هشام داوود
ولَّد الارتفاع المفاجئ في سعر صرف الدولار الأمريكي مقابل الدينار العراقي، والذي نتج أساساً عن القيود التي فرضها الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، آثاراً اقتصاديةً فوريةً تمثلت بتراجع النشاط التجاري، وصعود أسعار السلع المستوردة، وتفاقم التوترات الاجتماعية. وفي قلب هذه الأزمة، تكمُن مشكلة “تهريب” الدولار إلى دول الجوار، المصنَّفة قانوناً على أنها “جريمة ضد الاقتصاد الوطني” يمكن أن تؤدي إلى عقوبة السجن المؤبد.
ومع ذلك، فإن التداعيات والتبعات المترتبة على هذه الأزمة المالية التي تعد الأخطر منذ عام 2003 لا تقتصر على الوضع الاقتصادي وحسب، بل إن لها تداعيات جيو-استراتيجية كذلك، وسيكون لها تأثير كبير على علاقات القوة السياسية في العراق.
معالم الأزمة وانعكاساتها على العراق
شرع الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك في نوفمبر 2022 بتقييد كمية الدولارات المحولة إلى العراق التزاماً بسياسة وضعتها، قبل سنوات مضت، وزارة الخزانة الأمريكية. ففي أوائل 2020، طلبت وزارة الخزانة الأمريكية من الحكومة العراقية الامتثال لنظام إلكتروني يقول المسؤولون الأمريكيون أن الهدف منه ضمان شفافية التعاملات بالدولار، ومكافحة عمليات غسيل الأموال، و”تهريب” الدولارات إلى إيران وسورية وتركيا[1]. وتُدار هذه الأنشطة غير المشروعة بواسطة بنوك وشركات تعمل كواجهات تجارية، فضلاً عن النقل المادي للدولار عبر الحدود. ونتيجة لهذه القيود، رُفِضَ ما يقرب من 80% من طلبات التحويلات بالدولار في العراق. وتجدر الإشارة إلى أنه منذ عام 2003، عندما أُنشئ حساب العراق لدى الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، حُوِّلت مئات الملايين من الدولارات يومياً إلى البنك المركزي العراقي، بمتوسط 250 مليون دولار يومياً في عام 2022، وما يقرب من 220 مليون دولار في اليوم في 15 يناير 2023، و76 مليون دولار فقط في 9 فبراير 2023.
ونتيجة لذلك، تراجعت قيمة الدينار في سوق الصرف الأجنبي في نهاية شهر يناير 2023، حيث وصل سعر الدولار الواحد إلى 1750 ديناراً (مقابل سعر صرف رسمي يبلغ 1460 ديناراً). وتسبب قرار البنك المركزي العراقي في 7 فبراير برفع سعر صرف الدينار إلى 1300 دينار (1310 للمؤسسات المالية و1320 لعملائها في انخفاض قيمة الدولار إلى 1550 ديناراً في السوق الموازي. وسيؤدي هذا التباين في سعر الصرف بالتأكيد إلى تقليل كتلة الدينار التي يتعين على الدولة الحصول عليها من أجل تغطية نفقاتها ودفع رواتب 7 ملايين موظف ومتقاعد من الجهاز الحكومي (زادت هذه المدفوعات بنسبة 400% بالقيمة الحقيقية بين عامي 2004 و2021)، ونفقات الضمان والحماية الاجتماعية وغيرها. ومع ذلك، يمكن أن تُسهم إعادة تعديل سعر الصرف في كبح الارتفاع الحاصل في أسعار السلع المستوردة، وتشجيع مختلف الأطراف على الامتثال لتدابير تحديد الهوية الإلكترونية للاستفادة من سعر الصرف المميز الذي يقدمه البنك المركزي العراقي.
