د. جاسم الصفار
منذ الساعات الأولى للإعلان عن وقوع انفجار في منظومة توليد الطاقة في المنشأة النووية الإيرانية في ناتانز، يوم الاحد الماضي 11 نيسان، اعتبرت معظم وكالات الأنباء العالمية، أن الحادث كان إما نتيجة تخريب مباشر، أو أنه عملية عن بعد باستخدام التقنيات الإلكترونية.
ومع أنه لم تتوفر حتى الان معلومات دقيقة عن حجم الدمار الذي اصاب المنشأة النووية في ناتانز، الا ان الضرر، على ما يبدو، كان طفيفا، بحيث سمته بعض وسائل الاعلام الروسية “لسعة بعوضة”، لم تتعرض، بسببه، منظومة توليد الطاقة في المفاعل الا لعطل محدود. أما أجهزة الطرد المركزي المسؤولة عن تخصيب اليورانيوم، فإنها لم تتعرض لأي ضرر، كونها تقع في موضع آمن تحت الأرض.
ومنذ البداية كان واضحا أن إسرائيل هي التي تقف وراء العملية التخريبية في المنشأة النووية الإيرانية. لذا اتهم وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف تل ابيب بالتورط في الهجوم بعد الإعلان عنه مباشرة. وسرعان ما حددت طهران هوية الشخص الذي تسبب في الحادث. ومن جهته، وصف رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، علي أكبر صالحي الحادث بأنه “مظهر من مظاهر الإرهاب النووي الإسرائيلي”.
ولم تتردد وسائل الإعلام الأمريكية عن توجيه أصابع الاتهام الى إسرائيل. حيث أشارت صحيفة “نيويورك تايمز”، نقلاً عن مصادرها، أن الحادث الذي وقع في المنشأة النووية الإيرانية كان من تدبير الجانب الإسرائيلي. الا أن الصحيفة لم توضح، إذا ما كانت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على علم مسبق بالحادث أم لا، مع أنها رجحت أن تكون تل ابيب قد أبلغت الولايات المتحدة قبل شروعها بالهجوم التخريبي على المنشأة الإيرانية.
ومن الملاحظ أيضا هو أن إسرائيل لم تنكر تورطها في الانفجار الذي وقع في منشأة ناتانز الايرانية. واشارت وسائل اعلام اسرائيلية عديدة الى جهاز “الموساد”، على أنه هو الذي شارك في تطوير وتنفيذ هذه العملية. وادعت القناة 13 الإسرائيلية (المعروفة باسم ريشيت 13)، دون أن تشير الى مصادرها، أن الهجوم السيبراني الإسرائيلي الأخير، الذي وصفته “بالحدث الكبير”، تسبب في “أضرار جسيمة لبرنامج تخصيب اليورانيوم الإيراني”.
لم يتم اختيار وقت الهجوم بالصدفة، فإيران تخوض في هذه الفترة مفاوضات مضنية في فيينا مع الوسطاء الدوليين (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا العظمى والصين وروسيا) والتي انضمت إليها الولايات المتحدة أيضًا، بشأن الاتفاق النووي الإيراني. لذا كانت العملية التخريبية الإسرائيلية رسالة الى المجتمعين، وخاصة الى إدارة بايدن بأن المنشآت النووية الإيرانية ليست آمنة تماما، وهذا من شأنه اضعاف موقف المفاوض الإيراني في فيينا واخضاعه لشروط جديدة من أجل إضافة بنود أخرى لاتفاقية 2015 ترفع من مستوى الرقابة والتحكم في البرنامج النووي الإيراني.
وعدت طهران بالرد على إسرائيل، وقال وزير الخارجية محمد جواد ظريف أن ” الرد الايراني سيكون شديدا للغاية”. الا أن العديد من الخبراء يميلون للاعتقاد بأن إيران، التي تركز الآن على تطوير تقنياتها النووية، ستحاول في الوقت الحاضر تجنب اتخاذ أي اجراء قد يعقد علاقتها بالولايات المتحدة ويعرضها لعقوبات صارمة. سيما وأن إيران تدرك تماما، بتقدير خبراء روس، أن السبب الأخر للاستفزاز الإسرائيلي هو دفعها الى عمل متهور يقطع الطريق على إمكانية العودة للاتفاق النووي.
لابد من الإشارة هنا الى أن الولايات المتحدة كانت أول من ساعد إيران في خلق المتطلبات الأساسية لإنتاج الطاقة النووية. ففي 5 مارس 1957، وقعت طهران مع واشنطن اتفاقية للتعاون في الاستخدام السلمي للطاقة الذرية في إطار برنامج الذرة من أجل السلام. وعندما تم إنشاء الوكالة الدولية للطاقة الذرية في نفس العام، أصبحت إيران على الفور عضوًا فاعلا فيها. وفي عام 1963، انضمت إيران إلى معاهدة حظر تجارب الأسلحة النووية في الجو وفي الفضاء الخارجي وتحت سطح الماء، والتي وقعها الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة.
أي أن إيران عضو كامل العضوية في النادي النووي، مع انها، في الواقع، لا تمتلك أسلحة نووية. وهذا لا ينفي أنها سعت لامتلاك تقنيات انتاجها. فمع ان البرنامج النووي الذي ساعدت روسيا في تطوير تقنياته كان، حسب الاتفاق مع موسكو لأغراض سلمية الا ان إيران كانت من وراءه تسعى لان يكون منصة انطلاق تمنحها امكانية تطويره الى برنامج ردع عسكري نووي. فالأسلحة النووية بالنسبة لإيران، اليوم، وسيلة فعالة لمنع خصومها من التورط بشن حرب شاملة عليها.
من حيث واقعية هذا التوجه وفقا لما تملكه إيران من قدرات تكنولوجية، صرحت كيلسي دافنبورت مديرة برنامج حظر انتشار الأسلحة النووية في جمعية “أرمز كونترول اسوسيييشن” منذ وقت ليس ببعيد، أن المستوى الحالي للتطور التكنولوجي لإيران يسمح لها بإنتاج الأسلحة النووية في غضون عام واحد كحد أقصى. لذا استمرت إيران تناور، كسبا للوقت، الى أن وقعت في 15 يوليو 2015 على اتفاق مع الدول الست الكبرى (الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والصين وروسيا) يحدد أغراض برنامجها النووي مقابل رفع العقوبات عنها.
انسحب الرئيس ترامب، كما هو معروف، من الاتفاق النووي الذي أبرمه الرئيس أوباما مع إيران. والان تعود أمريكا في عهد الرئيس بايدن الى نهجها الطبيعي الذي أجبلت عليه السياسة الامريكية منذ نشوء الولايات المتحدة ألأمريكية. فشعار “أمريكا تعود” الذي أطلقه بايدن، يمكن فهمه على أنه عودة لجذور السياسة الامريكية. أن أمريكا بحاجة ماسة، اليوم، إلى تكرار النهج الماكر للرئيس روزفلت، الذي نجح في دفع أكبر قوتين استعماريتين، إنجلترا وفرنسا، للحرب مع ألمانيا النازية، بينما اختارت أمريكا لنفسها أن تكون “بائع العتاد الحربي ومستلزمات القتال”. وتبعا لذلك كسب الاقتصاد الأمريكي أكثر من 14.8 تريليون دولار ثمن الإمدادات التي قدمتها أمريكا للدول المشاركة في الحرب.
فقط الأشخاص الساذجون يعتقدون أنه خلال فترات البحث عن الذهب في أمريكا، فإن أولئك الذين يغسلون الذهب ويصفونه هم من سيكونون الأثرياء. بينما في الواقع، يحصل على النصيب الأكبر من الثروة المكتسبة هم أولئك الذين يمدونهم بالأدوات والملابس والأحذية والمواد الاستهلاكية.
وبالإضافة إلى القروض التي سددتها الدول المتحاربة صاغرة، فتحت الدول الاستعمارية رسميًا مستعمراتها للبضائع ورؤوس الأموال الامريكية التي حققت منها الولايات المتحدة مكاسب مالية تتراوح حسب تقديرات مختلفة من 30 إلى 80 تريليون دولار بالأسعار الحديثة. وهذا ما يفسر، كيف تمكنت واشنطن بعد ذلك من إعداد الأساس لاتفاقية بريتون وودز عام 1944، التي قدمت لأمريكا أكثر من نصف قرن من الازدهار وضمان تحقيق مكانة القطب المهيمن على العالم.
واليوم، تحتاج النخبة الحاكمة الأمريكية الجديدة إلى نفس الاسلوب بالضبط. انها لم تعد في حاجة لفيتنام ثانية أو أفغانستان أو العراق. فبعد تجارب غير مثمرة منذ الحرب الباردة سئم الأمريكيون القتال بحرابهم الخاصة. لذا فان أغلب الذين يقفون وراء “إدارة كامالا هاريس”، حسب دراسات اجتماعية سياسية عديدة، هم الأكثر اهتمامًا بتكرار الموقف الأمريكي فترة الحرب العالمية الثانية، ولكن بنطاق محدود.
وهذه، على ما يبدو، هي السياسة التي ستتبناها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط “نيران مستوردة وحطب محلي”، وهذه أكثر فائدة لأمريكا من سياسة ضبط إيقاع خلافات تاريخية وانية ملتبسة بين دول المنطقة. ولا ننسى أن لأمريكا حساباتها ومصالحها وأولوياتها وهي تختلف عن حسابات ومصالح واولويات أي من دول المنطقة بما فيها إسرائيل.
رابط المصدر:
https://www.almothaqaf.com/a/opinions/955058#.YIVT-tiKxEw.twitter