقرًا إلى الفاعلية والتأثير. لا يخفى أنّ وراء تأكيد ميكافيللي على أهميّة الشعب والحرية وحتى الدين منطق آلي وذرائعي، حيث تمثّل هذه الأمور من وجهة نظره أداة للسلطة وطريقًا إليها، لا أنّها ذات أهميّة في نفسها؛ ويمكن استجلاء هذا الأمر بوضوح من خلال عبارات من قبيل (نبي بلا سلاح). ومن هنا فإنّك لا تجد موردًا تحدّث فيه ميكافيللي عن الحرية وكان يقصد بها أن الحرية تحمل قيمة ذاتية. ولذلك فقد ذهب بعض المفكرين من أمثال شتراوس إلى الاعتقاد بأنّ ميكافيللي كان بحق (معلمًا للشرّ). إنّه من خلال تعداده لبعض المفاهيم الأصلية التي يدعو إليها ميكافيللي، من قبيل: ضرورة القضاء على سلالة الحاكم السابق من قبل الحاكم الجديد، وتفوّق قتل المعارضين والمخالفين على غصب أموالهم، وضرورة الاستعجال بالشر والتدرّج في الخير، وأهميّة الجريمة الحسنة، قال: لا يمكن تجاهل (منطق العصابة) والاستهتار الكامن في آراء ميكافيللي. ونحن نشاهد اليوم هذا المنطق في سلوك الكثير من القوى العالميّة أيضًا؛ حيث لا يزال المنهج الميكافيللي هو المنهج المحبّب والمطلوب في ممارسة السلطة والسياسة.
* لماذا يتمّ اعتبار الثورة الفرنسية بوصفها واحدة من منعطفات الحداثة السياسية؟
إنّ السبب في ذلك يكمن في أنّ الثورة الفرنسية تمثّل إحدى المراحل الأساسية في تكوين الذهنيّة والضمير السياسي لدى الإنسان الحديث. وعلى حدّ تعبير هيغل: إنّ الثورة الفرنسية تشكّل لحظة تكامل وارتباط الذهن والعين في الظاهراتية التاريخية للروح. لقد شهد تاريخ الوعي الغربي وتاريخ إدراك الإنسان الغربي لمعنى حريته، بلوغ واحدة من نقاط ذروته مع الثورة الفرنسية؛ ومن هنا كان هيغل يقول: إنّ الثورة الفرنسيّة كانت بمثابة نزول ملكوت الله إلى الأرض. وعلى كلّ حال فقد كان الغربيون يعتبرون الثورة الفرنسيّة نقطة انتصار الإنسان والمعارف البشرية في قبال دعاة اللاهوت، وكان هذا هو السبب في تبلور دوائر المعارف والموسوعات المعرفيّة في فرنسا؛ حيث أرادوا جمع المعطيات البشرية في كتاب واحد. ولكن كما سبق أن ذكرنا فإنّ دوتوكفيل قد شرح بوضوح أسباب إخفاق تلك الثورة، وعدم تحقيقها لأهدافها وغاياتها الحقيقية. وقد أظهر التاريخ بدوره كيف أدّت تلك الثورة إلى الدكتاتورية. ولم تكن هذه الدكتاتورية دكتاتورية سياسية فحسب، بل وقد كانت دكتاتورية فلسفية وأيديولوجية أيضًا. فقد بلغ الأمر بفلاسفة ذلك العصر إلى الظهور بمظهر التكبر والثقة الزائفة بحيث إذا بلغوا نقطة من العلم تصوّروا معها أنّ عليهم تقييم الكون والزمان على أساس مطابقتها أو عدم مطابقتها لتلك النقطة. ومن هنا كانوا يقولون: إذا كان هناك من إله؛ فعليكم أن تأتوا به لنضعه تحت المجهر كي نراه! إنّ النزعة العلميّة وإن كانت ضروريّة ونافعة في صورتها المعتدلة للوقوف في وجه الخرافة الكنسيّة، إلا أنّ شكلها المتطرّف كان أكثر ضررًا حتى من خرافات الكنيسة ذاتها.
* إلى أيّ مدى يمكن التنبّؤ بمستقبل الحداثة السياسيّة في حقلَيْ التفكير والعمل؟
التنبّؤ في حقل العلوم الإنسانيّة ليس ممكنًا من الأساس. خلافًا للعلوم التجريبيّة حيث نصل إلى القوانين العلميّة العامّة والكليّة من خلال اتّباع المنهج الاستقرائي؛ حيث يكون لها مصداق في جميع الموارد، إلا أنّنا لا نستطيع الوصول إلى مثل هذه القواعد العامّة والكليّة في العلوم الإنسانية؛ وذلك لأنّ العلوم الإنسانيّة ـ خلافًا للعلم التجريبي الذي يمتلك لغة مؤلّفة من القضايا التي تقبل الخضوع للتجربة والاختبارـ تمتلك لغة مفهوميّة وانتزاعيّة ترتبط لا شعوريًّا بخلفياتها وحاضناتها الثقافية. وأنا أقول دائمًا: إنّ العلوم الإنسانية هي علوم إنسانيّة، ولذلك فإنّها تحمل معها جميع العيوب والنواقص الإنسانيّة أيضًا. لا يمكن لأيّ إنسان أن يمتلك حقّ احتكار الكلمة الأولى والأخيرة إلا إذا كان حاصلاً على العلم المتقن؛ أي الأنبياء والأولياء، وقد قصرت أيدينا عنهم في عصر الغيبة. ربّما أمكن لنا التنبّؤ في العلوم التجريبيّة بالعثور على بعض القوانين العلميّة على أساس التجربة والمشاهدة العينيّة، ولكن هذا الأمر غير ممكن في العلوم الإنسانية. ولكن يمكن الحدس انطلاقًا من الواقع القائم والمشهود بما سيحدث في المستقبل القريب. وأنا أزعم أنّ الحداثة السياسيّة لن تشهد في المستقبل المنظور والقريب تحدّيًا جادًا؛ لأنّ العالم يحثّ الخطى مسرعًا نحو مراكمة الكميات، وهذا هو المبنى الذي تقوم عليه الحداثة أساسًا. هذا واقع تاريخي لا يستثنى منه موضع في العالم إلا فيما ندر، وحتى البلدان الإسلامية مشمولة لهذا الواقع التاريخي أيضًا. وفي هذه الظروف والشروط يمكن أن نكون عرضة لنوع من الشكلية، حيث يكون ظاهرنا إسلاميًّا، ولكن المحتوى والمضمون شيء آخر. وعلى هذا الأساس فإنّي أذهب على العجالة إلى عدم وجود متغيّر قوي يمكنه أن يُهدي للعالم خطابًا يساوي الحداثة؛ إلا إذا توفرت فجأة إرادة من شأنها أن تحدث تغييرات أخرى في العالم.
.
رابط المصدر: