نرمين سعيد
تسود المناخ السياسي في العراق حالة من التشتت ظهرت في منهج الثنائيات السائد بين الكتل السياسية؛ إذ إن هناك اتجاهًا عامًا في تسمية مرشحين اثنين لرئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، في محاولة لإنهاء حالة الخلاف، خصوصًا في ظل استمرار حالة الانقسام داخل البيت الشيعي- في الوقت الذي تصاعدت فيه الخلافات بين الحزبين الكرديين “الاتحاد الوطني- الديمقراطي الكردستاني” اللذين يسعيان إلى الوصول إلى كرسي الرئاسة.
وبناءً على ما تقدم، يرى مراقبون أنه يمكن الاعتماد على نهج الثنائيات فيما يتعلق بتسمية المرشحين لرئاسة الجمهورية، على أن يقوم البرلمان باختيار الأنسب بينهما. في حين تبقى معضلة اختيار رئيس الحكومة بالتحديد لأن حالة الانقسام داخل البيت الشيعي لا تبشر بانفراجة قريبة.
فمن ناحية يصر الصدر على تشكيل حكومة أغلبية للمرة الأولى منذ 2003 بشكل يؤهل رئيس الحكومة ووزراءها لتحمل المسؤولية السياسية عن سير الأمور داخل البلاد، في الوقت الذي يصر فيه الإطار التنسيقي على تشكيل حكومة توافقية تترأسها شخصية تدين بالولاء المطلق لإيران والميليشيات، في استمرار لتعقد المشهد السياسي في العراق منذ الغزو الأمريكي.
وفي هذا الإطار، يمكننا الإشارة إلى أن نهج الثنائيات كان قد نجح في الوصول إلى مرشح تسوية في عام 2018 حين لجأت الكتل السنية والكردية إلى تسمية مرشحين اثنين لشغل منصب رئاسة الجمهورية وتوافق البرلمان في النهاية على تسمية برهم صالح رئيسًا للجمهورية.
ولكن من زاوية أخرى فإن هذا الطرح ليس به حل ينتهي بتعيين رئيس للحكومة؛ ذلك لأن الدستور العراقي ينص على أن الكتلة النيابية الأكثر عددًا تقوم بتسمية مرشح واحد لرئاسة الحكومة، وحتى اللحظة الحالية فشل الإطار التنسيقي في انتزاع لقاء مع مقتدى الصدر الذي اختار عقد لقاء منفرد مع زعيم تحالف ” الفتح” هادي العامري، ولكنه لقاء لم يخرج بجديد يغير المشهد في كل الأحوال. لأن زعيم التيار الصدري يرفض إجراء أي حوار مع التكتل الذي يقوده نوري المالكي.
ولكن مع التكتم الشديد على ما جرى بين مقتدى الصدر وهادي العامري خلال اللقاء الذي جمع بينهما، اتجهت بعض الأقلام للتأكيد على أن الصدر يمكنه أن يقبل بوجود أي تيار داخل الحكومة ما عدا تيار المالكي. وهي لعبة ذكية يبتغي الصدر منها دق الإسفين داخل الإطار التنسيقي ودفع تكتلاته إلى أن تنضم لتحالف الصدر منفردة، فيما يبقى تيار المالكي معزولًا، لأن القوى الشيعية قد تضطر في نهاية المطاف إلى التخلي عنه.
خصوصًا أن الاستقرار على الحلبوسي كرئيس للبرلمان العراقي في ولاية ثانية يشير إلى أن التوجه نحو حكومة الأغلبية والذي يفضله مقتدى الصدر مدعوم من قبل القوى الفاعلة والمؤثرة “الكردية والسنية” على وجه التحديد.
ومن هنا فقد يكون الصدر قادرًا على الذهاب لهذا الخيار دونما الحاجة للإطار التنسيقي الذي تتزايد بداخله المخاوف من أن يصبح أمام خيار أحادي باللجوء للقضاء العراقي الذي سبق ورفض جميع الطعون وأقر نتائج الانتخابات التي جرت في أكتوبر من العام 2021. ولذلك تتجه التأويلات للإقرار بأن اجتماع العامري مع الصدر سيفضي في نهاية المطاف إلى تفكك الإطار التنسيقي؛ خصوصًا أن هناك لقاءً بين العامري ومسعود البارزاني زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني في أربيل قد جرى يوم الاثنين الماضي.
عدم الانحياز
قد يكون المعرقل الوحيد للذهاب إلى خيار حكومة الأغلبية هو التيار الكردي- السني الذي قد يصر في نهاية المطاف على عدم الانحياز للتيار الصدري أو للإطار التنسيقي؛ تحسبًا لتقلبات المستقبل. خصوصًا أن أي تفكير منطقي يؤيد هذا الاتجاه خصوصًا بعد التصريحات التي خرج بها الحزب الديمقراطي الكردستاني في أربيل عقب المفاوضات التي جمعت بينه وبين مفاوض التيار الصدري حيث أكد الحزب الديمقراطي الكردستاني أنه لا يميل لأي من الطرفين والمقصود هنا التيار الصدري والإطار التنسيقي.
ومنذ إقرار نتائج الانتخابات العراقية الأخيرة يمكننا القول إن المشهد السياسي العراقي يدور فوق رمال متحركة، بالتحديد لأن الدستور العراقي لا يعطي للفائز الأحقية بتشكيل الحكومة بطريقة تلقائية، ولكن في المقابل يقر الدستور العراقي مبدأ النصف زائد واحد مما يعني أن أي تيار بحاجة إلى 165 مقعدًا لتمرير الحكومة، وهو ما يعني ببساطة أن التيار الصدري بحاجة لعملية اندماج مع التيارات الأخرى لتمرير الحكومة العراقية.
ولذلك، يبدو أن السيناريو الأقرب للواقعية هو التوصل لما يعرف بحكومة “الأغلبية الكبيرة” والتي تضم 200 مقعد في البرلمان وتجمع تحت مظلتها التيار الصدري وبعض القوى التي قد تنشق عن الإطار التنسيقي إضافة إلى الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني.
وهذا الاتجاه يلقي بالمالكي مباشرة إلى جبهة المعارضة التي يستبعد أن تكون “معارضة وطنية”. ولكن على كل حال فإن هذا السيناريو يحتاج إلى متسع من الوقت في الأثناء التي يبدو فيها انشقاق بعض التيارات داخل الإطار التنسيقي وانضمامها للكتلة الصدرية أكثر عملية من ناحية “اختصار الوقت” المطلوب لتشكيل الحكومة.
خصوصًا أنه بالنسبة للتيار الكردي، فإن الحزب الديمقراطي الكردستاني لا يبدو شديد الميل للتيار الصدري مثل الاتحاد الوطني بسبب رغبته في تسمية أحد قياداته لرئاسة الجمهورية، في الوقت الذي يسعى فيه مقتدى الصدر إلى تجديد ولاية برهم صالح بسبب انتماءاته الأقرب للوطنية من القرب للاتجاهات الكردية الضيقة.
مهمة مستحيلة
لا شك أن الانتخابات العراقية الأخيرة أسفرت عن تغير في الخريطة السياسية في البلاد مهدت له احتجاجات الشارع العراقي التي جعلت منه لاعبًا مؤثرًا في تشكيل أي حكومة قادمة، وإن كانت بعض التيارات السياسية غير قادرة بعد على رؤية ذلك. ويعزى ذلك بشكل أساسي إلى حالة من غياب الانضباط في السلوك السياسي لدى التيارات المختلفة وبالتحديد ذات الولاءات غير القومية، إضافة إلى انعدام الثقة بين التيارات السياسية المتناحرة التي يرغب كل منها في تحقيق مصالح هي في ظاهرها وباطنها مصالح أحادية.
على جانب آخر، تظهر معضلة المصالح الإقليمية – بطبيعة الحال الأطراف السياسية العراقية تربطها مصالح متعددة مع قوى إقليمية ودولية، ويمكن أن نضع يدنا على ذلك بملاحظة الزيارات التي تقوم بها التيارات السياسية داخل العراق لدول عربية وقوى إقليمية قبيل تشكيل الحكومة العراقية. وكذا، لا يمكن إغفال تأثير التوترات بين إيران والولايات المتحدة على تشكيل الحكومة العراقية، وهو ما يؤكد أن الأمر ليس مجرد قرار داخلي أو شأن عراقي، وإنما يتضمن أبعادًا تتعلق بالاستقواء بفواعل إقليمية ودولية.
مع الوضع بالاعتبار أن هذه التدخلات قد تكون أقل وطأة في الوقت الحالي، خصوصًا أن أهم الفاعلين الإقليميين في الشأن العراقي منكبة على شؤونها الداخلية، وتريد الوصول إلى صيغة في العراق تتيح لها إحراز تقدم في مفاوضاتها النووية من زاوية أخرى، فقد اضطلع العراق بدور مهم في تقريب وجهات النظر بين الرياض وطهران بشكل ربما يخرج به من دائرة النزاع الإقليمي بينهما.
ظلال الميليشيات
يمكن القول إن المشهد العراقي الحالي شديد التوتر، خصوصًا بعد أن شهدت البلاد هجمات بالصواريخ مستهدفة بعض المصالح الأجنبية وحتى القواعد العسكرية في البلاد. إذ يمكن الإشارة بسهولة إلى ظل الميلشيات في هذا الأمر وممارساتها منذرة بتهديد الوضع الأمني في البلاد وإدخالها في حالة من الفوضى اعتراضًا على نتائج الانتخابات العراقية.
وفي هذا المشهد الفسيفسائي المعقد وصل قائد فيلق القدس الإيراني ” إسماعيل قاآني” إلى النجف عله ينجح في إعادة بعض التوافق للبيت الشيعي، وبعث خلال وجوده برسالة لاستقطاب التيار الصدري تضمنت زيارة قاآني لمرقد “محمد صادق الصدر”، وتضمنت الزيارة اجتماعات مكثفة مع تيارات الإطار التنسيقي.
بالبناء على كل ما سبق – يمكن النظر إلى رغبة مقتدى الصدر في تشكيل حكومة أغلبية بوصفها رغبة شديدة الجدية تتضمن تفاهمات بين زعيم التيار الصدري ومصطفى الكاظمي لترشيح الأخير لولاية ثانية. وما يعزز من هذا السيناريو هو اللقاء الذي جمع بين الكاظمي وهادي العامري في اليوم التالي لانعقاد البرلمان العراقي – في الوقت الذي يظهر فيه على طرف المعادلة الآخر التقارب بين الصدر والعامري؛ مما يعني أن مقتدى الصدر قد ينجح في المضي قدمًا بسيناريو تفكيك الإطار التنسيقي واستقطاب بعض تياراته، مع الحفاظ على تحالف المالكي في كواليس المشهد. ويعزى ذلك إلى أن التيار الصدري وإن كان يتحرك ببطء على الخريطة السياسية في العراق، إلا أنه استطاع تغيير آلياته وسياساته وتبني اتجاهات أكثر ديناميكية أهلته للوجود في صدر المشهد اليوم.
.
رابط المصدر: