على طريق العودة من حرب غزة

كثيرة هى الشكوك التى باتت تتنامى كل يوم، حول ما هو أعمق من صورة إسرائيل التى ستعود بها إلى البيت بعد انتهاء الحرب على غزة، فهى بداية عائدة لا محالة، وهناك هيئة ما لابد لها أن تتصور ويتصور العالم أنها ستبدو عليها وتتحرك بها، هنا وهناك. وللصورة إطار وملامح خارجية ذات أهمية بطبيعة الحال، لذلك تبذل الدول كثيرا من الجهد وتنفق من الأموال وتصيغ المواقف بدقة، من أجل ضمانة جودة هذه الصورة التى لا غنى عنها فى الداخل والخارج. لكن بطبيعة الحال يظل العمق الذى يتشكل خلف تلك الصورة، هو المرجعية التى تصنع ملامحها الرئيسية، وفى ذات الوقت المتحكم فى درجة الجودة التى تصل إلى الآخرين.

وفى حال الدول تتنوع هذه المرجعيات باختلاف الدول والشعوب والأعراق، وهو موضوع متشعب ليس هذا مجال التفصيل فيه، لكن باختصار هذا هو السبب فى أن هناك دولا يعرفها العالم، باعتبارها دولا تاريخية، وأخرى ذات ملامح حداثية، وآخرين عملوا بجد من أجل بناء عمق وملامح ترتبط بالقوة والقيادة، فبلغوا منها مراتب متفاوتة بحسب القدرات والامكانات وحركة التاريخ والأحداث.

إسرائيل الدولة بتاريخ نشأتها الاستثنائية، ومحدودية عمقها مقارنة بدول العالم المختلفة، فضلا عن جريمتها التأسيسية الكبرى، أدرك آباؤها التاريخيون سريعا أنهم بحاجة ملحة طوال الوقت إلى تشكيل عمق، يسهم فى صناعة صورة الدولة التى ستتعامل بها فى الداخل والخارج. التحرك الأولى بالضرورة ارتبط بمحطة التأسيس فصارت ملامح القوة بمدلولها الخشن، ضرورية للحفاظ على غنائم الجريمة الكبرى، أعقب ذلك بناء داخلى لمجموعة من أطر الحكم الديمقراطى للحفاظ على التماسك الداخلى، وللتسويق الخارجى الذى يمكنها من إلحاق نفسها بركب الدول الكبرى، باعتبار أن اسناد تلك الدول لها طوال الوقت هو عمق رئيسى لهذه الدولة الشاذة فى عديد من جوانبها.

وفى مرحلة تالية حرصت إسرائيل وعملت على أن تنقل إسناد الدول الكبرى لها، من مناطق العمق إلى أن يصبح ملمحا رئيسيا تتحرك به بحرية، فى ساحة المجتمع الدولى، ومن ثم تنقله إلى الداخل وإلى جوارها الإقليمى. لعقود مضت ارتضى المجتمع الدولى أن يمرر هذه الملامح فى كثير من المحطات التاريخية، مغلفا إياها بأفضليات ظلت تدعم التزييف الفاضح فى تلك الصورة كى تبدو أصلية مرة بعد أخرى.

بالتأكيد تعرض هذا النسق الإسرائيلى؛ لعديد من الاختبارات والمنعطفات التى كادت تطيح به، أو فى أقل تقدير تدفعها لمواجهة تبعات التشوه بكل ما يلزمه لتصحيح بنيتها التأسيسية، لكن ظل العامل الحاسم فى قدرتها على تجاوز هذه المحطات الدقيقة فى تاريخها، هو الاسناد الدولى الذى ظل يتدخل بثقله فى كل مرة ليلعب دور الرافعة الذى يساعدها على تجاوز ما تتعرض له. وغير صحيح أن هذا الإسناد يأتى عبر الولايات المتحدة وحدها، رغم أهميته ومحورية دوره مثلما كان الحال بالنسبة لبريطانيا العظمى فى فصل التأسيس الأول، فالثابت أن القوى الدولية الكبرى جميعها قدمت لإسرائيل الدولة، من الخدمات الجليلة التى بدونها لم يكن سيكتب الحياة لهذا المشروع.

الآن تواجه إسرائيل حالة استثنائية؛ رغم جهودها الحثيثة فى جميع الاتجاهات لجعل ما يجرى فى قطاع غزة وتوابعه، محطة من محطات عدة سابقة مارست فيها البطش والفعل غير الأخلاقى المتكامل، نجحت فى تمريرها وتجاوزها وعادت إلى مجالها الحيوى بملابسها نظيفة لم يطلها الغبار. إلا أن كل المؤشرات هذه المرة تدل بأن مأزقا وجوديا كبيرا ينتظر إسرائيل على مفارق طريق، العودة من حرب غزة، وهذا يقينا يدور فى مخيلة القادة الإسرائيليين فيجعلهم يؤجلون موعد هذه العودة ما استطاعوا.

أبرز من عبر بجلاء عن هذا الانكشاف المنتظر؛ صدر للغرابة من «فورين أفيرز» الأمريكية الشهيرة، وبقلم اثنين بالمناسبة من كبار كتابها ـ اليهود الأمريكيين ـ هما إيلان ز.

بارو وإيلاى سالتزمان. تحت عنوان مباشر ودال وحده «إسرائيل تنهار.. ومستقبل مظلم ينتظرها بعد حرب غزة»، افتتحا باقتحام العمق التأسيسى للدولة بقولهما عند إنشاء إسرائيل مايو 1948، تصور مؤسسوها «دولة» تقوم على القيم الإنسانية وتحترم القانون الدولي. وأصر إعلان الوثيقة التأسيسية على أن الدولة ستضمن المساواة الكاملة فى الحقوق الاجتماعية والسياسية لجميع سكانها، بغض النظر عن الدين أو العرق أو الجنس، ولكن هذه الرؤية لم تتحقق أبدا. فالمجتمع الإسرائيلى طوال تاريخه فشل فى حل التناقض الحاصل بين «جاذبية» مثل الإعلان، والإلحاح على تأسيس «دولة يهودية» هدفها حماية الشعب اليهودى فقط. وعلى مدى العقود الماضية، ظل هذا التناقض الجوهرى يبرز مرارا وتكرارا، على نحو بات يدفع إسرائيل إلى نقطة الانهيار، خصوصا بعد الحرب على غزة والأزمة القضائية التى سبقتها.

بعيدا عن أن هذه اللهجة وتلك الكلمات التى تظهر للمرة الأولى فى الإصدارات الرئيسية للولايات المتحدة، فهى تنبع من رغبة ملحة لدفع إسرائيل لإنقاذ نفسها عبر هذه المصارحة واستشعار الخطر الداهم. لهذا يرد بالمقال أن الفيلسوف الإسرائيلى «شعياهو ليبوفيتز» علق على ما ارتكبته إسرائيل فى حرب 1967، محذرا من أن البلاد على «منعطف قاتم» فى المستقبل، وأن الاحتفال بـ«وطن» يقوم على المذابح لن يؤدى إلا إلى نقلنا من القومية الفخورة الصاعدة إلى قومية متطرفة.. وهذا سيؤدى إلى الوحشية وتراجع المشروع الإسرائيلى.. وفى نهاية المطاف نهاية الصهيونية.

وبتعبير الكاتبين الأمريكيين؛ أن هذه النهاية أصبحت الآن أقرب مما يريد العديد من الإسرائيليين الاعتراف به. ففى مسارها الحالى، تنحرف إسرائيل فى اتجاه غير ليبرالى تماما، فالنهج اليمينى المتطرف الذى تتبعه يحولها إلى «دولة دينية قومية عرقية» يديرها مجلس قضائى وتشريعى يهودى ومتشددون. والواقع أن التغيرات الديموغرافية والاجتماعية والسياسية، بما فى ذلك الزيادة السريعة فى عدد المتدينين المتطرفين، وميل الشباب اليهود نحو اليمين المتطرف، أنتجت هيئة سياسية يديرها أمثال بتسلئيل سموتريتش، وإيتمار بن غفير، وآفى ماعوز. شبح السقوط – كما عبر عنه الصوت اليهودى الأمريكى – بات أقرب، والدماء التى سفكت تنتج يقينا مزيدا من الأشباح ستطوق المستقبل الغائم للمشروع الإسرائيلى برمته.

 

المصدر : https://ecss.com.eg/47597/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M