على مُنعطَف التمديد: السياسة الروسية تجاه تجديد العمليات الإنسانية عبر الحدود في سورية

عمرو بهاء الدين

 

تنتهي صلاحية قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2642 المتعلق بإدخال المساعدات الإنسانية عبر الحدود إلى سورية في العاشر من شهر يناير 2023. نصّ قرار مجلس الأمن الذي تُوصِّل إليه في شهر يوليو 2022 بأن القرار سوف يكون قابلاً للتمديد لستة أشهر ثانية، ولكن بموجب قرار جديد من مجلس الأمن، وبناءً على تقرير خاص من الأمين العام للأمم المتحدة عن الاحتياجات الإنسانية في سورية. كما جرت العادة عند كل تجديد لهذه الآلية، تتصاعد المخاوف من الأطراف الدولية والمنظمات الإنسانية حول احتمالية عرقلة روسيا لتمديد هذه الآلية، في ضوء معارضتها السابقة واستخدام القرار لتحقيق مكاسب سياسية في سورية.

 

تناقش هذه الورقة الظروف السياسية والإنسانية المصاحبة لهذا التمديد، والحسابات الروسية المتعلقة بالملف، والبدائل المتاحة في حال استخدام روسيا لحق النقض في مجلس الأمن.

 

ما هو القرار 2642؟ 

سمح القرار 2642 الذي تبناه مجلس الأمن في يوليو 2022 باستمرار دخول المساعدات الإنسانية إلى سورية عبر الحدود من معبر باب الهوى مع تركيا. ولطالما استخدمت الأمم المتحدة هذه الآلية لإدخال المساعدات عبر الحدود منذ عام 2014، في ضوء تدهور الوضع الإنساني في سورية والحاجة إلى إدخال المساعدات إلى مناطق سيطرة المعارضة السورية انطلاقاً من الحدود التركية، بسبب صعوبة إدخالها من مناطق سيطرة النظام التي كانت تشهد اشتباكات عنيفة في ذلك الوقت، كما عرقل النظام أيضاً بشكل مُمنهج دخول القوافل من مناطق سيطرته إلى سيطرة المعارضة.

 

مع توسّع سيطرة النظام السوري على مناطق شاسعة من الأراضي السورية بدعم روسي، عارضت روسيا بشكل واضح منذ عام 2019 تمديد الآلية بسبب “تقويضها السيادة السورية”، وضرورة تنسيق إدخال هذه المساعدات عبر الحكومة السورية بسبب انتفاء الحاجة إلى استخدام آلية الإدخال عبر الحدود، وتوافر آلية إدخال المساعدات لهذه المناطق انطلاقاً من دمشق عبر خطوط النار. استخدمت روسيا منذ ذلك الحين تمديد آلية ادخال المساعدات لتحقيق مكاسب سياسية في الملف السوري، وورقة مقايضة أيضاً في ملفات أخرى. نَجحت الولايات المتحدة والدول الغربية في يوليو 2021 بإقناع موسكو بعدم استخدام حق النقض في مجلس الأمن، وتمديد القرار الأممي لعام واحد وذلك بموجب تنازلات وخطوات أمريكية وغربية تمثلت بشكل أساسي في حصر استخدام الآلية لمعبر واحد (معبر باب الهوى مع تركيا)، والنص بشكل واضح في القرار الأممي بتعزيز مشاريع التعافي المبكر في سورية، والتي شكّلت أولوية روسية لدعم النظام من الناحية الاقتصادية والدفع بملف إعادة الاعمار.

 

في يوليو 2022، عرضت روسيا بدورها تمديد الآلية استناداً إلى أن الأمم المتحدة لا تقوم بما يكفي لإدخال المساعدات عبر خطوط النار انطلاقاً من دمشق، واستخدمت حق النقض لمعارضة نسخة من القرار مقدَّمة من إيرلندا والنرويج نصّت على تمديد الآلية لستة أشهر، تليها ستة أشهر أخرى بموجب تقرير للأمين العام للأمم المتحدة. نجحت المفاوضات في مجلس الأمن في الوصول إلى نص توافقي (القرار 2642) الذي مدَّد آلية المساعدات لمدة ستة أشهر تنتهي في العاشر من يناير 2023، ويمكن تمديدها لستة أشهر ثانية بموجب قرار منفصل. كما نصّ القرار على تعزيز جهود الأمم المتحدة في مجال التعافي المبكر، والتركيز على مشاريع المياه والصحة والتعليم والكهرباء الضرورية لاستعادة الخدمات الأساسية.[1]

 

دفعت موسكو خلال التجديدين السابقين إلى تضمين مشاريع التعافي المبكر في نص القرار الذي تم التوصل إليه، في محاولة منها لدفع الأمم المتحدة إلى أخذ خطوات عملية في ملف إعادة الإعمار وإعادة تعويم النظام السوري. نجحت موسكو جزئياً في هدفها، حيث قامت الأمم المتحدة فعلاً بتنفيذ نحو 374 مشروعَ تعافٍ مبكر بقيمة 517 مليون دولار أمريكي في 14 محافظة سورية، في مجالات إعادة تأهيل البنية التحتية وتوليد الكهرباء ودعم القطاع التعليمي والخدمي وغيرها.[2]

 

تُواجه مشاريع التعافي المبكر تحديات كبيرة أهمهاعدم قدرة منظمات الأمم المتحدة على الانخراط بشكل مباشر مع الوزارات السورية المعنية لتنفيذ مشاريع إصحاح مبكر ذات حجم وأثر كبيرين، نظراً إلى قيود إجرائية داخلية تنص على عدم التعاقد مع مؤسسات النظام السورية بشكل مباشر، بسبب الانتهاكات التي قامت بها عبر سنوات الحرب، والتسيس الكبير لهذا ملف على الصعيد الإعلامي. يُعزز هذه التقييدات شروط المانحين بعدم استفادة النظام السوري بشكل مباشر من أي مشاريع يتم تنفيذها.[3] كما أنّ مدة قرار مجلس الأمن المنحصرة بستة أشهر فرضت تعقيدات إجرائية لتنفيذ مشاريع ذات حجم وأثر كبيرين من قبل الأمم المتحدة وشركائها نظراً لقصر المدة الزمنية.[4] يُضاف إلى ما سبق تحفّظ مجتمع المانحين بشكل عام عن تمويل مشاريع التعافي المبكر، وضخامة الاحتياجات الموجودة في كل القطاعات الخدمية والاقتصادية.[5]

 

التداعيات الإنسانية والسياسية لعدم التجديد

في ضوء انتهاء صلاحية القرار في 10 يناير 2023، تعود مخاوف المجتمع الدولي إلى الظهور على السطح في حال عدم قدرة مجلس الأمن على تمديد آلية المساعدات عبر الحدود لستة أشهر ثانية، في ضوء تدهور العلاقة بين روسيا والدول الغربية بعد الحرب الأوكرانية، والعقوبات الدولية المفروضة على روسيا. كما أن صلاحية القرار تنتهي في ذروة فصل الشتاء وذروة الاحتياجات الإنسانية وسط تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في مختلف المناطق السورية.

 

أشار تقرير الأمين العام للأمم المتحدة إلى مجلس الأمن في 12 ديسمبر 2022 حول الوضع الإنساني في سورية، والذي قُدِّمَ بموجب القرار 2642، إلى أنّ هناك نحو 15.3 مليون نسمة بحاجة للمساعدات الإنسانية في سورية؛ 7.5 مليون منهم يقطنون في مناطق خارج سيطرة النظام السوري.[6] وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن هناك 4.1 مليون شخص يحتاجون للمساعدات الإنسانية في شمال غربي سورية فقط. وتُقدِّم الأمم المتحدة مساعدات شهرية لنحو 2.7 مليون شخص منهم، حيث يعتمد ما يقارب 65% من إجمالي الأشخاص المحتاجين للمساعدات الإنسانية بشكل شهري ومباشر على مساعدات الأمم المتحدة وشركائها، والتي تُقدَّم عبر آلية الإدخال عبر الحدود، كما يستفيد باقي السكان من المساعدات الإنسانية بشكل غير مباشر عبر دعم خدمات البنية التحتية والخدمية.  وتتوزع مساعدات الأمم المتحدة بشكل أساسي على عدة قطاعات، أهمها الغذاء، والصحة والتغذية، والمياه، والمأوى وإدارة المخيمات، والتعليم، والخدمات الاجتماعية، والتعافي المبكر.

 

وعلى مدى سنوات الحرب، استقبل الشمال السوري آلاف النازحين داخلياً من مختلف المناطق السورية، إضافةً إلى حملات التهجير والتغيير الديمغرافي التي تمت تحت غطاء “المصالحات” وإخلاء مناطق المعارضة من سكانها من قبل النظام بعد تزايد الدعم الروسي والإيراني العسكري، أي أنّ معظم السكان في الشمال السوري هم من الفئات الأشد ضعفاً والذين تعرضوا للنزوح عدة مرات، وبالتالي تُعد قدرتهم على الصمود من دون مساعدات إنسانية محدودة. وتشهد كل المناطق السورية تدهوراً في الوضع الاقتصادي والمعيشي في ضوء استمرار الحرب السورية منذ 12 عاماً. وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن نحو 2.87 مليون نازح يقطنون في مناطق شمال غربي سورية؛ منهم نحو 1.8 مليون شخص يقطنون في 1400 موقع نزوح أو مخيمات.[7]

 

في حال لم يُجدَّد القرار، سنشهد تداعيات كبيرة في الشمال السوري، حيث يمكن أن يشكّل أي توقف لآلية إدخال المساعدات عبر الحدود تحدياً إنسانياً وسياسياً كبيراً للعديد من الأطراف، وعلى رأسها الحكومة التركية. إنّ أي قطع لإمدادات المساعدات عبر الحدود سوف تظهر نتائجه بعد نحو شهرين، حين تفرغ المستودعات من المساعدات الإنسانية المقدمة من الأمم المتحدة التي تغطي حوالي2.7 مليون شخص، أو 65% من الأشخاص المحتاجين إلى المساعدات الإنسانية. في حين أن المنظمات الإنسانية التركية والدولية والسورية المعارضة سوف تستمر في تقديم المساعدات في الشمال السوري بالتنسيق مع الطرف التركي، إلا أنه سوف تتشكل ثغرة شاسعة أمام هذه المؤسسات لسد الاحتياج الناتج عن غياب دعم المنظمات الأممية.

 

تقوم المنظمات الدولية غير الحكومية والمؤسسات التركية والسورية المعارضة بتقديم المساعدات الإنسانية في مناطق الشمال الغربي من سورية، بالتنسيق مع العاملين في الوسط الإنساني (الأمم المتحدة وغيرها) وتستهدف معظم أولئك الذين لا يتلقون مساعدات إنسانية عبر الأمم المتحدة وشركائها والمقدر عددهم بـ 1.4 مليون شخص. كما تتلقى هذه المنظمات دعماً وتمويلاً من العديد من المانحين الدوليين، إلا أن إمكاناتها وقدرتها على تقديم المساعدات لا يُمكن أن يُغطي العدد الكبير (2.7 مليون) من المحتاجين الذين يعتمدون على آلية المساعدات عبر الحدود.

 

تُعد المساعدات المقدمة من المنظمات الأممية مُكلفة، وتتطلب ميزانيات ضخمة للتمويل وسلاسل دولية طويلة من التوريد واللوجستيات المرتبطة بتخزين ونقل المساعدات من تركيا إلى الداخل السوري ومن ثم توزيعها على المستحقين، وغيرها من لوجستيات العمل الإنساني. ونظراً إلى نطاق وحجم هذه العمليات الإنسانية، فإنّه لا يمكن للمنظمات التركية أو المنظمات الدولية غير الحكومية أو المنظمات السورية المعارضة تعويض هذا الفراغ الشاسع في الاحتياجات الإنسانية بشكل فوري. ومن المتوقع أن تتسبب هذه التغيرات -في حال حدوثها- في زعزعة للأوضاع الأمنية والاقتصادية في الشمال السوري والتأثير سلباً على آليات التأقلم التي يعمل بها سكان تلك المناطق، ومن شأنها إضافة المزيد من الضغوط على تركيا التي تحاذي حدودها هذه المناطق، وتنتشر قواتها في عشرات النقاط.

 

وفي الوقت التي يتواصل الزخم السياسي المرتبط بالتحضيرات الداخلية التركية للانتخابات الرئاسية في صيف العام 2023، وتواصل التحضيرات لشن عملية عسكرية تركية في شمال سورية لتشكيل منطقة عازلة على طول الحدود السورية-التركية وإعادة اللاجئين السوريين من تركيا، فإنّ عدم تمديد آلية ادخال المساعدات عبر الحدود سوف يُشكّل تحدّياً لأنقرة التي تسعى لتعزيز الاستقرار في المناطق الخاضعة تحت نفوذها في سورية، وتستثمر بشكل كبير في البنية التحتية بهدف خلق البيئة المناسبة لعودة اللاجئين السوريين من تركيا ومنْع حركة السكان المعاكسة باتجاه تركيا. وأكّدت أنقرة أهمية ملف تمديد المساعدات عبر الحدود في عدة مناسبات، كان أهمها خلال مكالمة هاتفية بين الرئيس التركي والأمين العام للأمم المتحدة في شهر نوفمبر 2022، وخلال المحادثات الثنائية بين الرئيسين التركي والروسي، في 12 ديسمبر، حين أكّد الرئيس أردوغان لنظيره الروسي أهمية تمديد العمليات الإنسانية عبر الحدود.

 

الحسابات الروسية في ملف المساعدات عبر الحدود

تستند الحسابات الروسية في ملف المساعدات عبر الحدود في سورية على الظروف الدولية بشكل عام، إضافةً إلى طبيعة وخصوصية العلاقة الروسية-التركية ثانياً، والاهتمام الروسي بملف المساعدات عبر الحدود بوصفه أداة لتحسين ظروف التفاوض في الملف السوري.

 

ويأتي التمديد في ملف المساعدات الأممية عبر الحدود في وقت أدت الحرب الروسية في أوكرانيا إلى انحسار الدور الروسي على الصعيد الدولي بشكل عام، وسط تزايد العقوبات الغربية على موسكو والعزلة السياسية التي فرضتها الحرب. كما أنّ إطالة عمر الحرب وتراجع القوات الروسية في أوكرانيا أديا إلى ازدياد الضغط السياسي والعسكري على روسيا. ورمت الحرب الأوكرانية بظلالها على الدور الروسي في سورية الذي انحسر نظراً إلى انشغال موسكو في حربها في أوكرانيا، إضافةً إلى سحبها العديد من قواتها العسكرية من سورية، وتراجع أهمية الملف السوري على سلم الأولويات الروسية. إلّا أن انحسار الدور الروسي على الصعيد الدولي لن يُشكّل عائقاً لموسكو لعرقلة تمديد آلية المساعدات عبر الحدود في سورية، ومحاولة الاستثمار السياسي في الملف لتحقيق مكاسب في سورية.

 

تُولي موسكو أهميةً بالغة لعلاقتها مع أنقرة نظراً لتشابك المصالح المشتركة بين الطرفين والعلاقة الشخصية التي تجمع الرئيسَين بوتين وأردوغان. واستمر التعاون الروسي-التركي المشترك في العديد من الملفات برغم تباين مواقف الطرفين في العديد من الأزمات الدولية، حيث أدى هذا التعاون إلى التوصل إلى اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية بوساطة تركية. وفي الملف السوري، استمر التعاون الثنائي إما في إطار اتفاق خفض التصعيد في أستانة، أو بشكل مباشر بين الطرفين، وقيام موسكو بدور الوسيط بين أنقرة ودمشق.

 

تُشكّل ديناميات العلاقة الروسية-التركية والمصالح المشتركة دافعاً أساسياً لموسكو لتمرير تمديد القرار حفاظاً على المصالح المتبادلة مع تركيا. وفي الوقت الذي تستمر فيه تركيا في تحضيراتها السياسية والعسكرية لعملية عسكرية بريّة داخل الأراضي السورية بهدف إقامة حزام أمني وإعادة اللاجئين السوريين إلى سورية، فإنّ هذه التطورات مرتبطة بشكل قوي بملف المساعدات الإنسانية عبر الحدود، حيث يُمكن أن يُشكّل أي “فيتو” روسي تهديداً للترتيبات التركية في الشمال السوري وضرباً لحالة الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، مما قد يؤدي إلى تدفق آلاف اللاجئين إلى تركيا التي تسعى هي بدورها إلى إعادة اللاجئين الموجودين أصلاً في تركيا إلى الأراضي السورية.

 

يُشكّل تمديد قرار مجلس الأمن أداةً مهمة في يد موسكو لاستخدامه في تحصيل مكاسب سياسية في الملف السوري بشكل مباشر، حيث يُمكن أن تسعى روسيا عبر مفاوضاتها مع الدول الغربية لتحصيل تنازلات أكبر في ملف التعافي المبكر ودعم البنية التحتية المنهارة في مناطق النظام التي تشهد تدهوراً كبيراً في الاحتياجات الإنسانية والاقتصادية. ولطالما استخدمت روسيا هذا التكتيك في عمليات التصويت السابقة من أجل الحد من مدة القرار، وانتزاع تنازلات سياسية في نص القرار. وتنظر موسكو إلى القرار الأممي كوسيلة فقط، وتلوّح بتوقيفه من أجل تحصيل مكاسبها السياسية، ولا تعطي الكثير من الأهمية حول الاحتياجات الإنسانية والفراغ الذي سوف يحصل في حال توقف آلية المساعدات عبر الحدود.

 

البدائل المتاحة

في حال استخدام روسيا حق النقض في مجلس الأمن، وعدم قدرة الدول الغربية على الوصول إلى حل سياسي مع موسكو، فإن الخيارات المطروحة حول بدائل آلية إدخال المساعدات عبر الحدود تتركز فيما يأتي:

 

1. إدخال المساعدات عبر خطوط المواجهة

 يُشكِّل هذا الخيار مَطلباً روسياً وسورياً بالأساس، حيث تطالب موسكو باستخدام هذه الآلية المبنية على إرسال المساعدات عبر دمشق، وبالتالي إعطاء النظام دوراً محورياً وسيادياً في تقرير كميات ونوعيات المساعدات المرسلة إلى المناطق الخارجة عن سيطرته، والتحكم بالمناطق التي سوف تستهدفها المساعدات. ومنذ تبني قرار مجلس الأمن في يوليو 2022، أدخلت الأمم المتحدة أربع قوافل مساعدات إلى مناطق الشمال الغربي عبر آلية إدخال المساعدات عبر خطوط التماس. وتخضع الآلية التي يُعمَل بها من قبل الأمم المتحدة لإدخال المساعدات عبر خطوط التماس، لمقدار كبير من العمل التنسيقي بين النظام السوري وأجهزته الأمنية من جهة، وقوات المعارضة السورية من جهة ثانية.

 

كما تخضع عمليات إدخال المساعدات من مناطق النظام لتنسيق أمني ولوجستي مُعقد بين كل الأطراف المحلية (النظام وفصائل المعارضة ووحدات الحماية الكردية) والدولية (روسيا وتركيا وإيران وقوات التحالف الدولي) لضمان عدم استهداف القوافل الإنسانية، وضمان سهولة حركة هذه الشاحنات عبر نقاط السيطرة بين النظام والمعارضة. وشَهد العام الجاري على سبيل المثال الكثير من التعقيدات اللوجستية والأمنية أثناء دخول القوافل، مثل هوية سائقي الشاحنات ومحتوى القوافل ونقاط دخولها، والتي أدت إلى تأخير وتعقيد العمليات من الناحية اللوجستية. كما أنّ للنظام السوري تاريخ طويل في عرقلة المساعدات الإنسانية واستخدامها سلاح حرب خلال سنوات الصراع.

 

نظراً إلى حجم ونطاق المساعدات الإنسانية المقدَّم عبر الحدود، والترتيبات اللوجستية المعقدة المرتبطة بذلك، والعدد الكبير للأشخاص الذين هم بحاجة إلى المساعدات، فإنه سوف يكون من الصعب استبدال هذه الآلية بالمساعدات المقدمة من مناطق سيطرة النظام من الناحية التشغيلية، وسوف تتطلب كمّاً هائلاً من الجهود لتنسيق العمل اليومي وسط بيئة ميدانية وأمنية صعبة جداً. كما يُعد عدد القوافل التي نجحت الأمم المتحدة في إدخالها منذ تبني القرار في يوليو الماضي متدنياً جداً، ولا يمكن لهذه الآلية أن تغطي الاحتياجات الإنسانية الضخمة في مناطق سيطرة المعارضة على المديين القريب والمتوسط. وأشارت الأمم المتحدة في العديد من المناسبات، كان آخرها تقرير الأمين العام في شهر ديسمبر 2022 حول تنفيذ القرار 2642، إلى أن آلية المساعدات عبر الحدود جزءٌ لا غنى عنه وغير قابلة للاستبدال بآلية خطوط المواجهة/التماس.

 

تُعد هذه الآلية موجودة فعلاً وقنوات الاتصال موجودة بين الأمم المتحدة والأطراف المعنية، إلّا أن الأمر سوف يتطلب الكثير من الوقت والرغبة السياسية من أطراف الصراع، من أجل تعويض جزء من آلية إدخال المساعدات عبر الحدود.

 

2. تسليم مهام العمليات الإنسانية عبر الحدود إلى المنظمات الدولية غير الحكومية 

تقوم الأمم المتحدة بالعمل بشكل غير مُعلن عن خطة بديلة (contingency plan) في حال عدم تمديد قرار مجلس الأمن بإدخال المساعدات عبر الحدود[8]، نظراً إلى استحالة تغطية الاحتياجات الإنسانية عبر آلية الإدخال عبر خطوط المواجهة. وتعتمد هذه الخطة الأممية بشكل أساسي على المنظمات الدولية غير الحكومية (INGOs) العاملة على الحدود التركية-السورية، والتي تمتلك أصلاً عمليات إنسانية ولوجستية لها داخل مناطق سيطرة المعارضة، لإيصال المساعدات الإنسانية اللازمة.

 

وتتركز هذه الخطة في تقديم التمويل اللازم من منظمات الأمم المتحدة المختصة لهذه المنظمات غير الحكومية للقيام بالمهام كافة، بدءاً من سلاسل التوريد والتخزين والشحن والنقل البري إلى مناطق المعارضة، وانتهاءً بتوزيع هذه المساعدات على المجتمعات المستهدفة. وتعمل العديد من المنظمات الحكومية على الحدود السورية-التركية وداخل سورية بعلم وموافقة السلطات التركية، وبالشراكة مع العديد من المنظمات السورية المحلية، مما قد يُسهِّل المهمة نظراً لوجود هذه المنظمات على الأرض. ويُشكّل الهلال الأحمر التركي أهم هذه المنظمات المرشحة للقيام بهذه العمليات الإنسانية لما تتمتع به المنظمة من نفوذ وقوة داخل تركيا، وثقة السلطات التركية بها أيضاً، كما أن قدرات الهلال الأحمر التركي اللوجستية الكبيرة تؤهله للعب هذا الدور.

 

وفي حال المضي قُدماً في هذا السيناريو، فإنّ ذلك سوف يُعتبر إنهاءً لمهام الأمم المتحدة في لعب الدور الريادي لإدخال المساعدات عبر الحدود، وتنسيقها مع الأطراف المعنية باعتبارها هيئة أممية مفوضة من مجلس الأمن الدولي، ويضع هذه المساعدات في يد أطراف وجهات أخرى، ويجعلها عُرضة أكثر للتسييس من قِبل تركيا والدول المانحة. وتُفقِد هذه الخطة نفوذ موسكو في ملف المساعدات الإنسانية ويُخرجها تماماً من الحسابات السياسية، وبالتالي خسارتها أداةً تفاوضية مهمة في الملف السوري.

 

3. إدخال المساعدات عبر الحدود من قبل الأمم المتحدة ولكن دون موافقة مجلس الأمن

صدرت في نوفمبر 2022 دراسة حقوقية مُعمَّقة عن مؤسسة “غورنيكا 37” الدولية الحقوقية، بتفويض من “التحالف الإغاثي الأمريكي من أجل سورية”، بحثت الأطر القانونية التي تتيح للأمم المتحدة وشركائها مواصلة إرسال المساعدات العابرة للحدود إلى سورية، في حال تعرقل قرار مجلس الأمن الدولي بهذا الخصوص.[9] وتستند الدراسة القانونية إلى تحليل وتجميع مجموعة من القواعد من القانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي العرفي التي تجيز للأمم المتحدة الاستمرار في إدخال المساعدات عبر الحدود من دون الحاجة إلى قرار مجلس الأمن الدولي، بناءً على عدة أسس أهمها أن ديناميات الصراع السوري قد تغيرت مقارنةً ببداية الصراع في عام 2014، وذلك استناداً إلى اتفاقيات جنيف الأربعة والقانون الدولي الإنساني. كما استندت الدراسة إلى أن تقديم المساعدات عبر الحدود لا يشكل جزءاً من الأفعال غير القانونية بموجب القانون الدولي العام، ولا يتعارض مع سيادة الدولة وسلامة أراضيها. وأضافت الدراسة أن إدخال المساعدات عبر الحدود يُعد قانونياً استناداً إلى مبدأ “الضرورة”، ويتم عبر تعامل الأمم المتحدة مع “سلطات الامر الواقع” (قوات المعارضة) التي تسيطر على الحدود مع تركيا وتتحكم بالمعبر الحدودي.

 

وأدت هذه الدراسة إلى تزايد المشاورات الداخلية في أروقة الأمم المتحدة عما إذا كان من الممكن المضي قدماً في إدخال المساعدات عبر الحدود من دون قرار مجلس أمن، حيث يحتاج قرار كهذا إلى دراسة معمقة عن إمكانيته من وجهة النظر الأممية وقبول مجتمع المانحين بمثل هذا الخيار. وكشفت مصادر أممية للباحث أن هذا الخيار غير مطروح في الوقت الراهن، نظراً لأنه سوف يُشكّل سابقةً دولية، ولخطورته على دور الأمم المتحدة في الصراع السوري ككل، سواء على الصعيد السياسي أو على صعيد العمليات الإنسانية داخل مناطق النظام.[10]

 

وعلى الرغم من هذا الخيار غير مطروح بشكل عملي في الوقت الراهن، إلّا أن مجرد طرحه للنقاش النظري في أروقة الأمم المتحدة والمؤسسات الغربية المعنية بملف المساعدات قد يُثير مخاوف موسكو من إمكانية التصعيد من قبل الدول الغربية واستخدام الحل لفرض أمر واقع في سورية.

 

استنتاجات 

تتمحور محددات السياسة الروسية في ملف المساعدات عبر الحدود في محددين أساسيين: أولهما العلاقة الروسية-التركية وخصوصية هذه العلاقة بين الجانبين بسبب المصالح المشتركة والتقاطعات في العديد من الملفات، والمحدد الثاني استخدام قرار مجلس الأمن وسيلة لتحقيق مكاسب سياسية في سورية. تُعتبر العلاقة الروسية-التركية بالغة الأهمية بالنسبة لموسكو في ضوء تدهور علاقة الأخيرة مع الدول الغربية، وبسبب تقاطع المصالح في العديد من الملفات الإقليمية. وتَعي موسكو أهمية آلية المساعدات عبر الحدود للمناطق الخاضعة للنفوذ التركي في شمال سورية، ولن تقوم بضرب المصالح التركية عبر إغلاق كامل لمعبر باب الهوى.

 

ومن الناحية الثانية، تستخدم موسكو ورقة المساعدات الإنسانية عبر الحدود من أجل تحصيل مكاسب سياسية من الدول الغربية في ملف التعافي المبكر ودعم الوضع الاقتصادي للنظام السوري. ولن يكون من مصلحة موسكو استخدام حق النقض في مجلس الأمن من أجل إغلاق نهائي للمعبر الحدودي، بسبب علمها بوجود خيارات بديلة يُمكن أن تجعلها تخسر ورقة مفاوضات مهمة في الملف السوري وتُخرجها من الحسابات بشكل كامل، وذلك سوف يعزز رغبتها في الوصول إلى اتفاق معين في مجلس الأمن.

 


[1] قرار مجلس الأمن الدولي 2642، متاح على: https://documents-dds-ny.un.org/doc/UNDOC/GEN/N22/421/71/PDF/N2242171.pdf?OpenElement 

[2] تقرير الأمين العام للأمم المتحدة حول الوضع الإنساني في سورية، متاح على:  https://documents-dds-ny.un.org/doc/UNDOC/GEN/N22/742/88/PDF/N2274288.pdf?OpenElement

[3] مقابلة للباحث مع أحد المسؤولين الأمميين في دمشق، 10 ديسمبر 2022. 

[4] مقابلة للباحث مع أحد المسؤولين الأمميين في دمشق، 10 ديسمبر 2022.

[5] المرجع السابق.

[6] تقرير الأمين العام للأمم المتحدة حول الوضع الإنساني في سورية، مرجع سبق ذكره. 

[7] المرجع نفسه. 

[8] مقابلة للباحث مع مسؤول أممي في دمشق معني بآلية إدخال المساعدات، 14 ديسمبر 2022. 

[9] مؤسسة غورنيكا 37 والتحالف الإغاثـي الأمريكي من أجل سورية، “2014 ليست 2022: لماذا يعتبر استمرار المساعدات عبر الحدود بتنسيق من الأمم المتحدة إلى سورية مشروعاً في غياب قرار من مجلس الأمن الدولي في ضوء وقائع النزاع السوري الحالي”، 2022. https://arcsyria.org/sites/default/files/2022-12/ARCS%20XBHA%20Full%20Report%20-%20Arabic%20-%20Final%20V1.1.pdf 

[10] مقابلة للباحث مع مسؤول أممي في دمشق معني بآلية إدخال المساعدات، 14 ديسمبر 2022.

 

.

رابط المصدر:

https://epc.ae/ar/details/featured/alsiyasa-alruwsia-tujah-tajdid-alamaliyat-al-insaniya-abr-alhudud-fi-suria

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M