د. أحمد رهنمائي
ينحو هذا الحوار في الاتجاه الذي يحدد المنهجية النقدية التي ينبغي على النخب الإسلامية أن تعتمد في مقاربة الغرب المعاصر. وقد كان ذلك مدار نقاش مع الدكتور أحمد رهنمائي. وهو خريج جامعة مكغيل الكندية، وعضو في الهيئة العلمية لمؤسسة الإمام الخميني للتعليم والتحقيق، وقد نُشرت له حتى الآن عدة كتب ومقالات مثل: «معرفة الغرب» و «مدخل إلى مباني القيم» و «التعرف على مبادئ الاستشارة وفنونها» و «المواجهة بين الرؤية الكونية العلمانية والرؤية الكونية التوحيدية» و «فلسفة التعليم والتربية: الغربية والإسلامية» و «فلسفة علم النفس ونقده» و… مضافاً إلى انشغاله لأكثر من عقدين من الزمن بالبحث والتدريس في المجالات المتنوعة للعلوم التربوية وعلم النفس والإرشاد وتقديم الاستشارة. مضافاً إلى عقده العديد من الجلسات والندوات والحوارات واللقاءات العلمية حول التعرف على الغرب. ومن هنا فنحن نسعى في هذا الحوار للتعرض إلى بعض المسائل العامة المرتبطة بالتعرف على الغرب.
«المحرّر»
* كيف ترون المسير الأولي للمشروع المسمى بـ «نقد الغرب» وكيفية تقدمه؟. وبعبارة أخرى، كيف نَقوم بإدارة هذا المشروع من أجل أن يصل إلى النتائج المطلوبة؟.
-عندما نريد دراسة ظاهرة ما وتحليلها وفهمها، فلا بد لنا من ملاحظتها كحالة متكاملة. والمراد من ذلك أن نقوم بدراستها بلحاظ نقطة بدايتها، ونهايتها، ومسير حركتها. وأنا أعتقد أنه يجب ملاحظة هذه الحالة عند دراسة الغرب. وعلى هذا الأساس، فإننا إذا كنا نريد أن نفهم بشكل تحقيقي ماهية الغرب وطبيعته وهويته، وما هي الآثار والنتائج المترتبة على الغرب؟ كيف كان ظهوره، وما هي نقاط الضعف والقوة التي كانت موجودة فيه؟. فلابد من ملاحظة هذه الحالة منذ نقطة بداية تَشكُّل الثقافة والأدب والتاريخ في الغرب، ومن ثم نتحرك معها تاريخياً إلى أن نصل إلى الوقت الحالي. وآنذاك نجعل من الزمان الحالي مُنطلقاً نستشرف على أساسه مستقبل الغرب ونهايته. وعلى أساس هذه المحاور الثلاثة يمكن الوصول إلى منهج خاص في نقد الغرب. وطبقاً لهذا المنهج، فالسؤال الأول يدور حول زمان ظهور الغرب بعنوان «الغرب»؟ وللجواب على هذا السؤال لا بد لنا من الرجوع إلى آراء المحققين والمؤرخين الغربيين أمثال ويل ديورانت وهنري لوكاس وغيرهما. وطبقاً لآراء هؤلاء فإن تاريخ الغرب يرجع إلى 1600 سنة قبل ميلاد المسيح. ولم يُقدم لنا المؤرخون معلومات حول الأحداث التي جرت قبل ذلك التاريخ. وطبعاً فنحن لا حاجة لنا أيضاً لتلك المعلومات. وعلى هذا الأساس يكون مجموع 1600 سنة قبل ميلاد السيد المسيح، و2018 سنة بعد ذلك يساوي 3618 سنة. وهذا هو مجموع كل تاريخ الثقافة الغربية التي ينبغي لنا تحصيل معلومات عنها. ولا شك أنه ليس هناك من ضرورة لتحصيل هذه المعلومات بشكل تخصصي، بل يكفي بالمقدار الذي يجعلنا نفهم الخلفية الثقافية، والاتجاه الحالي الحاكم على الغرب، والتنبؤ بالمستقبل الذي ينتظر الغرب. ولا شك في أنه يجب في هذا السبيل ملاحظة كل أبعاد هذه الحالة. وبناءً على هذا، فالمرحلة الأولى ترجع إلى «عهد الغرب القديم». ومن خلال نظرة مقارنة فإننا لا نجد عندنا مرحلة تتميز بأنها «الإسلام القديم»، ولا شك أنه يمكن تقسيم تاريخ الإسلام إلى عصور مختلفة. كما أنه يمكن من منظار إسلامي اتخاذ منهج نقدي تجاه الغرب القديم، ذلك الغرب الذي رغم معاصرته لدين النبي موسى فإنه لم يأخذ منه أي لون أو طعم، وإذا كان قد بحث أحياناً عن علة علل خلق العالم فإنه لم يصل إلى إله الأنبياء، بل كان يسميها أحياناً علة العلل، وأخرى المحرِّك الأول، و… ولذا، فإنه يمكن اتخاذ منهج نقدي من هذه النقطة. فبحسب أفكار الغرب القديم يمكن أن لا يكون للعالم خالقاً. وإنما وُجد بحسب قانون التحوّل أو الديالكتيك من الأطروحة والطباق والمركب (الإثبات والنفي ونفي النفي). وهل هناك مُرشد للإنسانية؟. يعتقد الغرب القديم أن الإنسان لا حاجة به لمُرشد مرتبط بالوحي. وهل للوحي دخالة في تنظيم المجتمعات؟. ويجيب الغرب القديم على هذا السؤال بالنفي أيضاً؛ لأن الحجية فقط للعقل والفكر والتجربة والحس. ولهذا فأنا أعتقد أن الشروع بنقد الغرب يمكن ملاحظته مع بداية ظهور تاريخ الغرب وثقافته. ومن ثم المضيّ معه ضمن إطاره التاريخي، وصولاً إلى مستقبل الغرب أخيراً.
* برأيكم على أي أسس قامت نظرية المعرفة في الحضارة الغربية، وكيف تنظرون إليها؟
-تعني مباني نظرية المعرفة كيفية تحصيل المعرفة عند الإنسان الغربي؟. غير أن كل ما قبله الغرب وصححه ولم يتجاوزه يتلخص في ثلاثة أنواع من المعرفة. الأولى: المعرفة الحسية والإحساسية. وطبقاً لهذا الأساس يُقال: لأننا نرى ونحس ونلمس فنحن موجودون. وإذا حبس الإنسان نفسه في المعرفة الحسية فسوف يقول: باعتبار أننا لا نرى الله ولا نسمع الوحي فهذه الأشياء لا وجود لها. وسوف يقول أيضاً بأننا لا نشعر بحاجتنا إلى الوحي؛ لأننا لا نرى الوحي، ونحن قادرون أيضاً على التشخيص. والإسلام يرى هذا النحو من المعرفة صحيحاً، ولكنه محدود وقليل؛ لأننا إنما نُدرك قسماً فقط من المعارف في هذا المجال. وبالتالي فهذا الطريق يستوعب قسماً من المعارف فقط. الثانية: المعرفة الإحساسية والتجريبية. وأتباع هذا الطريق _ أمثال شارل ساندرز بيرس، وفرانسيس بيكون، والتجريبيون بشكل عام _ يقبلون التجربة مضافاً إلى الحس والإحساس، ويعتقدون بأن التجربة أيضاً تمنحنا المعرفة. يقول شارل ساندرز بيرس: «إننا لم نصل إلى حضور الله ووجوده في العالم من خلال التجربة والاختبار؛ ولذا فإننا لا نقبله». ولا شك أن الإسلام يقبل التجربة ويُعطيها قيمة كبيرة، ولكن بشكل محدود وضمن حدود التجربة ذاتها؛ لأن الكثير من الواقعيات لا تدخل تحت التجربة وإنما يتم الكشف عنها بواسطة منظار آخر. الثالثة: المعرفة العقلية أو العقلانية. وأتباع هذا الطريق يُسمون بالعقليين، وهم يشملون طيفاً واسعاً من الغرب. ولكن العقل هنا له معنى خاص؛ لأنه منذ البداية لم يضع نفسه في الموقف الصحيح بالنسبة لله وعالم الملكوت وغير ذلك. ولذا فإن العقل ليس له تلك القوة اللازمة للوصول إلى عالم الملكوت. وهذه الطائفة ترى العقل أساساً للمعرفة مضافاً إلى الإحساس والتجربة، ولكنها بسبب عادتها مع الإحساس والتجربة فإنها تستخدم العقل ضمن فضاءٍ مخلوط بالمسائل المادية. ولذا فإنها تتنزل بالعقل إلى «العقل المعاش». وحيث إن معرفة الإنسان تصبح محدودة بالإحساس والتجربة والعقل، فلا جرم سوف تخرج الكثير من المعارف عن مجال معرفة الإنسان، وسوف تقع الكثير من الحقائق الدينية موقع الإنكار، ونصبح من القائلين بفكرة أنه ليس لدينا وسيلة وأداة للحكم على مثل هذه المدعيات الدينية. ولذا، فلا دليل لدينا على تأييدها. إن مثل هذه النظريات للمعرفة تفصل الإنسانَ عن كثير من مصادر المعرفة كالوحي والنبوة. وعندما يتم إنكار الوحي والنبوة، فإن قسماً كبيراً من معلومات الإنسان سوف يبقى مغفولاً عنه. وعندما يتم فقدان هذه المعارف فإن الدنيا في النتيجة سوف تصبح هي مِلاك الحياة، ويمكن ارتكاب أي عمل من أجل هذه الدنيا، فيمكن ارتكاب الظلم والاستعمار والاستثمار. وهذه هي حال دنيا الغرب حالياً.
* تبعاً لما ذكرتم ما النتائج المترتبة على علم الوجود في الثقافة الغربية، وما هو تحليلكم لها؟.
-عندما تنحصر مصادر المعرفة في الحس والتجربة والعقل فإن معرفة الوجود سوف تنحصر أيضاً ضمن هذه الدائرة، وتؤدي إلى أنظمة مثل المادية. والتفسير الشائع في معرفة الوجود الغربية هو أن العالَم أتى بنفسه، ويتمتع بالتدبير الذاتي، فهو قد أوجد نفسه ويُدبّر نفسه بنفسه. ويعتقد فوكوياما أن هيغل قد أكمل التفسير المادي للعالم. وقد فسر هيغل العالَم طبقاً للنظرية الديالكتيكية بأنه نتيجة الأطروحة ونقيضها والمركب منهما، وأنه في هذه العملية يكون المركب بنفسه بمنزلة أطروحة جديدة لتستمر عجلة الإنتاج والتحول هذه. وعلى هذا التفسير فالعالَم ليس له منشأ ملكوتي ورباني. وإنما جملته حصيلة الأطروحة ونقيضها والمركب منهما. وقد عرَّف فوكوياما هذه النظرة للعالَم على أنها الكمال المادي للعالَم، وأن الكمال المعنوي له عبارة عن الوصول إلى الليبرالية الديمقراطية. وبهذا الشكل فمعرفة الوجود توقفت عند مثل هذه المعرفة الخالية من خالق اسمه الله. وفي النتيجة سوف تكون المادية هي الحاكمة. وعندما يكون الأمر هكذا، فإن الإنسان سوف يتصرف وفقاً لما يشتهيه طبعاً. فالإنسان موجود محبٌ للحرية، ويريد الحرية، وتحقق هذه الحرية يتحقق أيضاً من خلال الديمقراطية. وهذه الرؤية سوف تؤدي في النتيجة إلى ظهور النظام الليبرالي الديمقراطي. ودعوى مؤسسي هذا النظام قائمة على أن حرية الناس لا بد أن يتم تأمينها بأي طريق ممكن إلا إذا كانت معارضة لحرية الأفراد الآخرين. ولذا فإنهم يؤكدون على الليبرالية. ولهذا فإن الليبرالية تعتبر اليوم أحد أهم الأسس في معرفة الوجود في الغرب. والليبرالية يتم سحبها لتصل إلى libertinism _ بمعنى التحلل والفجور _. وطبقاً لهذا النمط من الفكر فلا توجد هناك أي قاعدة أو قانون إلهي مقبول. ونحن نرى آثار هذا الفكر في النظام العائلي للغرب. فهناك حالياً سبع أو ثمان أنظمة للأسرة مقبولة ومعرَّفة في الغرب، ومن جملتها أن الإنسان يمكنه أن يقوم بتكوين أسرة مع شخص من نفس جنسه، أو مع حيوان، أو مع الأشياء التي يحبها، أو حتى مع نفس ذاته. وبشكل عام فإنه يمكن مشاهدة مثلث المادية والليبرالية والعلمانية في الغرب. ومن منظار معرفيّ للوجود فإن الثقافة والحضارة الغربية قد أصبحت محصورة في هذا المثلث ولا مفر لها من ذلك، إلا إذا انكسر هذا المثلث، وتم لحاظ أفق ما ورائي مثل الله والمعاد. وحينئذ وعلى هذا الأساس، فالدنيا لا تكون عبثية، والإنسان لم يُخلق عبثاً، ولابد أن يكون مسؤولاً عن أعماله. فإذا تم لحاظ هذا الأفق فإن الفضاء الديني _ الإسلامي _ سوف يكون حاضراً. وإلا فسوف تظهر من داخل هذا المثلث اتجاهات ومدارس مختلفة أمثال: العدمية، والإنسانية، والوجودية، ومدرسة نيتشة، والداروينية، والفرويدية، وأشياء أخرى كثيرة. فجميع هذه الاتجاهات تعتبر كلها من أولاد هذا المثلث. وبعض هذه المدارس كالوجودية لا تعتقد بالله، واعتبرت الإنسان فوق الله، وأنه محور الوجود. بينما اعتبرت بعض الاتجاهات الأخرى كالفرويدية أن الإنسان بمستوى الحيوان أو أقل من الحيوان، وأنه مجموعة متراكمة من الغرائز. وهناك من المدارس من نظرت إلى الإنسان نظرة ميكانيكية وكأنه مجرد آلة. و… وفي المجموع فإن هذه المباني في معرفة الوجود عند الغرب هي التي تترك أثرها المباشر على تعريف الإنسان.
* في مقام معرفة الآفات، كيف يمكن دراسة وتحليل المسيرة الإسلامية في معرفة الغرب ونقده؟.
إننا وللأسف الشديد لم نقم بعمل يُذكر لمعرفة الغرب بالقياس لما تم في مجال معرفة الشرق. فهناك اليوم تخصص علمي باسم الاستشراق Orientalism فقد عمل الغرب وعلى مدى أكثر من أربعمائة عام في مجال معرفة الشرق ودراسته بنحو تفصيلي، وقد ألفوا في هذا الصدد كتباً كثيرة أيضاً. وأغلب هذه المؤلفات قد هاجمت الإسلام ووضعته في موضع الاتهام. ورغم أنه كان ومازال للمسلمين احتكاك كبير مع الغرب؛ فهل أخذت معرفة الغرب ودراسته طابع التخصص العلمي حتى الآن؟. والجواب بالنفي مع الأسف. هناك الكثيرون اليوم في المجتمع الغربي متواجدون بعنوان أنهم أساتذة في الاستشراق، أو يحملون دكتوراه في الاستشراق. بينما في المقابل فنحن لا نملك تخصصاً حتى بمستوى الليسانس في دراسة الغرب. وهناك الكثير من شباب المسلمين قد اجتذبتهم أمريكا والدول الغربية، رغم أنهم يعلمون بظلمها للدول الإسلامية. لماذا حصل هذا؟. لأنه لم تتضح لهم ماهية الغرب والفكر الغربي، وإنما يشاهدون بريقه وأضواءه فقط. ولذا فإن التحدي الأول الذي يواجهنا في مجال دراسة الغرب هو أننا لم نفعل شيئاً. فكتب المسلمين المفيدة بمجال معرفة الغرب لا تصل إلى خمسين مجلداً صغيراً ومحدودة بمسائل قليلة. لقد ذهبت في عام 2000 ميلادي إلى مكتبة السويد التابعة لجامعة لندن، وقد كانت تحوي على ما يقارب مليون كتابٍ حول معرفة الشرق وإفريقيا. وقد سألتهم عن عدد الكتب المختص منها بالشرق؟ فقال المسؤول في المكتبة: إن هناك ما يقارب الثلاثمائة ألف كتاب يرتبط بالشرق. وأنا أحدس أن أكثر من نصف هذه الثلاثمائة ألف كتاب يرتبط بالإسلام. ففي الخطوة الأولى نحن نحتاج إلى مراكز أبحاث لدراسة الغرب تتصدى لها الحوزة والجامعة. وأعتقد بلزوم وجود معهد مختص بدراسة الغرب. وقد قام مكتب الإعلام الإسلامي ببعض الأمور، ولكن غاية مطمحهم كانت تأسيس مركز أو معهد للبحوث. والتحدي الثاني هو أن المسلمين يملكون روحية هجومية ضعيفة في وجه الهجمات الثقافية للغرب. فعندما يقع الهجوم، لابد من القيام بهجوم في مقابل ذلك. كما أنه في قبال الغارة الليلية لابد من القيام بغارة ليلية، وفي قبال الناتو لابد أن يكون هناك ناتو، وفي قبال الاختراق لابد من القيام باختراق. وهذا يتم فهمه على مستويات أربعة للهجوم الثقافي والغارة الليلية الثقافية والناتو الثقافي والاختراق الثقافي. وعلى هذا، فالأمور التي لا نفتقدها تعتبر تحديات أمامنا، فعدم وجود المصادر الكافية، وعدم وجود الأساتذة المحتاج إليهم، وفقدان الهيئة العلمية، وفقدان الإمكانيات اللازمة، وعدم إعداد الأساتذة؛ تعتبر من أهم الآفات الموجودة. فنحن نواجه تحديات من قِبَل أنفسنا حتى قبل أن يضع الغرب تحيات أمامنا، وكأننا قد أقدمنا على الانتحار من شدة الخوف من الموت. وهذا الذي تحدثنا عنه يُمثل التحديات الداخلية، ومن جملة التحديات الخارجية هناك دعايات وسائل الإعلام الغربية. وفي الواقع فإن هذه المسألة قد تجاوزت حدود التحدي، وتبدلت إلى آفة حادة مُهلكة. فإدارة المجال المجازي لا تقع تحت أيدينا، فنحن نملك رسائل كثيرة لبناء الإنسان، ولكننا لا نملك الأدوات الكافية لنشرها. فإحدى التحديات الحادة التي تواجهنا من طرف الغرب عبارة عن تحدي تسخير أنواع وسائل الإعلام الشاملة لوسائل الصورة والصوت. ومن هنا، فقد استطاعوا إيقاع الفتنة بسهولة بواسطة التلغرام، وسببوا الاحتكار والغلاء بواسطة الصحون اللاقطة. وهذا واحد من التحديات الجدية، وفي المقابل فنحن لم نفعل شيئاً لمواجهة هذا التحدي، ولم نستطع، أو لم نكن نعرف، أو لم نكن نريد.
* من الواضح أن أبرز التحديات التي تواجهها المجتمعات الإسلامية هي ظاهرة الانبهار بالحياة الغربية ومنجزاتها التقنية، كيف تتصورون استراتيجيات المواجهة لهذا التحدي الكبير؟.
إننا نواجه في الوقت الحالي الكثير من الصناعات الغربية التي تملأ العين والأذن، وتجذب الأنظار إليها. ويرى الناس هذا التقدم والتطور مثل التقدم في الصناعة والتكنولوجيا والزراعة، وكذلك في مجال الإبداعات الخاصة مثل صناعة الطائرات، والأدوات الميكانيكية والصناعية، وأنواع الأدوية وأصنافها، وحتى البناء. ولكنه لابد من الانتباه إلى أن العلم ليس ميراثاً لأحد. ففي القرون الوسطى والتي كانت مقارنة للقرون الذهبية للعالم الإسلامي كان هناك علماء أمثال أبو ريحان البيروني، والخواجة نصير الدين الطوسي، وأبو علي ابن سينا، ومحمد بن زكريا الرازي، وغيرهم، وكانوا كلهم مكتشفين ومبدعين. فعل سبيل المثال كان كتاب «القانون» لأبي علي ابن سينا مكتشِفاً لنظام طبي شامل. وقد تمت ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة اللاتينية في القرون الوسطى، وبقي هو الكتاب الدراسي لطلاب الطب على مدى أربعمائة عام. ومن هنا، فإن الشباب المسلمين يرون حالياً التطور الطبي الحالي للغرب، ولكنهم لا يرون خلفية ذلك، ويظنون أن كل هذا التطور يرجع إلى الغرب. وقد أثبت «مونتغمري واط» في كتاب «تأثير الإسلام على أوروبا في القرون الوسطى» أن الغرب قد أخذ العلم، والتطور، وإدارة الدولة، والنظام الإداري، والتجارة، وفن الحرب، و… من المسلمين. وأنه من عدم الإنصاف إهمال دور الإسلام والمسلمين في التطور والحضارة الغربية العصرية. عندما دخلت للمرة الأولى كلية الهندسة في جامعة «مكغيل» لزيارة بعض الأصدقاء شاهدت حجراً منقوشاً عليه أسماء خمسة من علماء العالم. وقد كان بينهم من العالم الإسلامي ومن العالم الشرقي اسم الخواجة نصير الدين الطوسي. ومعنى هذه الكتابة أن علمنا وهندستنا مدينة لهؤلاء العلماء الخمسة، ومن جملتهم الخواجة نصير الدين الطوسي. إننا لم نشرح هذا الأمر للشاب المسلم حتى لا يقع تحت تأثير التقدم الغربي، ويعلم أن هذا التطور لا يرجع حصراً للغرب، وأن خلفيته الأساسية ترجع إليك وإلى أسلافك الصالحين. وفي الواقع فإن العلماء الغربيين ولأنهم قد استفادوا من آثار العلماء المسلمين على أفضل وجه؛ فقد تطوروا وصعدوا إلى الفضاء، فهم يذكرون العلماء المسلمين أمثال الشيخ البهائي، ويرون الفضل يرجع إلى أولئك. وكمثال على ذلك، فالمعادلات الجغرافية التي طرحها أبو ريحان البيروني قد استفاد منها الغربيون. وقد شاهدت الاسطرلاب الذي صنعه الأستاذ حسين اليزدي موجوداً في متحف لندن. وهو اسطرلاب جميل ودقيق، ويتعجب الإنسان من هذه الدقة التي تمت صناعته بها قبل ما يزيد على 300 – 400 عام. فلابد من الشرح والتوضيح للشباب المسلمين أن الكثير من العلماء الحاليين للغرب لا يرجعون إلى الغرب، وأن الكثير منهم كانوا شرقيين ومسلمين. إن أربعين بالمائة من القوة العاملة في وكالة ناسا هم من أشخاص غير غربيين. فعندما تتضح هذه المسائل سوف يكون لنا تعامل أفضل مع المنتجين.
* إلى أي مدى يمكن أنتكون المواجهة الفكرية والثقافة قائمة على التمييز المنهجي بين الوجه الإيجابي للتقدم الغربي والأوجه لسلوكه حيال العالم؟.
-يرى البعض أن جميع الظواهر الغربية، حتى الصناعات والاختراعات الغربية؛ هي أمور سلبية. وهذا الموقف غير مقبولٍ؛ لأنه لابد من التحقيق والبحث وملاحظة أن ما يتم إنتاجه اليوم في الغرب هو نتيجة أي نوعٍ من الفكر؟ كما أن قضية عدم الاستفادة من هذه المنتجات تبدو أمراً محالاً. والاتجاه الآخر يرى أنه لا مانع من الاستفادة من جميع هذه المنتجات والاختراعات، وأن علينا إهمال الجانب النظري لها. وهذا الاتجاه خاطئ ولا يليق بالأمة الإسلامية التي تسعى نحو التطور وإحياء حضارتها. إن البعض يستفيد من هذه المنتجات وبنفس الوقت يفتخر بالغرب ويعتز به. والحل الآخر أن نستفيد من ذلك ونقوم بتفريغ المنتجات من حملها الثقافي. وبعبارة أخرى، أن ننتبه كي لا يكون المُنتَج الذي نستعمله حاملاً للثقافة الغربية. فبعض المنتجات حاملة للثقافة الغربية بشكل تام، مثل دمى العرائس التي ينتجها الغرب مثل دمية باربي، أو الآلات الموسيقية الغربية التي يتم عزف موسيقى الباب عليها، وكذلك بعض الكتب والقصص الحاملة للثقافة الغربية بنحوٍ تام. ولكن هناك بعض المنتجات الغربية التي يمكن الاستفادة منها مثل الأدوات المنزلية. وإن كان شعار المسلمين يجب أن يكون شعار الاكتفاء الذاتي والاستهلاك الداخلي، كي يمكن من خلال ذلك رفع بعض مشاكل المجتمع الإسلامي من قبيل مشكلة البطالة. إنني أعتقد أن ذلك النوع من المنتجات الغربية الذي لا يحمل خلفية ثقافية يجب أن تتم هندسته من قِبَل المهندسين والخبراء المسلمين بنحوٍ معكوس. وفي الواقع فأنا أتوقع أنه بعد خمسين عاماً فلن يكون هناك فوارق مهمة بين الدول من جهة التطور. فالتطور سوف ينتشر بنحوٍ واسع، وسوف يستنسخه الجميع، وسوف يصل كل واحد إلى الاكتفاء الذاتي بحسب احتياجاته. ومن هنا، فلن يكون هناك لدولة ما إحساس بالسيادة والريادة. وكمثال على ذلك، فاليابان كانت قد امتلكت الريادة بنحو كبير في صناعاتها. ولكن هناك الكثير من الدول مثل كوريا الجنوبية والصين والفيليبين وماليزيا وتايوان تنتج حالياً كثيراً من التكنولوجيا التي تفوق منتجات اليابان، وقد سحبت منها الريادة. كما أن شركات صناعة الطائرات مثل الإيرباص بدأت تفقد ريادتها. وفي المجال النووي فإنه لابد من العمل لسحب الريادة من يد الدول العظمى. وكذلك في المسائل الاعتبارية، ومن جملتها مسألة النقد (المال)، فإنه لابد من سحب الريادة في ذلك. وعلى هذا، فإن وظيفتنا الأصلية هي سحب الريادة من الغرب في مجال التكنولوجيا والعلوم الإنسانية. ما زال يتم في جامعات المسلمين تدريس ترجمة كتاب علم النفس الغربي منذ 22 عاماً والذي قد أهملوه هم أنفسهم منذ فترة من الزمن. لم يكن للمسلمين إنتاج في ذلك، وقد خضعوا لريادة العلوم الإنسانية الغربية. وإذا تم سحب هذه الريادة منهم فإنه لن يواجهنا أحد حينئذ. ولكن باعتبار أننا لا نعمل، وليس لنا الصبر الكافي لذلك، ونخاف أحياناً أخرى، فبدل أن نفكر، أصبحنا مضطربين، ونخضع لقوانينهم ونظرياتهم. وبناءً على هذا، فالبحث حالياً لا يدور حول المنتَج الغربي الذي نأخذه والمنتَج الغربي الذي نرفضه، بل البحث الأهم هو أنه في كل مجال فكما أنه قد كانت لهم إمكانية التطور، فإن إمكانية التطور موجودة عندنا أيضاً. فالمسلمون يتمتعون بنفس ذلك العقل والاستعداد. مضافاً إلى أن إمكانيات المسلمين حالياً تفوق إمكانياتهم في أي وقت مضى.
رابط المصدر: