عبرت رئيسة المفوضية الأوروبية “أورسولا فون دير لاين” عن فخرها بالترحيب الذي قوبل به اللاجئون الأوكرانيون في أوروبا. حيث صرحت “نرحب بأذرع مفتوحة بالأوكرانيين الذين اضطروا إلى الفرار من بوتين. وأنا فخورة بالترحيب الحار الذي قدمه لهم الأوروبيون”. وتابعت، “نحن نحشد كل جهد وكل يورو لدعم دولنا الشرقية –من الأعضاء في الاتحاد الأوروبي- في استضافة ورعاية هؤلاء اللاجئين”.
ولقد جاءت هذه التصريحات في بيانٍ لها أصدرته المفوضية الأوروبية بتاريخ 27 فبراير بخصوص العقوبات الغربية على روسيا. وفي اليوم التالي مباشرة لتصريحها، بدأت وسائل الإعلام الأوكرانية والغربية في تداول بيانات حول وعود الاتحاد الأوروبي باستقبال كل اللاجئين القادمين من أوكرانيا لمدة ثلاث سنوات دون مطالبتهم بتقديم طلبات لجوء أولًا.
وعلى الرغم من أن قرارات الاتحاد الأوروبي الأخيرة بشأن اللاجئين قد قوبلت باستحسان بوجه عام، إلا أنه باتت هناك حاجة ملحة للبحث في تاريخ المواقف السابقة للدول الأوروبية ذاتها إزاء لاجئين من جنسيات أخرى، في محاولة للتكهن بالأسباب الكامنة وراء التمييز بين لاجئي أوكرانيا واللاجئين من بلدان الشرق الأوسط التي اشتعلت بالحروب في أعقاب تدخلات عسكرية أمريكية وغربية في المقام الأول.
التراجع الديموغرافي في القارة الأوروبية
منذ مطلع العام 2010، بدأت تقارير سكانية تضع القارة الأوروبية في تصنيف معدلات الخصوبة حول العالم بوصفها القارة الموجودة في المرتبة الأدنى من القائمة. وفي عام 2011، كان تعداد سكان العالم قد وصل بالفعل إلى 7 مليارات نسمة. وبدأ صندوق الأمم المتحدة للسكان يسرد توقعاته حول أن التعداد العالمي للسكان سيبلغ 9,6 مليار نسمة بحلول العام 2050. غير أن هذا التنامي الكبير في تعداد السكان، لم يكن متوقعًا له أن يشتمل على القارة الأوروبية، التي توقع صندوق الأمم المتحدة وقتها أن تعداد سكانها سيتقلص بشكل خطير ما لم يتم إجراء تغييرات جذرية على الفور.
كما أشارت تقارير أعدتها الهيئة الإحصائية للمفوضية الأوروبية، “يوروستات”، إلى أن أسباب الأزمة الديموغرافية التي عانت منها القارة الأوروبية ترجع للركود الاقتصادي. إذ أن تراجع الأوضاع الاقتصادية أدت إلى عزوف الأسر أو تأجيلهم لفكرة الإنجاب إلى حين تحسن أوضاعهم المالية أولاً بالشكل الذي يسمح لهم بإعالة أطفالهم. وبناءً عليه، أصبحت القارة تعاني من انخفاض المواليد الذي لم يعد بالإمكان حله إلا بالاعتماد على الهجرة. حيث تلعب الهجرة دورًا كبيرًا في توفير حلول قصيرة الأمد للدول التي تعاني من نقص في القوى البشرية العاملة التي بمقدورها تشغيل عجلة الاقتصاد. مثل ألمانيا التي اعتادت –فترة ما قبل الحرب في سوريا- على استقبال نحو 200000 مهاجر كل عام لسد الفجوة بين عدد الوظائف المتاحة وعدد السكان الألمانيون في سن العمل. لذا من البديهي أن القارة الأوروبية –رغم تاريخها المسيء في ملف الهجرة- بحاجة ماسة للمهاجرين، لكن يبقى التساؤل دائرًا حول أي نوع تحديدًا من المهاجرين يكون مقبولاً ولائقا في نظر الاتحاد الأوروبي.
عنصرية مقبولة: لاجئي أوكرانيا.. عرقية بشرية تليق بالكبرياء الأوروبي!
يستقبل الاتحاد الأوروبي بكل دوله اللاجئين الفارين من الحرب في أوكرانيا بترحاب حار، مثال على ذلك، الجهود البولندية لاستقبال اللاجئين الأوكرانيين التي تجري على قدم وساق منذ اندلاع الأعمال العدائية على الجبهة في أوكرانيا. وهو ما يعود بنا إلى مشهد ليس ببعيد عن الأذهان، تحديدًا إلى نوفمبر من العام الماي 2021. عندما اندلعت أزمة المهاجرين الشهيرة على الحدود البيلاروسية- البولندية المشتركة. بعد أن نددت بولندا إلى جانب الاتحاد الأوروبي بما أطلقوا عليه تعمد الجيش البيلاروسي لاقتياد اللاجئين القادمين من البلدان المنكوبة في الشرق الأوسط مثل سوريا والعراق إلى حدود بولندا، أملاً في العبور منها إلى ألمانيا والاستقرار هناك. وواجهت بولندا حشود اللاجئين بكل حزم وقوة، وعملت على ردعهم وثنيهم عن محاولات دخول أراضيها باستخدام خراطيم المياه العملاقة، التي تم رش بها اللاجئين وسط شتاء 2021 القارس المعروف بشدة برودته. دون الوضع في عين الاعتبار احتمالات أن يموت أحد هؤلاء اللاجئين بالفعل من البرد والتجمد خاصة مع وجودهم في العراء بدون شراب، أو طعام، أو كسوة تقي من وطأة الطقس على الحدود لأيام.
لكن نعود إلى المشهد اليوم، لنستعرض أبرز تصريحات المسؤولين الأوروبيون، حيث قالت نائبة رئيس المفوضية الأوروبية المسؤولة عن قضايا الهجرة، “مارجريتيس سكويناس”، أن العدد المتوقع من اللاجئين الأوكرانيين يتراوح ما بين 20 ألف إلى مليون لاجئ. مضيفين بأن وارسو قد وعدت بتوفير ملاجئ ومساعدات طبية للاجئين القادمين من أوكرانيا التي تجمعها بها نحو 500 كيلو متر.
ولم يقتصر مشهد الترحيب باللاجئين الأوكرانيين على العاصمة البولندية وارسو فقط. بل من الأجدر القول إنه قد تم الترحيب بمئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين ترحيبًا حارًا في دول الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك دولاً مثل المجر وسلوفاكيا وبلغاريا ومولدوفا ورومانيا، والتي كانت في السابق قد تمكنت من تطبيق وفرض سياسات معادية للاجئين القادمين من الشرق الأوسط وأفريقيا. وهو تمييز واضح في المعاملة يلقي بظلاله على درجة تفشي العنصرية ليس فقط في المجتمعات الأوروبية نفسها، لكن وصولاً إلى أعلى درجات السلم السياسي بها. وبغض النظر عن إن الباحث السياسي أو التاريخي في أصول أي نزاع عسكري نشب في دولاً عربية شرق أوسطية على غرار سوريا والعراق، سيعرف منذ الوهلة الأولى أن الغرب بمساعدة وتوجيه من الولايات المتحدة الامريكية قد لعب دورًا رئيسيًا في تدمير هذه البلدان وإشعالها بالحروب، إلا أن سؤال مُلح بات يطرح نفسه؟ هل العرق البشري الأبيض له علاقة بقبول الأوروبيون للاجئين الأوكرانيون ورفضهم لغيرهم من العرب؟
للرد على هذه التساؤلات، ينبغي الاطلاع على تصريح أطلقه رئيس الوزراء البلغاري، “كيريل بيتكوف”، في وقتٍ سابق من الأسبوع الجاري، “هؤلاء ليسوا نفس اللاجئين. هؤلاء أناس أوروبيون. هؤلاء أذكياء. هؤلاء متعلمون. هذه ليست موجة اللاجئين التي اعتدنا عليها، أناس لم نكن متأكدين منهم، أناس لديهم ماضس غامض، ومن الممكن حتى أن يكونوا إرهابيون”. وأضاف “بيتكوف”، “لا يوجد الآن بلد أوروبي واحد يخشى الموجة الحالية من اللاجئين”.
ولم تكن تلك على الأرجح وجهة نظر تقتصر على رئيس الوزراء البلغاري فقط، أو حتى مواطنين عاديين من بلدان أوروبية قد يُعزى السبب في عنصريتهم إلى قلة مستوى الثقافة أو التعليم أو حتى حرمانهم من إحساس كامل بالمسؤولية الإنسانية. لكن يبدو أيضًا أن العنصرية طالت بالفعل أشخاصًا كثيرين محسوبين على طبقة النخبة الأمريكية أو الأوروبية. فقد أظهرت مقاطع فيديو متداولة لصحفيين أجانب يعملون في قنوات تليفزيونية مرموقة تصريحات على هذا النحو، مثل مقطع فيديو شهير منقول عن قناة الجزيرة الإنجليزية تم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي لصحفي انجليزي يقول واصفًا اللاجئين الأوكرانيين: “هؤلاء أثرياء من الطبقة الوسطى. من الواضح أن هؤلاء ليسوا لاجئين يحاولون الهروب من مناطق الشرق الأوسط من شمال أفريقيا. إنهم يبدون مثل أي عائلة أوروبية تعيش بجوارنا”. واعتذرت القناة بعد ذلك عن تصريحاته وقالت إنها كلمات غير لائقة وغير لبقة.
وقد وقعت حادثة مماثلة على شبكة “سي.بي.إس” الأمريكية، عندما قال أحد مراسليها في كييف “إن هؤلاء ليسوا مثل العراق أو أفغانستان، حيث احتدم الصراع منذ عقود. إنها مدينة أوروبية نسبيًا متحضرة نسبيًا”. وشهدت قناة “إن.بي.سي. نيوز”، شيئًا مماثلًا عندما سئُل أحد مراسليها عن سبب قبول بولندا للاجئين من أوكرانيا بهذه السهولة بينما كان أشخاص من بلدان أخرى يواجهون بعدوانية شديدة، فأجاب، “هؤلاء ليسوا لاجئين من سوريا. هؤلاء هم لاجئون من أوكرانيا المجاورة. هؤلاء مسيحيون ويشبهون إلى حد بعيد الأشخاص الذين يعيشون في بولندا”.
وفي السياق نفسه، ينبغي علينا طرح سؤال مهم حول طريقة المعاملة التي يلقاها كل اللاجئين الفارين من أوكرانيا، والتي لم تكن تحتضن شعبها فقط، لكنها كانت تحتوي على سكان من دول أخرى إما حضروا بغرض البحث عن عمل أو لأهداف دراسية. هل من المحتمل أن تكون السلطات الأوروبية قد فتحت أذرعها لهؤلاء أيضًا؟ إعمالًا بالمبدأ القائل بأن اللاجئ هو لاجئ في كل الأحوال، وأن الفرار من الحرب لا يميز بين إنسان وآخر؟
نجد الردود على هذه الأسئلة في ضوء تقارير إعلامية تواردت بشأن عدم السماح للنيجيريين والهنود واللبنانيين بمغادرة أوكرانيا، وبقائهم على الحدود. على عكس الأوكرانيين الذين يعبرون الحدود نحو أوروبا بدون الحاجة إلى تأشيرة دخول، بينما تناضل السفارات المختلفة لأجل إقناع الدول الأوروبية باستقبال رعاياها إلى حين تنظيم عمليات إجلاء لهم. ومن الجدير بالذكر أيضًا الحديث عن مقاطع فيديو متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي تثبت مواقف تمييز ضد الفارين الأفارقة من الحرب الأوكرانية، لصالح إفساح الأماكن للاجئين الأوكرانيين.
وختامًا، نجد أن التناقض الغربي الواضح وازدواجية المعايير تسيطر على المشهد برمته منذ بدء الأعمال العسكرية الروسية في أوكرانيا. ذلك لأن للقارة الأوروبية ماضٍ حافل بإساءة التعامل والتخلي عن المسؤولية في ملف اللاجئين كان قد دفع جميع الخبراء السياسيين حول العالم لسرد التوقعات بالرفض الأوروبي المؤكد لأي موجات لاجئين قادمة من أوكرانيا. غير أن الحرب وضعت الجميع أمام الحقيقة المُرة، وهي أن الغرب يكيل كل شيء بمكيالين، وأن إساءة المعاملة، والضياع، والتشريد، والخروج من التعليم، وفقدان المستقبل، والجوع، والبرد القارس في الشتاء، والحرارة الشديدة في الصيف، وغيرها من المخاطر التي عادة ما تقترن بأي حرب تكون من وجهة نظرهم “حلال على العرب، حرام على العرقية البيضاء”.
.
رابط المصدر: