طالما بقي مسعود بارزاني نشطًا على الساحة السياسة، فإنه سيظل العمود الفقري الذي يضمن تماسك العائلة، والقادر على الحفاظ على الوضع الراهن والتوسط بين ابنه وابن أخيه. ورغم من أن مسعود يظهر بوضوح تفضيله لابنه مسرور، فإن نيجيرفان لا يمتلك هامشًا كبيرًا لتحدي سلطة عمه علنًا. هذه الديناميكية…
بقلم: رينوار نجم
في الوقت الراهن، يبدو أن وضع قيادة “الحزب الديمقراطي الكردستاني” أصبح مهددًا في منظومة تقاسم السلطة.
منذ أول انتخابات أجريت في إقليم كردستان العراق عام 1992، بقيت السياسة بشكل كبير تحت سيطرة القوى الحاكمة ذاتها، ولم تسفر الانتخابات عن أي تحولات جذرية في الوضع الراهن. ومع ذلك، قد يشكل شهر تشرين الأول/أكتوبر المقبل لحظة حاسمة، ليس فقط بسبب ظهور منافسين جدد من خارج المشهد السياسي، بل أيضًا نتيجة الصراع على السلطة الذي بدأ يختمر داخل عائلة البارزاني نفسها. فالقيادة التي كانت متماسكة يومًا ما تبدو اليوم على وشك الانقسام، إذ يتنافس شخصان بارزان هما مسرور بارزاني ونيجيرفان بارزاني، على النفوذ والسيطرة. وفى حين يسعى كلاهما إلى ترسيخ إرث العائلة، والتحكم في مستقبل الحزب، وتشكيل مصير إقليم كردستان، قد يصبح من الصعب تجاهل هذه الانقسامات الداخلية.
لا يقتصر الصراع على السلطة داخل العائلات الحاكمة على عائلة البارزاني فحسب، بل أيضا يُعد سمة مشتركة بين القيادات الحاكمة في مختلف أنحاء العالم. ويعود التنافس داخل عائلة البارزاني إلى عهد الملا مصطفى البارزاني الراحل، الزعيم البارز للحزب الديمقراطي الكردستاني والحركة القومية الكردية لعقود. ووفقاً لرواية أيوب البارزاني، الكاتب والناقد الكردي وأحد أفراد العائلة المنشقين، فإنه مع تقدم الملا مصطفى في العمر، أضحى ابناه الأكبران، مسعود (والد مسرور) وإدريس (والد نيجيرفان) -وكلاهما من أم مختلفة- الشخصيتين المحوريتين في نزاع صامت على ميراث والدهما. وعلى الرغم من أن إدريس، الأكبر سنًا، كان يُعتبر على نطاق واسع أكثر دبلوماسية ومهارة، إلا أن الملا مصطفى كان يفضل مسعود، حيث تولى مسعود رئاسة وكالة الاستخبارات القوية التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني “باراستين” وهو في سن العشرين، مما منحه نفوذًا كبيرًا. عندما توفي إدريس بشكل مفاجئ وغامض في عام 1987 عن عمر يناهز الثالثة والأربعين، تم تمهيد الطريق أمام مسعود لتولي قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني، وهو المنصب الذي ظل يشغله منذ ذلك الحين.
منذ سنوات، بدأت المعركة على إرث مسعود بارزاني، البالغ من العمر الآن ثمانية وسبعين عاماً، تتكشف بسرعة، لكنها اشتدت في الآونة الأخيرة، فخلف الكواليس، يدور الآن صراع على السلطة شبيه بذلك الذي صاحب صعود مسعود إلى السلطة، ولكن هذه المرة بين ابنه مسرور وابن أخيه نيجيرفان، حيث يسعى كلاهما إلى رسم المستقبل السياسي لعائلة البارزاني.
على مدى ما يقرب من عقدين، تم الحفاظ على توازن دقيق في السلطة بين نيجيرفان ومسرور بارزاني، حيث كان نيجيرفان يشغل منصب رئيس وزراء حكومة إقليم كردستان، بينما كان مسرور يقود وكالة الاستخبارات. إلا أن هذا التوازن تغير لصالح مسرور عندما تولى منصب رئيس الوزراء في عام 2018، حيث مكنه هذا المنصب من بسط سيطرته على الحزب والحكومة، مما أحدث تغييرًا كبيرًا في ديناميات السلطة الداخلية داخل عائلة البارزاني وفي الإقليم بشكل عام.
وفي المقابل، تم تعيين نيجيرفان رئيسًا لإقليم كردستان العراق خلفًا لمسعود بارزاني. إلا أن رئاسته جاءت متزامنة مع صدور قانون جديد قلص بشكل كبير من صلاحيات المنصب، مما جعله منصبًا رمزيًا يفتقر الى السلطة التنفيذية إلى حد كبير. علاوة على ذلك، ظلت وكالة الاستخبارات ذات النفوذ، المعروفة رسميًا باسم مجلس الأمن، تحت سيطرة مسرور بقوة، وذلك رغم الأحكام القانونية التي تنص على أن الوكالة يجب أن تخضع لسلطة الرئيس. ورغم عدم الإعلان رسميًا عن هوية خليفة مسرور في مجلس الأمن، يُعتقد على نطاق واسع أنه عيّن أحد أشقائه في هذا المنصب، مما يضمن بقاءه تحت إشرافه المباشر. بالإضافة إلى ذلك، أنشأ مسعود بارزاني “مقر بارزاني”، وهو مكتب موازٍ لرئاسة حكومة إقليم كردستان، حيث يواصل من خلاله ممارسة العديد من الصلاحيات التي كان يتمتع بها كرئيس، مما يزيد من تقويض مكانة ونفوذ نيجيرفان بارزاني.