في أوائل يناير 2023، أطلق البنك المركزي العراقي منصة إلكترونية لمزادات بيع العملة، لكن النظام لم يشهد أي إقبال بسبب حقيقة أن غالبية المشترين لا يرغبون في الكشف عن هويتهم أو هوية عملائهم. وفي غضون ذلك، شدَّدت وزارة المالية إجراءات التحقق من صحة وثائق وشهادات الاستيراد، حيث باتت تتضمن الآن طلب توفير إثبات على أصالة وجودة البضائع المستوردة وتفرض عقوبات على البنوك والوسطاء الذين لا يقدمون خطابات اعتماد أو بيانات شفافة عن التحويلات وطلب إجراء تدقيقات لحسابات المؤسسات المالية. وعلى صعيد متصل، اتخذت السلطات العراقية مجموعة من الإجراءات الأمنية شملت تشديد الرقابة على الحدود مع تركيا وإيران وعلى الطريق بين بغداد وكردستان، وتنفيذ مداهمات لأهم بورصتين رسميتين للنقد الأجنبي في العاصمة في منطقتي الحارثية والكفاح، مما أدى إلى توقيف العديد من التجار الذين اختاروا اللجوء إلى السوق غير الرسمية التي لا تخضع لرقابة الدولة.
وفي الوقت الذي تمثل السياسة النقدية الأمريكية المتشددة تجاه الدولة العراقية حافزاً للسلطات العراقية لتبني سياسات مالية واقتصادية أكثر حصافة (لإيجاد مخرج من أزمة الأسواق غير الرسمية للعملة)، فإنَّها كذلك تبعث برسالة قوية إلى الفصائل العراقية الموالية لإيران وتلك المعارضة للوجود العسكري الأمريكي في البلاد، والتي تعتمد في قوتها العسكرية والاجتماعية والسياسية إلى حد كبير على شبكات الفساد وغسيل الأموال. وهذه السياسة، لو استخدمت بشكل عقلاني مسؤول، يمكن أن تعود بالمنفعة على رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، عبر إضعاف خصومه البعيدين في التيار الصدري و”حلفائه” القريبين في “الإطار التنسيقي” الطامحين إلى ممارسة سلطات تنفيذية واسعة. وعليه، بات من الواضح أنه لا يمكن تحقيق أي إصلاح لنظام مزاد بيع الدولار في العراق دون ضغوط دولية مباشرة، ومن واشنطن تحديداً.
وبالتوازي مع هذه الأزمة عمدت الفصائل والميليشيات الموالية لإيران إلى شن حملة إعلامية تُندد بالفساد الناجم عن نظام المزاد الحالي كما لو أنها هي نفسها غير مُستفيدة من هذا الفساد. كما دانت هذه الفصائل تهريب الدولار من إقليم كردستان العراق إلى تركيا كما لو أن الإقليم هو الممر الوحيد المستخدم في عمليات تهريب العملة من البلاد. وفي كل الأحوال، يمكن القول إن الجهات الأكثر تأثُّراً بالقيود الجديدة المفروضة على التعاملات بالدولار هي شبكات التهريب في إقليم كردستان والكيانات المالية والتجارية التي تسيطر عليها بعض الميليشيات. وفي هذا السياق، تبدو إقالة محافظ البنك المركزي العراقي السابق مصطفى غالب، المحسوب على التيار الصدري، وتعيين علي محسن العلاق، المحسوب على رئيس الوزراء السابق والقيادي الحالي في “الإطار التنسيقي”، نوري المالكي، خلفاً له، تبدو محاولة لتفكيك الشبكات المالية المرتبطة بالتيار الصدري تحت ستار محاربة الفساد.
سارع نوري المالكي إلى استغلال المأزق الذي وقع فيه رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني الذي رغم الدعم الذي يحظى به من واشنطن، بات يتعرض لضغوط وانتقادات وصلت حد التهديد من الميليشيات المسلحة التي ترى أنها ساهمت في تنصيبه رئيساً للوزراء، وبالتالي تتوقع منه أن يرد الجميل ويخدم مصالحها. فبالإضافة إلى تعيين العلاق محافظاً للبنك المركزي العراقي، عمد المالكي إلى تعيين العديد من الشخصيات المحسوبة عليه مستشارين لرئيس الوزراء، بمن فيهم هشام الركابي مستشاراً إعلامياً، وسامي العسكري مستشاراً سياسياً، وحسن نعيم الياسري مستشاراً للشؤون الدستورية.
وصف نوري المالكي السياسة الأمريكية النقدية تجاه العراق بأنها “سياسة غزو بالدولار”، وأرجع أسباب الأزمة بالدرجة الأولى إلى فساد المصرفيين والتجار الذين قال إنهم يعملون لمصلحة أطراف عراقية تسعى إلى زعزعة استقرار حكومة السوداني. ويرى المالكي أن الحل للأزمة الحالية هو التفاوض مع واشنطن لتطبيق نظام فعال للسيطرة على المعاملات المالية والتجارية، ومنع تهريب الدولارات إلى دول الجوار. لذلك، يبدو أن المالكي يريد إعادة التأكيد على الموقف الاستراتيجي الذي يتبانه حزبه (حزب الدعوة)، منذ عام 2005، والداعي إلى الموازنة بين كل من إيران والولايات المتحدة. وعليه، ظهر موقف المالكي كما لو أنه “الحل الأفضل”، أي الأكثر قبولاً سياسياً (على المستويين الوطني والدولي) بالمقارنة مع السياسات التي تنادي بها الميليشيات. وعلى الرغم من أن “حزب الدعوة” مِن بين الأطراف المستفيدة من شبكات الفساد، فإنّه لا يعتمد على النظام المالي الموازي بقدر اعتماد الفصائل الأخرى عليه، وليس له دور مُثبَت في تحويل الدولار إلى إيران.
يعتبر الدولار ملاذاً آمناً للعراقيين العاديين، الذين يخزنونه لغايات استخدامه لاحقاً في حال اضطروا للسفر إلى الخارج لأي سبب من الأسباب، مثل تلقي العلاج الصحي، والحج، والاستثمار، سواء في العقارات أو غيرها. لكن في المقابل، سيكون للسياسة الأمريكية تأثير كبير على الشركات والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. فلقد اعتادت هذه الكيانات استخدام نظام الحوالة، وهو نظام تحويل غير رسمي يمكن هذه الشركات من تفادي المرور عبر البنوك الخاصة والعامة على حد سواء، ودفع عمولات من تحت الطاولة والتي تذهب عادة للفصائل المسلحة.
تفاقمت الأزمة إلى حدٍّ ما بسبب الشائعات وسوء الفهم وحالة عدم اليقين، مما أدى إلى توقف الطلب على بعض البضائع المستوردة التي أصبحت باهظة الثمن وبات ينظر إليها على أنها غير ضرورية، وبالتالي أثرت في صغار التجار الذين باتوا اليوم مُهددين بالخروج من السوق والانضمام إلى صفوف العاطلين عن العمل. يقدر البنك الدولي معدل البطالة في العراق بنحو 14.5% بين عموم السكان، و27.5% بين الشباب. كما دفعت الأزمة العديد من التجار إلى اللجوء بشكل كامل إلى السوق غير الرسمية (لنسميها الموازية)، أو حتى تحميل شاحنات بالدولارات ونقلها إلى خارج العراق.
ماذا يعني تشديد السياسة الأمريكية النقدية تجاه العراق؟
قد يتفاجأ المرء من أن الولايات المتحدة بدت بعد ما يقرب من 20 عاماً من فتح حساب البنك المركزي العراقي لدى الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، وتبنّي سياسة عدم التدخل بحكم الأمر الواقع تجاه التحويلات المشبوهة، وكأنها قد استفاقت فجأة وشرعت في فرض هذه القيود. ويُمكِن إرجاع هذه الاستفاقة جزئياً إلى السياق الجيوسياسي في المنطقة والعالم، بما في ذلك محاولة الإدارة الأمريكية فرض مزيد من الضغوط على إيران التي تُعد المستفيد الأكبر من تهريب الدولارات التي يبيعها البنك المركزي العراقي، والرغبة الأمريكية في كبح التوسُّعين الروسي والصيني في الشرق الأوسط، والحد من فعالية أي إطار تعاون ثلاثي بين طهران وموسكو وبيجين، على غرار الشراكة الاستراتيجية الصينية الإيرانية الشاملة (مارس 2021)، والشراكة الروسية الإيرانية المالية خارج نظام سويفت (يناير 2023)، ناهيك عن تنامي المخاوف الناتجة عن تكتيكات التحايل على العقوبات ضد طهران ودمشق وموسكو. وبالتوازي مع التشدد في السياسة النقدية تجاه العراق، تمارس الولايات المتحدة ضغوطاً على تركيا التي تعد المركز الرئيس للتحويلات المالية السرية للعراق وإيران وروسيا.
لفهم الأهداف المتوخاة من السياسة النقدية الأمريكية تجاه العراق والتبعات الجيوسياسية المترتبة عليها، من الأهمية بمكان الرجوع إلى جذور هذه السياسة التي تعود إلى عام 2003. فلقد سعت الولايات المتحدة إلى إيجاد الحد من انغماسها العسكري وتهدئة الأوضاع في البلاد بشكل يسهّل عليها إنهاء الاحتلال سريعاً، مع الحفاظ على التأثير طويل الأمد. ولتجنُّب الانهيار الاقتصادي وحدوث مجاعة، والتي كان من شأنها أن تؤدي إلى تمرد شعبي واسع النطاق وتورط عسكري أمريكي واسع وممتد زمنياً، كان لا بد من إنشاء نظام اقتصادي يمكن من خلاله بيع النفط العراقي ويُسهِّل وضع ميزانية للدولة. باختصار، بدلاً من تبنّي خطة إعادة بناء شبيهة بمشروع مارشال لإعادة تعمير أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أرادت واشنطن إعادة تشغيل الآلة الاقتصادية العراقية بسرعة بحيث يمكن للعراق تمويل جهود إعادة إعماره وضمان التهدئة في البلاد عبر استخدام عائداته من تصدير النفط.
لذلك، كان البُعد المالي على رأس أولويات الإدارة الأمريكية خلال مرحلة التحضير للتدخل العسكري في العراق. ففي ضوء الأزمة الاقتصادية التي كان العراق يمر بها (حيث بلغ إجمالي الناتج المحلي 40 مليار دولار في عام 2001، مقابل 128 مليار دولار في عام 1979) والمخاطر الأمنية في البلاد، جرى وضع “استراتيجية مالية” للعراق في نهاية عام 2002 بحسب وكيل وزارة الخزانة الأمريكية السابق للشؤون الدولية، جون تيلور الذي قال:
“كان من الواضح أنه من الضروري أن تكون لدينا استراتيجية في وقت مبكر لدفع رواتب العمال والمتقاعدين في العراق بعد سقوط صدام. وكان من الواضح أيضاً أنه كان علينا وضع استراتيجية قبل سقوطه بفترة طويلة. فالاستمرار في دفع الرواتب والتمتع بقوة شرائية مستقرة سيكون ضرورياً لمنع المصاعب الشديدة والانهيار الاقتصادي”[2].
سعت وزارة الخزانة الأمريكية وسلطة الائتلاف المؤقتة[3] حينها إلى طرح عملة جديدة في أقرب وقت ممكن لتجنُّب التضخم من طريق تثبيت سعر الصرف، وإنشاء البنية التحتية الفنية والإطار التنظيمي للقطاع المصرفي (المدفوعات بين البنوك ومزادات بيع العملات). ففي البداية، شجَّعت وزارة الخزانة الأمريكية، وبمساعدة الأمم المتحدة، دائني العراق الدوليين على إعادة جدولة ديون هذا البلد (ما يقرب من 126 مليار دولار). واستردت وزارة الخزانة الأمريكية الأصول الأجنبية المجمدة للنظام السابق، والإيرادات من برنامج “النفط مقابل الغذاء”[4]، وعائدات تصدير النفط، من أجل إنشاء صندوق تنمية العراق في مايو 2003، وهو صندوق مخصص لإعادة الإعمار. هذا الصندوق هو في الواقع حساب فُتِحَ لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، ومن خلاله حُوِّلَت الدولارات اللازمة لاستعادة البنية التحتية للنفط والكهرباء، وتقديم المساعدات الإنسانية، ودفع رواتب موظفي الجهاز الحكومي، وإنشاء ميزانية وطنية من قبل سلطة الائتلاف المؤقتة. وجرى لاحقاً تغيير اسم الصندوق ليصبح “صندوق التنمية للعراق والحساب اللاحق”، وهو يُستخدم اليوم فقط لإيداع عائدات العراق من تصدير النفط. كما أنشأت سلطة الائتلاف المؤقتة المصرف العراقي للتجارة في يوليو 2003 لإنشاء نظام ائتمان تجاري لتمكين التجارة. وجرى لاحقاً وضع المصرف تحت إدارة ائتلاف مكون من مجموعة من البنوك الدولية بقيادة بنك “جي بي مورغان”، وكانت خطابات الاعتماد الصادرة عن المصرف مضمونة من قبل بنك التصدير والاستيراد الأمريكي[5]. وفي أكتوبر من العام نفسه، أصدر البنك المركزي العراقي ورقة الدينار العراقي الجديد الذي طُبِعَ في أوروبا وآسيا وأُريد منه أن يكون غير قابل للتزوير.
في مارس 2004، سنَّت سلطة الائتلاف المؤقتة قانون البنك المركزي العراقي لمنحه الاستقلالية، وضمان عدم استخدام البنك لطباعة النقود لتمويل عجز موازنة الدولة (كما كان الأمر في زمن نظام صدام حسين)، وبالتالي تحقيق هدفين استراتيجيين يتمثلان في كبح جماح التضخم، والحيلولة دون اندلاع انتفاضة شعبية عارمة[6]. وتجدر الإشارة إلى أنه في عام 2003، وبسبب سنوات الحظر، كان الاقتصاد العراقي مُدولَراً جزئياً؛ فبسبب انعدام الثقة في العملة الوطنية، اعتمد العراقيون على الدولار بقدر اعتمادهم على الدينار في المعاملات التجارية الجارية، بحيث كان عرض النقود في العراق يتحدد بمخزون الدولار والدينار، وكذلك بسعر صرف الدينار مقابل الدولار. وفي أي اقتصاد يستخدم عملتين، يكون لسعر الصرف تأثير كبير على معدلات التضخم. فالأفراد والمستثمرون يفضلون امتلاك احتياطيات بالدولار يمكنهم استخدامها داخلياً وخارجياً، وعليه يمكن أن يؤدي أدنى تغيير في سعر الصرف إلى ردود فعل خطرة نظراً لأنه يتم شراء السلع المستوردة بالدولار، وبالتالي فإن أي تغيير في سعر الصرف يمكن أن يؤدي إلى تضخم مفرط. في أيام نظام صدام حسين، لم يكن سوق الصرف الأجنبي الرسمي موجوداً، وكان الدولار يُباع من قبل تجار غير رسميين، ما أدى إلى خلق حالة دائمة من عدم اليقين بشأن سعر الصرف وتباينه بشكل كبير من منطقة إلى أخرى.
ولذلك لا يزال هذا النظام (والذي أُنشئ بموجب مراسيم صادرة عن سلطة الائتلاف المؤقتة)، الذي يشرف عليه بالكامل ويضمنه الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك معمولاً به حتى يومنا هذا. ويعمل النظام بوصفه أداة لاحتواء التضخم والحفاظ على ثقة المستثمرين والأفراد في النظام المالي المحلي والحيلولة دون اندلاع اضطرابات اجتماعية خطيرة. كما يهدف أيضاً إلى رصد أي تحويلات وتعاملات مالية مشبوهة وتقييدها. وبالنسبة للإدارات الأمريكية، كان هذا النظام بديلاً أفضل من العقوبات. وفي هذا الصدد، هدَّدت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، في يناير 2020، بإغلاق حساب العراق لدى الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك في حال مضت الحكومة العراقية وقتها بإخراج القوات الأمريكية من العراق عقب اغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس بغارة أمريكية.
على مر السنين، بسطت الفصائل المسلحة والأحزاب سيطرتها على القطاع المصرفي والمالي الخاص (السيطرة الكاملة أو امتلاك حصة أغلبية في البنوك)، واستخدمت نظام بيع الدولار بالمزاد إما لتحقيق أرباح ضخمة (عبر الاستفادة من السعر المنخفض لبيع الدولار من قبل البنك المركزي العراقي)، أو لغسل الأموال غير المشروعة (الناتجة عن عمليات تهريب أو اختلاس أملاك عامة أو عمولات)، أو لإرسال الأموال إلى كل من إيران وسوريا. والنتيجة أن هذه الفصائل باتت الآن تعتمد بشكل كبير على النظام لإعادة تدوير مداخيلها. ولكن هناك مشكلة في القيود الأمريكية الجديدة تجاه النظام النقدي في العراق تتمثل في حقيقة أنها تؤثر في الأفراد والمستوردين، وكذلك في المؤسسات المالية المرتبطة بالفصائل دون أي نوع من الاستثناء أو التمييز. ومع ذلك، فإن الفصائل المسلحة لديها مبالغ ضخمة من المال على المحك، وقد يؤدي الضغط من جانب الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك إلى تحفيزها على “تنظيف” جيوبها المالية أو حتى الحد من أنشطتها غير المشروعة.
آفاق الأزمة ومآلاتها
بدأت المفاوضات لحل الأزمة باجتماع عُقِد في اسطنبول يوم 3 فبراير 2023 جمع وكيل وزارة الخزانة الأمريكية للاستخبارات المالية ومكافحة الإرهاب، بريان نلسون، بمحافظ البنك المركزي العراقي علي محسن العلاق. وركز الاجتماع بشكل خاص على إصلاح القطاع المصرفي العراقي، وتطبيق إجراءات مكافحة غسل الأموال ومكافحة تمويل الإرهاب. وأشار البيان الرسمي الصادر بعد الاجتماع إلى الرغبة في تحقيق أهداف مشتركة من خلال تطبيق معايير مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب وتحديث النظام المصرفي العراقي. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الاجتماع له تأثير على نحو ما في تعزيز مكانة واستقلالية محافظ البنك المركزي العراقي الذي يتعين عليه مواجهة ضغط الفصائل المرتبطة بإيران. ويُدرك العلاق تفاصيل العلاقة مع وزارة الخزانة الأمريكية جيداً كونه عمل محافظاً للبنك المركزي العراقي من عام 2014 إلى عام 2020.
وفي يوم 9 فبراير 2023، التقى وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين في واشنطن نظيره الأمريكي أنتوني بلينكين. ولم يتم الإعلان عن أي قرار محدد عقب الاجتماع، ولكن قبل عقده، شدَّد بلينكين على أن الولايات المتحدة “تركز الآن بشكل مكثف للغاية على البُعد الاقتصادي” لاتفاقية إطار الشراكة الاستراتيجية بين البلدين. وفي 10 فبراير، أجرى نائب وزير الخزانة الأمريكي وولي أدييمو محادثات مع وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين، ومحافظ البنك المركزي علي العلاق، في واشنطن، ركزت على سياسات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ولكن دون الإعلان عن أي مقررات محددة للاجتماعات. كما التقى العلاق على هامش زيارته لواشنطن المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي محمود محيي الدين، الذي قال بدوره أن الصندوق مُستعِد للمساعدة في إصلاح القطاع المصرفي العراقي.
تمثل هذه اللقاءات والبيانات دليلاً على الدعم الذي تحظى به حكومة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، والمقاربة التي يتبناها “حزب الدعوة” طالما أنها تساعد في احتواء الأطراف والجهات العراقية الموالية لإيران. وفي يوم 2 فبراير 2023، أجرى الرئيس الأمريكي جو بايدن، خلال مأدبة غداء مع العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني في البيت الأبيض، اتصالاً هاتفياً مع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ليؤكد له دعم الولايات المتحدة لحكومته، ويشيد بجهوده في “تعزيز سيادة العراق واستقلاله”، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة تدعم أجندة العراق وخططه الاقتصادية.
ومع ترجيح أن تُخفف الولايات المتحدة من سياستها المالية تجاه العراق، فإنها من غير الممكن أن تقبل بعودة الوضع السابق إلى ما كان عليه. إذ سيُطبَّق النظام المالي الإلكتروني تدريجياً، وسيتعين على الفصائل المرتبطة بإيران التعامل معه بوصفه أمراً واقعاً. ومن خلال استخدام العقوبات المقنَّعة ضد العناصر الموالية لإيران، ودعم المقاربة التي يتبعها رئيس الوزراء العراقي ومن خلفه “حزب الدعوة”، وممارسة ضغوط مباشرة على طهران، قد تؤتي هذه السياسة الأمريكية الجديدة ثمارها. وفي كل الأحوال، تظهر هذه الأزمة أن كل أوراق الضغط بيد الولايات المتحدة، مثل سلاح الدولار، وكذلك قدرتها على جمع البيانات واستخراجها، في ظل حقيقة أن البنية التحتية المعلوماتية[7] للوزارات والمؤسسات العراقية الرئيسة هي صناعة أمريكية في مجملها، والمساعدات العسكرية الأمريكية للعراق، وسلاح العقوبات، وربما اللجوء، كملاذ أخير، إلى ضربات موجهة تستهدف قادة الميلشيات ومنشآتها.
في غضون ذلك، تضعضع الموقف الإيراني كثيراً بسبب استمرار الحراك الاحتجاجي في البلاد، وارتفاع معدلات التضخم (أحد دوافع تهريب الدولار من العراق إلى إيران هو ضخ الدولارات في السوق لغرض إبطاء الانخفاض الحاصل في قيمة الريال الإيراني والتضخم الناتج عنه وتمويل عجز الميزانية)؛ واستمرار هجمات الطائرات دون طيار (من قبل إسرائيل وبموافقة واشنطن) على المنشآت الاستراتيجية في إيران. وفي ظل حالة الضعف هذه، بات النظام الإيراني بحاجة إلى الاعتماد على حكومة عراقية تدعمها واشنطن. لذلك، من المرجح أن تمارس إيران سطوتها على الفصائل والميليشيات العراقية، وتحد من عرقلة هذه الفصائل لمساعي الحكومة العراقية في إنفاذ سياسات للالتزام بالأنظمة النقدية الجديدة.
تؤثر الارتدادات الناجمة عن أزمة سعر صرف الدينار العراقي على روسيا كذلك. فزيارة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إلى بغداد يوم 6 فبراير 2023 أثارت تساؤلات عدة بشأن قدرة العراق على دفع المبالغ المستحقة للشركات الروسية العاملة في البلاد بالدولار. فموسكو تتوقع أن تعمد الولايات المتحدة إلى منح العراق إعفاءً من نظام العقوبات المفروضة على روسيا، كما هو الحال مع الإعفاء الذي منحته واشنطن لواردات العراق من الغاز والكهرباء من إيران. تبلغ قيمة الاستثمارات الروسية في العراق 10 مليارات دولار، وتتركز بشكل رئيس في قطاع الطاقة. ومع ذلك، لم يُكشَف عن حجم المبالغ التي يدين بها العراق للشركات الروسية، وعلى رأسها شركات لوك أويل وباشنفت وروسنفت وغازبروم. وبالنظر إلى أهمية الاستثمارات الروسية في قطاع الطاقة العراقي، من الصعب تخيل أن تقوم الولايات المتحدة بمنع العراق من الدفع كلياً للشركات الروسية. على سبيل المثال، تُنفَّذ 75% من العمليات في حقل نفط غرب القرنة 2 بواسطة ائتلاف تقوده شركة لوك أويل الروسية. ويمثل إنتاج هذا الحقل نحو 14% (450 ألف برميل يومياً) من إجمالي إنتاج العراق البالغ 3.3 مليون برميل يومياً، وهناك خطط لزيادة إنتاج هذا الحقل ليصل إلى 800 ألف برميل يومياً بنهاية عام 2023.
على الصعيد المحلي في العراق، هنالك مخاوف من تباطؤ النشاط التجاري، وتأخير إقرار موازنة 2023 (التي كان من المفترض إقرارها في نهاية شهر يناير، وأن يُصادَق عليها خلال شهرين بعد ذلك). كما قد تؤدي الأزمة الاقتصادية المتفاقمة إلى اضطرابات اجتماعية، خاصة قبل شهر رمضان الذي سيحل في بداية الثلث الأخير من شهر مارس، وبالتالي احتمال إعادة إشعال الحراك الاحتجاجي في البلاد. علاوة على ذلك، قد يجد التيار الصدري نفسه محاصراً ومُستبعداً بشكل متزايد من مواقع صُنْع القرار والموارد المالية غير الرسمية، وبالتالي قد يهدد بتنظيم تظاهرات حاشدة وربما اللجوء إلى التصادم في الشارع.
استنتاجات
وصل العراق اليوم إلى استنتاج مفاده أنّ من الضروري التخلص من هيمنة القطاع غير الرسمي والتخلي عن النموذج الاقتصادي القائم على النقد، والتوجه نحو قطاع مصرفي منظم من شأنه إفساح المجال أمام نمو القطاع الخاص. إن التزام رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بجعل فترة حكمه فرصة لإطلاق مشاريع تنموية كبرى يرسل رسالتين متناقضتين إلى حد ما؛ فهو يبدو أنه يوجه رسالة إلى الفصائل مفادها بأنه لن يحاول تغيير الوضع الراهن، وفي الوقت نفسه يشجعها على تجاوز الخلافات السياسية والفئوية للتركيز على الاقتصاد. لكن من الواضح أن طموحات التنمية الاقتصادية تتطلب الالتزام بالمعايير الدولية والشفافية ومكافحة الفساد، وهي معايير ترى الفصائل المهيمنة في الوقت الحالي أنها تضعفها تنظيمياً واجتماعياً وسياسياً. فبعد أن أصبحت طبقة ثرية تعتمد في جزء مهم من مداخيلها على نظام بيع الدولار بالمزاد، تسببت هذه الفصائل نفسها بصناعة سلاح يمكن لواشنطن استخدامه الآن ضدها.
[1] تذهب الدولارات المهربة إلى سوريا وتركيا إلى جهات مرتبطة بإيران وعراقيين يعملون في أنشطة إجرامية وغير قانونية (مثل غسيل الأموال والتهرب الضريبي). وبغياب المراقبة الدقيقة، فإن قسماً من هذه الأموال يمكن أن يصل منظمات إرهابية مثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وبدرجة أقل، كانت هذه الأموال تذهب أيضاً إلى الأردن ودول الخليج ولبنان قبل أن تعصف به الأزمات الاقتصادية والسياسية.
[2] “الاستقرار وخلق فرص العمل والانتقال إلى الاستقلال الذي يؤدي إلى الحكم الذاتي في العراق”، من جلسات الاستماع أمام اللجنة الفرعية للتجارة والتمويل الدولية التابعة للجنة المصرفية والإسكان والشؤون الحضرية، مجلس الشيوخ الأمريكي، 16 سبتمبر، و4 نوفمبر 2003، و11 فبراير 2004.
[3] كانت سلطة الائتلاف المؤقتة هي السلطة المحتلة (برئاسة بول بريمر، المسؤول في وزارة الخارجية)، والتي تأسست بموجب قوانين الحرب وقرارات الأمم المتحدة. وقد حُلَّت هذه السلطة في يونيو 2004، عندما تولت الحكومة العراقية المؤقتة زمام الأمور، ولكن معظم المستشارين الأمريكيين ظلوا حتى 2009-2011 داخل المؤسسات العراقية.
[4] أنشأت الأمم المتحدة برنامج “النفط مقابل الغذاء” في عام 1995 للسماح للعراق، الذي كان يخضع لحظر اقتصادي صارم منذ عام 1990 بعد غزو الكويت، ببيع نفطه في السوق العالمية من أجل شراء الغذاء والدواء وغيرها من المستلزمات الإنسانية الأخرى. وكانت أموال البرنامج تودع في حساب خاص تديره الأمم المتحدة، حيث خصص 30% من عائدات تصدير النفط العراقي لتعويض الكويت، و13% لإقليم كردستان العراق، و3% لمسؤولي الأمم المتحدة، و54% للدولة العراقية. وقد شاب هذا البرنامج العديد من حالات الفساد، ليس فقط داخلياً، بل وعالمياً أيضاً، أشهرها فضيحة فساد كوبونات النفط التي كان صدام حسين يوزعها للاحتفاظ بزبائنه عالمياً.
[5] بنك التصدير والاستيراد الأمريكي هو وكالة فيدرالية مستقلة لائتمان الصادرات، تقدم ضمانات للفاعلين الاقتصاديين الذين لا يستطيعون تحمل مخاطر سعر الصرف.
[6] وللسبب نفسه، تخلَّت سلطة الائتلاف المؤقتة عن بعض خياراتها: تحرير الأسعار (إلغاء الدعم على أسعار الوقود والغذاء)، وتقليل عدد موظفي الخدمة المدنية، وخصخصة المؤسسات العامة.
[7] البنية التحتية المعلوماتية هي البنية التحتية التقنية لنظم المعلومات بمختلف أشكالها الرقمية والإلكترونية والمكانية (تدفُّق البيانات ومعالجتها، والتطبيقات، والشبكات، والأمن، وما إلى ذلك).
.
رابط المصدر: