قبيل مغادرة القوات الأمريكية لأفغانستان شهدت العاصمة كابل، يوم الخميس 26 أغسطس/آب، تفجيرين في محيط مطارها أوديا بحياة العشرات بينهم 12 جندياً أمريكياً. وقبل الانفجارات بأيام توالت تحذيرات من جانب وكالات استخبارات عالمية من إمكانية حدوث تفجيرات خلال عملية إجلاء القوات الأجنبية. وقد سارع تنظيم الدولة في أفغانستان إلى تبني أحد التفجيرين، في مشهد أعاد للأذهان الكثير من التساؤلات حول سبب توقيت هذه التفجيرات ودوافعها.
يبحث تقدير الموقف في أسباب توقيت التفجير، وما إذا كان إيذاناً بعودة تنظيم الدولة إلى المشهد الدولي، وما هي التحديات التي يفرضها؟ وما هي أبعاد عودته على مستوى الأمن المحلي الأفغاني والدولي؟
خلفيات عودة تنظيم الدولة في أفغانستان
على الرغم من أن معظم التقارير الدولية تشير إلى وجود علاقة وثيقة بين حركة طالبان وخطر عودة نشاط الجماعات الجهادية، خصوصاً الحركات الموجودة في أفغانستان، يقف تنظيم الدولة- فرع خراسان على النقيض تماماً من حركة طالبان؛ إذ بالرغم من انطلاق الطرفين من نفس الأيديولوجية الدينية فإنهما يختلفان في الأهداف الاستراتيجية والآليات المتبعة لتحقيق تلك الاستراتيجيات.
عقب تأسيس كيان “تنظيم الدولة” في العراق وسوريا في العام 2014 أعلن أعضاء سابقون في حركة طالبان-باكستان ولاءهم لزعيم الجماعة أبو بكر البغدادي، وانضم إليهم لاحقاً أفغان منشقون من حركة طالبان، مؤسسين لما عرف لاحقاً بتنظيم الدولة- فرع خراسان عام 2015 في منطقة أشين الجبلية، في مقاطعة ننغارهار شرقي البلاد، بالإضافة إلى منطقة كونار المجاورة لها. ومن هنا تتضح طبيعة العلاقة بين الطرفين، إذ يسعى تنظيم الدولة إلى تأسيس دولة “الخلافة” التي لا تقتصر حدودها على أفغانستان، في حين تحاول حركة طالبان أن تؤسس لكيان سياسي مستقر ضمن حدود أفغانستان، ومن ثم ينظر إليها على أنها جماعة من القوميين الذين يستخدمون شعار الجهاد دون تحقيق غايته العليا وفقاً لمفهوم تنظيم الدولة، ومن هنا يتضح أن الموقف السياسي لحركة طالبان، وتفاهماتها عن طريق الدوحة مع واشنطن، جعلاها ضمن الأهداف الرئيسية لتنظيم الدولة في أفغانستان بوصفها حركة “مرتدة”، بالمقابل ترى حركة طالبان في “تنظيم الدولة- فرع خراسان” خطراً وجودياً “عميلاً” يتماشى مع الأهداف المغرضة لبعض الدول المجاورة التي لا تريد الاستقرار في أفغانستان.
حدثت مواجهات عديدة بين الطرفين، أشدها كان في 2019 عندما تمكنت حركة طالبان من دحر تنظيم الدولة في أفغانستان، ويعتقد أن حركة طالبان تمكنت من ذلك عن طريق تفاهمات مع الحكومة الأفغانية بالتعاون مع القوات الأمريكية التي وفرت غطاءً جوياً ضمن سياق التطورات السياسية المرتبطة بعملية السلام، خاصة إقرار مجلس “اللويا جيرغا” الأفغاني بمبدأ الصلح مع حركة طالبان.
ومنذ ذلك الوقت لم يخض تنظيم الدولة في أفغانستان مواجهات مباشرة مع حركة طالبان أو قوات الحكومة الأفغانية، واكتفى بتنفيذ هجمات انتحارية متفرقة بهدف إضعاف الحكومة الأفغانية، وينظر إلى التفجيرات الأخيرة التي نُفِّذت على أنها تأتي ضمن هذه الجهود المستميتة لإظهار حركة طالبان في موقف الضعيف والعاجز عن توفير أسباب الأمن بهدف إضعافها داخلياً وخارجياً.
تحديات تفرضها عودة تنظيم الدولة في أفغانستان
تبني تنظيم الدولة في أفغانستان للتفجيرات الأخيرة في محيط مطار كابل أعاد للأذهان جملة من التساؤلات المتعلقة بتوقيت التفجير وأبعاده، إذ سبق تنفيذ التفجير مجموعة من التحذيرات التي تناقلتها وكالات الاستخبارات الدولية، في مشهد يعمق من حالة الاستفهام حول سبب عدم نشاط التنظيم خلال الفترة الأخيرة وعودته مجدداً للمشهد الأفغاني عقب انسحاب القوات الأمريكية، وكأن موقفه يتماشى بشكل ما مع مخطط إضعاف حركة طالبان أو التمهيد لاستمرار حالة انعدام الأمن في أفغانستان بشكل يهدد أمن الدول المجاورة ليترك المنطقة في حالة من عدم اليقين.
فرغم تسلم حركة طالبان لزمام الأمور في المشهد الأفغاني فإنها في الحقيقة تواجه تحدياً مركباً له شقان؛ الشق الأول يتعلق بالتحديات الداخلية المتمثلة بضرورة تشكيل حكومة تشاركية في أقرب فرصة لإدارة البلاد، مع السعي لإعادة الحياة إلى مجراها الطبيعي والحفاظ على استتباب الأمن، لكن ثمة عقبات داخلية تزيد من تعقد مسألة سيطرتها على المشهد الأفغاني على غرار المعارضة الداخلية لحركة طالبان المتمثلة حالياً بتحركات أحمد مسعود في بنجشير، التي تعد معقلاً للرافضين لسيطرة حركة طالبان، ويقطنها غالبية من الطاجيك، بالإضافة إلى تنامي عمليات تنظيم الدولة في أفغانستان، التي وصل عددها، وفقاً لبعثة الدعم الأممية، إلى 77 هجوماً خلال الثلث الأول من عام 2021، أي ثلاثة أضعاف الهجمات التي نفذت خلال نفس الفترة من العام الماضي.
سهلت العمليات المشتركة سابقاً بين الحكومة الأفغانية والقوات الأمريكية إضعاف تنظيم الدولة في أفغانستان وهو ما سهل بدوره لحركة طالبان حسم كثير من المعارك المحتدمة بينها وبين التنظيم لمصلحتها، لكن بمغادرة القوات الأمريكية وبتفكك قوات الحكومة الأفغانية ستجد حركة طالبان نفسها مجبرة على مواجهة عمليات تنظيم الدولة في أفغانستان بمفردها، وهو ما سيترتب عليه ارتفاع فاتورة استتباب الأمن، ويعقد من الشق الثاني المتعلق بالتحديات الخارجية التي تواجهها، والمتمثلة بحاجتها الملحة إلى الشرعية والاعتراف الدولي الذي سيسهل لها البقاء في السلطة، لكن عملية الحصول على الاعتراف الدولي مسألة معقدة؛ لكونها تتطلب من حركة طالبان ضرورة الالتزام بالشروط الدولية، التي قد يتعارض بعضها مع مسلماتها الأيديولوجية، وبقبولها لتلك الشروط تعمق من مسألة خلافها مع تنظيم الدولة في أفغانستان وتؤجج من نزعته في تنفيذ المزيد من العمليات التفجيرية. ناهيك عن أن أكثر الأطراف الدولية تربط مسألة اعترافها بطالبان بقدرة الأخيرة على استعادة الأمن والحفاظ عليه، وبقدرتها على إشراك مختلف مكونات المجتمع الأفغاني في العملية السياسي، ومن هنام نجن أن كلا التحديين الداخلي والخارجي تتداخل تأثيراتهما.
تداعيات عودة تنظيم الدولة في أفغانستان
وفقاً لتقرير الأمم المتحدة نشر في مطلع يونيو/حزيران 2021 يوجد بين 8000 و10.000 مقاتل أجنبي في أفغانستان، ويتراوح عدد أفراد تنظيم الدولة بين 500 و1500 مقاتل، يوجد معظمهم في معقل الحركة في مقاطعة ننغارهار شرقي البلاد، لكن في الفترة الأخيرة عزز التنظيم مواقعه في كابل ومحيطها، كما أن إفراج حركة طالبان عن الكثير من المسجونين المنتمين لبعض الحركات الجهادية، الذين يُعتقد أن بعضهم ينتمي لتنظيم الدولة في أفغانستان، قد يسهم في تعزيز نشاطات التنظيم وعملياته التفجيرية في الداخل الأفغاني، خصوصاً أن التنظيم يسعى بشكل رئيسي إلى استقطاب الأفراد الساخطين من أداء حركة طالبان في المشهد الأفغاني. وبناءً على هذا النشاط المتنامي لتنظيم الدولة في أفغانستان ستظهر جملة من التداعيات الأمنية على المستوى المحلي والدولي.
تداعيات عودة تنظيم الدولة على المستوى المحلي
نظراً لحالة التنافس الشديد بين حركة طالبان وتنظيم الدولة في أفغانستان، تأتي التفجيرات الأخيرة ضمن جهود تنظيم الدولة لتعقيد المشهد الأمني في أفغانستان لإظهار حركة طالبان في مظهر العاجز غير القادر على التعامل مع التحديات الداخلية فضلاً عن إمكانية تعاملها مع التحديات الخارجية. الجهود السياسية لحركة طالبان وانخراطها في مفاوضات مباشرة مع واشنطن مثَّلا مادة خصبة للانتقادات التي يوجهها تنظيم الدولة لحركة طالبان، ويسعى إلى توظيفها لإثارة حالة السخط في صفوف المنتمين للحركة، ومن ثم استقطابهم ضمن عملياته الرامية إلى إثارة البلبلة والقلاقل وانعدام حالة الأمن، وهي العوامل التي ستضعف من موقف حركة طالبان ليس أمام تنظيم الدولة وحسب، بل أيضاً أمام الشعب الأفغاني المتخوف من وصول حركة طالبان إلى سدة الحكم.
تنفيذ المزيد من التفجيرات من قبل تنظيم الدولة يعني إقحام حركة طالبان في المزيد من التحديات الداخلية التي تضاف إلى قائمة المهام الصعبة، كما أنها ستزيد من تأجيج حركات المعارضة، وهو ما سيترتب عليه فشل أي عملية سياسية مرتقبة بسبب حالة التأهب الأمني التي قد تفرضها حركة طالبان للسيطرة على زمام الأمور، كما أنه قد يؤدي إلى العودة إلى حالة الاقتتال الداخلي بين مختلف الأطراف الأفغانية وهو المربع الأول الذي وقعت فيه حركة طالبان عندما تسلمت مقاليد الحكم في تسعينيات القرن المنصرم وأودت بالبلاد في نهاية المطاف لتكون لقمة سائغة للاحتلال الأمريكي.
تداعيات عودة تنظيم الدولة على الأمن الدولي
يمثل الموقع الجغرافي الوسط لأفغانستان حالة قلق لكل جيرانها، فعودة تنظيم الدولة تعني إمكانية تحقق مختلف السيناريوهات، على غرار احتمالية عودة نشاط “تنظيم الدولة”، الذي لا يقتصر تهديده على أفغانستان وحسب، بل على المستوى الدولي؛ نظراً لأيديولوجيته القائمة على تجاوز الحدود الوطنية.
ومنذ انخراط حركة طالبان في مفاوضات مباشرة مع واشنطن أدركت دول الجوار ضرورة انخراطها هي أيضاً مع حركة طالبان؛ سعياً منها لكسب الحركة إلى صفها بدلاً من دخولها معها في مواجهات مفتوحة. وتشكل حركة طالبان المتقاربة مع باكستان تهديداً مباشراً لبعض دول الجوار على غرار الهند التي تقلقها مسألة عدم استتباب الأمن في أفغانستان، خصوصاً أن لها مصالح استراتيجية رسختها خلال الفترة السابقة وأصبحت بموجبها واحدة من أكبر شركاء أفغانستان، ونظراً لذلك قد تعمل على دعم بعض التنظيمات- كتنظيم الدولة- في سبيل إضعاف خصومها الاستراتيجيين، على غرار حركة طالبان، من أجل الحفاظ على أمنها ومكتسباتها التي حققتها في السنوات الأخيرة. وبالمقابل يخشى المجتمع الدولي والدول الغربية على وجه الخصوص من تحقق فرضية إيواء أفغانستان للتنظيمات الجهادية، وتشارك الدول الثلاث المجاورة لأفغانستان (روسيا، والصين، وإيران) الدول الغربية في قلقها من إمكانية عودة نشاط الجماعات المتطرفة على مستوى دولي، نظراً لما تمثله من تهديد حقيقي للأمن وللمصالح الاستراتيجية لهذه الدول.
ورغم وجود عداء واضح بين حركة طالبان وتنظيم الدولة، لكونهما يختلفان جذرياً من حيث الأيديولوجيا الدينية، فتنظيم الدولة خلفيته سلفية أما طالبان فماتريدية حنفية، فإن بعض الأطراف الدولية عادة ما تختزل الحركات الجهادية بمختلف مشاربها في إطار واحد. وما يثير قلق هذه الأطراف التداعيات المترتبة على سيطرة حركة طالبان على المشهد الأفغاني، فعقب دخولها للعاصمة كابل خرج من سجن المخابرات الأفغانية أكثر من 500 معتقل، يُعتقد أن معظمهم ينتمي لتنظيم الدولة، وهو ما تخشاه أطراف دولية؛ إذ تعزز هذه الخطوة من احتمالية أن تشكل أفغانستان مرة أخرى ملاذاً آمناً للجماعات المتطرفة.
التفجيرات الأخيرة خلقت حالة قلق دولي من إمكانية عودة تنظيم الدولة إلى المشهد الدولي، لكنها بالمقابل خلقت جملة من الاستفهامات التي قد تشير إلى إمكانية الربط بين هذه التنظيمات المتطرفة ودور الاستخبارات الأمريكية في إضعاف حركة طالبان، لكونها تأتي في سياقات وظروف تتماشى مع الاستراتيجيات الجديدة للولايات المتحدة الأمريكية في العالم.
خاتمة
تفجيرات محيط مطار كابل ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، لكن توقيتها ومصاحبتها لعمليات إجلاء القوات الأجنبية لها مؤشراتها التي تشير إلى إمكانية ظهور تنظيم الدولة مرة أخرى في المشهد الدولي، ويعزز من ذلك حالة الفراغ الأمني الذي خلفه انسحاب القوات الأمريكية، إضافة إلى كثرة التحديات القائمة في أفغانستان، والتي ستجعل من مهمة استتباب الأمن في وقت قياسي على يد حركة طالبان مهمة شبه مستحيلة. لكن ظهور تنظيم الدولة في أفغانستان مرة أخرى لا يعني قدرته على تشكيل تهديد دولي؛ بسبب حالة الضعف التي يعاني منها نتيجة للحروب الطويلة التي خاضها في الفترة السابقة، كما أن حالة الترقب للدول المجاورة ستحول دون تحوله إلى تهديد دولي نظراً لتهديده لمصالحها الاستراتيجية، فضلاً عن صعوبة تجنيد التنظيم لأفراد جدد بسبب استقطابه لشخصيات نوعية يصعب تجنيدها في الظروف الحالية، إضافة إلى فقدانه للحاضنة الشعبية في أفغانستان بسبب أنشطته المتطرفة، لكن على المستوى المحلي يمكن لهجمات التنظيم أن تضعف من جهود حركة طالبان في استعادة الأمن، وهو ما سيترتب عليه كثير التداعيات الأمنية والسياسية والاقتصادية.
.
رابط المصدر: