مع اقتراب الصراع السوداني من إتمام عشرين شهرا من الدمار والمعاناة الإنسانية الهائلة، تتزايد الإشارات والمعلومات عن جهود دولية متسارعة لإعادة إحياء منبر جدة التفاوضي قبل انتهاء السنة، وتوالت هذه المعلومات بشكل أكثر وضوحا بعد الاجتماع بين رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، لتناول الأوضاع في السودان والذي انعقد في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي في الرياض على هامش انعقاد القمة العربية الإسلامية.
وكان منبر التفاوض في جدة الذي أطلقته المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة في بدايات الحرب بين الجيش السوداني وميليشيا “قوات الدعم السريع” وبدأ اعماله في 6 مايو/أيار 2023، بعد ثلاثة أسابيع من اندلاع الحرب، هو أول منبر للتفاوض بين الطرفين المتحاربين في السودان، وهو الوحيد الذي نجح حتى الآن في جمع الطرفين بشكل معلن ورسمي للتفاوض المباشر.
وقد وصل المنبر في جولته الأولى إلى اتفاق حول حماية المدنيين في السودان وتم توقيعه في 11 مايو 2023، والذي تضمن التأكيد على العناصر الملزمة للطرفين بحسب القانون الدولي. ولكن منذ ذلك الحين، ظلت الميليشيا تتهرب من تنفيذه، وخصوصا فيما يتعلق بإخلاء المرافق المدنية ومنازل المدنيين التي تعرضت للنهب والسلب على نطاق واسع، وهو ما تستخدمه الميليشيا للتحفيز والتشجيع على التجنيد والانخراط في صفوفها.
وهو ما دفع ميليشيا “قوات الدعم السريع” باستمرار للبحث عن منابر أخرى بديلة تتهرب فيها من التزاماتها في جدة، ورافق ذلك، إصرار الجيش السوداني على تنفيذ اتفاق جدة لحماية المدنيين قبل التوغل في أي تفاصيل أخرى. حيث تم في جدة التوصل والتوقيع على أكثر من سبعة اتفاقات قصيرة الأمد لوقف إطلاق النار، ولكنها انهارت كلها بسبب الخروقات المتعددة من قبل الطرفين، بل إن الميليشيا استغلتها باطراد لتوسعة دائرة سيطرتها، خصوصا على العاصمة الخرطوم.
في 2 يونيو 2023، أعلنت المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة تعليق المفاوضات بين أطراف النزاع في السودان بسبب “انتهاكات خطيرة” لجهود التهدئة
وفي 2 يونيو 2023، أعلنت المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة تعليق المفاوضات بين أطراف النزاع في السودان بسبب “انتهاكات خطيرة” لجهود التهدئة، وفقا لما ورد في إعلان تعليقها. ولكن لاحقا، استؤنفت المحادثات في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2023 بعد توقف دام 5 أشهر عن إجراء مفاوضات مباشرة، لكنها فشلت مرة أخرى في تحقيق نتائج إيجابية، مما أدى إلى إعلان تعليق المفاوضات في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 للمرة الأخيرة.
سودانيون فارون من ولاية الجزيرة بجوار أمتعتهم بالقرب من مدينة القضارف شرق السودان في 2 نوفمبر 2024
لقد نجح منبر جدة في إنجازٍ بالغ الأهمية يتمثل في جمع الأطراف المتحاربة السودانية على طاولة الحوار بشكل رسمي ومعلن وقد حظى هذا المنبر بتوافق ودعم معلن واسع النطاق على المستوى الدولي والإقليمي، حيث أعلنت أغلب الجهات الفاعلة في الساحة الدولية، ومنها الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة والهيئة الحكومية للتنمية لدول شرق أفريقيا (الإيقاد)، دعمها الكامل لهذه المبادرة، بل إن “الإيقاد” تمت إضافتها كشريك في رعاية المنبر في الجولة الأخيرة من المفاوضات بجدة.
ولكن على الرغم من ذلك لم تتوقف المحاولات لتقويض دور منبر جدة واستبداله بمنابر أخرى. وكان وراء هذه المحاولات، دوافع خفية تتمثل في رغبة بعض الأطراف، ولا سيما ميليشيا “الدعم السريع”، في التهرب من تنفيذ الالتزامات التي قطعتها على نفسها في اتفاق جدة لحماية المدنيين في بداية الحرب. وقد وجدت هذه المحاولات دعما سياسيا غير مبرر من بعض القوى السياسية المدنية التي تميل إلى تأييد هذه الميليشيا.
تم في جدة التوصل والتوقيع على أكثر من سبعة اتفاقات قصيرة الأمد لوقف إطلاق النار، ولكنها انهارت كلها بسبب الخروقات المتعددة من الطرفين
فتح هذا التوجه والمحاولات لتقويض منبر جدة واستبداله بابا واسعا للمناورات السياسية، كما شرعت الأطراف المتحاربة إلى بدء مفاوضات في منابر أخرى.
كانت أبرز تلك المحاولات هو ما تم في المنامة في فبراير/شباط 2024، والتي استضافت محادثات غير رسمية وغير معلنة بين الطرفين المتحاربين بالإضافة إلى عدد من السياسيين المدنيين القريبين من خط الميليشيا. حضر الاجتماع من جانب الحكومة السودانية عضو مجلس السيادة ونائب القائد العام للجيش السوداني شمس الدين كباشي، فيما حضر من جانب الميليشيا عبدالرحيم دقلو شقيق محمد حمدان دقلو المعروف بـ(حميدتي). لم يخلص اجتماع المنامة إلى توافق رسمي ولكن تسربت مسودة الاتفاق الذي كان يتم التشاور حوله وإجراءات تقاسم سلطة جديد بين الجيش و”الدعم السريع” دون حلول عملية وفعلية لجذور معاناة الشعب السوداني، وهو بالطبع ما لم يكتب له التوفيق رغم التأييد الذي حاولت دوائر “تقدم” حشده لهذا الاتفاق.
كانت ثاني أبرز هذه المحاولات الدعوة لمفاوضات جنيف والتي أطلقها الجانب الأميركي في مطلع أغسطس/آب 2024، في محاولة لتجاوز منبر جدة. والتي انطلقت في 14 أغسطس واستمرت لمدة 10 أيام دون مشاركة الطرف الحكومي السوداني، الذي قاطع العملية بعد إصرار المبعوث الأميركي على عدم التعامل مع الحكومة السودانية وإصراره على أن الدعوة موجهة بشكل حصري للجيش السوداني، وبالإضافة إلى ذلك، تجاهل المبعوث الأميركي تحفظات الحكومة السودانية على إشراك أطراف إقليمية محددة في رعاية التفاوض يتحفظ عليها الجانب السوداني بسبب دعمها الصريح وغير المشروط للميليشيا بالسلاح والعتاد بشكل يقدح في كل جوانب السيادة الوطنية السودانية.
استمرت هذه المفاوضات لمدة عشرة أيام في حوار مع النفس ومع وفد ميليشيا “الدعم السريع” وانتهت بتكوين تحالف يحمل اسم مجموعة “متحالفون من أجل إنقاذ الأرواح وتحقيق السلام في السودان”، والذي لم ينجح في ترجمة اسمه بأي شكل عملي على أرض الواقع. وقد استمرت جرائم الميليشيا بعد انتهاء اجتماع سويسرا. والجدير بالذكر أنه خلال فترة العشرة أيام التي اجتمعت فيها الميليشيا في سويسرا، بلغ عدد ضحاياها الذين سقطوا قتلى نتيجة هجماتها على المدنيين 650 ضحية.
وتتزامن الإشارات لعودة التفاوض السوداني إلى منبر جدة مع نتائج الانتخابات الأميركية التي خسر فيها الديمقراطيون البيت الأبيض وشهدت عودة الجمهوريين برئاسة دونالد ترمب إلى المكتب البيضاوي مع ترسيخ سيطرة الحزب الجمهوري على مجلسي الشيوخ والنواب. هذه السيطرة الجمهورية الكاملة على مفاصل الحكومة الأميركية ستقود بلا شك إلى إعادة صياغة السياسة الخارجية الأميركية بتغيرات كبيرة. ولكنها في الوقت نفسه دفعت المبعوث الأميركي توم بيريليو لمحاولة تحقيق أي اختراق قبل مغادرة إدارة الرئيس بايدن في يناير/كانون الثاني المقبل ومغادرته هو لموقعه في فبراير، خصوصا بعد الفشل الذريع الذي واجه مفاوضات سويسرا وانعدام التأثير الحقيقي للتحالف الذي تم تكوينه هناك.
ولا يتكشف ذلك من القبول والتعاون الأميركي بمعاودة منبر جدة للانعقاد، بل أيضا بالزيارة المتعجلة التي أجراها أخيرا بيريليو إلى بورتسودان في 18 نوفمبر 2024 وذلك بعد أكثر من تسعة أشهر منذ تعيينه في فبراير الماضي وبعد تأجيلات وإلغاءات متعددة بأسباب بيروقراطية لم تقنع أحدا.
وفي هذا السياق، يمكن فهم السعي المحموم من قبل المبعوث الأميركي توم بيرييلو لتحقيق أي نجاح دبلوماسي ولو بشكل جزئي قبل نهاية ولاية الإدارة الديمقراطية، حتى لو اقتصر على خطوات صغيرة كإعادة جمع الطرفين المتحاربين على طاولة التفاوض بما يحفظ ماء وجه الإدارة الأميركية في الملف الذي أساءت إدارته على مدى عامين أو أكثر، ولكن ذلك لن يرقى بالتأكيد إلى مواجهة التحديات والمخاطر الكبيرة التي تواجه المدنيين على الأرض، وبالتأكيد لن ينجح وحده في أن يترك تأثيرا حقيقيا على حياة المدنيين إذا استمرت الانتهاكات على الأرض.
يمكن فهم السعي المحموم من قبل المبعوث الأميركي توم بيرييلو لتحقيق أي نجاح دبلوماسي ولو بشكل جزئي قبل نهاية ولاية الإدارة الديمقراطية، حتى لو اقتصر على خطوات صغيرة كإعادة جمع الطرفين المتحاربين على طاولة التفاوض
كان من بين أبرز الانتقادات الموجهة إلى منبر جدة وهيكله في الجولات التفاوضية السابقة، أنه كان يسعى لتحقيق كل شيء دفعة واحدة. بمعنى أدق، كانت جهود الوسطاء تركز على حث المتفاوضين على التوصل إلى وقف إطلاق نار ووقف عدائيات بشكل كامل دفعة واحدة. هذا النهج أظهر قصوره عدة مرات بسبب عدم التزام الأطراف بالاتفاقات التي تم التوصل إليها، والخروقات المتعددة التي ساهمت في اتساع دائرة الحرب وزيادة حدة الاستقطاب العسكري والسياسي.
كما أن هذا النهج سمح للطرفين المتقاتلين بتعزيز مركزيتهما في السياسة السودانية، مما أدى إلى ارتفاع سقف مطالبهما وآمالهما السياسية بدلا من خفضها. ونتيجة لذلك، زاد سقف تطلعاتهما لتحقيق كل هذه الأهداف ولو عبر السعي إلى انتصار عسكري شامل، مما أدى إلى تعقيد التفاوض حول إيقاف الحرب ومجرياته، أو حتى إيقاف العدائيات وإطلاق النار على الأقل.
لقد تعددت أسباب عدم ترجمة اتفاقيات وقف إطلاق النار بشكل فعال التي تضمنت انعدام الثقة بين الطرفين المتحاربين، وتعقد الديناميكيات العسكرية على الأرض والتي تتداخل فيها حسابات السيطرة على الأراضي وتعقيدات العوامل الإثنية والجهوية المرتبطة بالحرب، بالإضافة إلى غياب آليات الإنفاذ وعدم وجود وسائل مراقبة فعالة لتحديد الانتهاكات، وزاد على ذلك عدم رغبة المجتمع الدولي أو عجزه عن فرض عقوبات فعالة على منتهكي وقف إطلاق النار وهو ما ساهم في خلق حالة حصانة مؤسسية للمنتهكين.
جندي من الجيش السوداني يراقب خط المواجهة باستخدام منظار في الخرطوم في 3 نوفمبر 2024
وكما ساهم التضليل الإعلامي والسرديات الكاذبة التي تبرر الحرب وتحاول تخفيف الانتهاكات في إضعاف ثقة السودانيين بمحاولات السلام وساهمت في تعزيز خطاب الكراهية، بالإضافة إلى وجود جهات مدنية تدعم أجندة الطرفين المتحاربين وتروج سرديتيهما عن الحرب وتساهم في تحويل النظر عن الانتهاكات والمعاناة الإنسانية وجعلها محطا للاستقطاب السياسي، بينما أدت التدخلات الأجنبية وإمدادات الأسلحة إلى إطالة أمد الصراع، وذلك غير غياب الإرادة السياسية الحقيقية من قبل الطرفين لوقف العدائيات بشكل مستدام، وأسفر قصور الفهم وغياب التحليل المكتمل للظروف الداخلية والجغرافية والأعراف العسكرية في السودان والمعرفة الكافية بمناهج وسلوكيات القوات المسلحة السودانية وميليشيا “قوات الدعم السريع”، والاستراتيجيات العسكرية، وهياكل القيادة، ومناهج اتخاذ القرار إلى إنتاج توقعات غير واقعية واقتراح آليات مراقبة غير عملية، عجزت عن معالجة الديناميكيات العميقة للصراع وبالتالي عن تصميم فاعل لمقترحات وقف إطلاق النار.
وتشكل هذه العوامل مجتمعة قضايا معقدة سيكون من الصعب حلها خلال الجولة الأولى من عودة المفاوضات في جدة. ومع ذلك، قد يكون من المفيد تحديد أهداف هذه الجولة بدقة والتركيز على ما يمكن تحقيقه عمليا. إن توجيه المفاوضات نحو التوصل إلى اتفاق حول إطار محدد لحماية المدنيين في السودان يمثل هدفا عمليا وقابلا للتحقيق، ويعود بالنفع المباشر على الشعب السوداني.ويمكن الاتفاق على مناطق خضراء محددة تكون آمنة لحياة المدنيين ومواصلة حياتهم الطبيعية. يجب أن تقود الأولوية لحماية المدنيين وتلبية احتياجات الشعب السوداني بشكل حقيقي كافة الأطراف إلى تحديد الأهداف التي يمكن تحقيقها خلال الجولة المقبلة من مفاوضات جدة. وينبغي أن تكون أطر حماية المدنيين القابلة للتنفيذ على رأس هذه الأولويات. كما يجب أن يتم توسيع مفهوم حماية المدنيين ليشمل ما هو أكثر من السلامة البدنية، بحيث يتضمن ضمان توفير الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية، والمياه، والتعليم، والاتصالات، باعتبارها عناصر أساسية لحياة المدنيين أثناء النزاع.
ويكتسب هذا الاقتراح أهمية خاصة في هذا التوقيت بعدإخفاق مجلس الأمن في تمرير قرار ينص على حماية المدنيين خلال جلسته المنعقدة في 18 نوفمبر 2024. فقد أدى الفيتو الروسي إلى تعطيل مشروع القرار البريطاني بشأن حماية المدنيين في السودان، بسبب اعتراضات أقل ما يمكن وصفها به أنها ذات طبيعة أيديولوجية بحتة، وبدا واضحا أنها جاءت نتيجة حسابات دولية لا ترتبط مباشرة بالأوضاع في السودان.
في ظل استمرار وتفاقم الأزمة الإنسانية، من الضروري أن تسعى الأطراف الراعية لمنبر جدة إلى تجاوز القيود والعقبات التي حدت من نجاح الجولات السابقة، عبر تبني نموذج أكثر شمولية يهدف إلى صون الأرواح والحفاظ على كرامة الإنسان في السودان. وينبغي للتنظيمات والتحالفات السياسية السودانية أن تبتعد عن تسييس القضايا الإنسانية ذات التأثير المباشر على حياة وأمان السودانيين، لأن الاستقطاب السياسي قد يضر بحلحلة هذه القضايا على أرض الواقع بشكل ينفع السودانيين في أشد لحظات حاجتهم إلى كل ما يحميهم وينفعهم.