بعد الانتخابات البرلمانية الكردستانية المقبلة، قد يصبح الحفاظ على التوازن الهش بين الشخصيتين الرئيسيتين داخل عائلة البارزاني أمرًا أكثر صعوبة، خاصة في ظل المشهد السياسي الجديد المتوقع أن يتشكل.
في الوقت الراهن، يسيطر “الحزب الديمقراطي الكردستاني” على منصبي رئاسة الوزراء ورئاسة حكومة إقليم كردستان، وذلك رغم افتقاره إلى الأغلبية البرلمانية التي تبرر توليه اثنين من أهم ثلاثة مناصب في الإقليم. وقد كان هذا الترتيب ممكنًا في الماضي بسبب ضعف “الاتحاد الوطني الكردستاني”، الحزب الرئيسي الآخر الحاكم في الإقليم، والاتفاق الذي سمح لـ”الاتحاد الوطني الكردستاني” بالاحتفاظ برئاسة الإقليم مقابل ترك المنصبين الآخرين لـ”الحزب الديمقراطي الكردستاني” في حكومة إقليم كردستان. غير أن هذه الترتيبات قد تغيرت.
في الدورتين الانتخابيتين الأخيرتين، خاض “الحزب الديمقراطي الكردستاني” منافسة غير مثمرة مع “الاتحاد الوطني الكردستاني” على منصب رئاسة الجمهورية العراقية، مما أدى إلى تقويض التفاهم التاريخي بينهما وجعله بلا جدوى. علاوة على ذلك، لم يعد “الاتحاد الوطني الكردستاني”، تحت القيادة الطموحة لزعيمه بافيل طالباني، مستعدًا لقبول احتكار “الحزب الديمقراطي الكردستاني” للمنصبين الرئيسيين في حكومة كردستان، بينما يقتصر دور الاتحاد على رئاسة البرلمان فقط. ومن المرجح أن يتغير هذا الوضع بعد الانتخابات القادمة، مما قد يؤدي إلى بروز التوترات داخل عائلة البارزاني إلى الواجهة.
أعلن “الحزب الديمقراطي الكردستاني” مرارًا وتكرارًا أن مسرور بارزاني سيترأس حكومة إقليم كردستان المقبلة، وهو ما سيستلزم تنحي نيجيرفان عن منصبه الرئاسي. وإذا حدث ذلك، فإن خيارات نيجيرفان تبدو محدودة. قد يكون أحد الحلول المحتملة عرض منصب رئاسة العراق عليه، وهو منصب قد يبدو مغريًا نظرًا لما يحمله من وجاهة وأهمية، حيث يمكن لنيجيرفان أن يعزز من أهمية هذا المنصب، كما فعل الراحل جلال طالباني، بيد أن الانتقال من أربيل إلى بغداد قد يشكل على الأرجح نهاية مستقبل نيجيرفان السياسي في كردستان، مما سيؤدي فعليًا إلى قطع علاقاته بالإقليم وتقليص نفوذ الموالين له بالكامل، وهي عملية ما زالت مستمرة منذ أن تولى ابن عمه منصب رئيس الوزراء قبل ست سنوات.
يحظى نيجيرفان بارزاني بسمعة واسعة كدبلوماسي بارع، وخلافًا لبعض أفراد العائلة الآخرين، يُعرف بأنه سياسي براغماتي يتميز باستعداده لتقديم التنازلات وتجاوز الخلافات القديمة. وفى أعقاب تداعيات استفتاء الاستقلال الذي أجري في عام 2017، كان نيجيرفان هو من نسّق رفع الحظر السياسي المفروض على حكومة إقليم كردستان. وبعد التدهور الأخير في العلاقات بين “الحزب الديمقراطي الكردستاني” وإيران، والذي أدى إلى ضربات صاروخية متكررة على أربيل، كان نيجيرفان من بادر بالسفر إلى طهران لتهدئة الأوضاع. تعتمد عائلة البارزاني على نيجيرفان بقدر اعتماده عليها حيث أن قدرته الفائقة على التعامل مع تعقيدات المشهد السياسي تجعله شخصية محورية لا غنى عنها داخل الحزب والعائلة.
طالما بقي مسعود بارزاني نشطًا على الساحة السياسة، فإنه سيظل العمود الفقري الذي يضمن تماسك العائلة، والقادر على الحفاظ على الوضع الراهن والتوسط بين ابنه وابن أخيه. ورغم من أن مسعود يظهر بوضوح تفضيله لابنه مسرور، فإن نيجيرفان لا يمتلك هامشًا كبيرًا لتحدي سلطة عمه علنًا. هذه الديناميكية تفسر على الأرجح سبب حرص مسرور على ترسيخ مكانته الخاصة، وضمان أن يميل ميزان القوى لصالحه، وبالتالي لصالح أبنائه. وبدون نفوذ مسعود الضامن للاستقرار، قد يتصاعد التنافس الداخلي إلى صراع أكثر حدة، وربما يكون أكثر زعزعة للاستقرار من الصراع الذي حدث على السلطة داخل “الاتحاد الوطني الكردستاني” في يوليو/تموز 2022، عندما أطاح بافل طالباني بابن عمه وشريكه في الرئاسة لاهور شيخ جنكي في سلسلة من الأحداث المثيرة.