تحظى كل زيارة يقوم بها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية – على اختلاف توجهاته الحزبية – إلى منطقة الشرق الأوسط بأهمية خاصة، نظرًا للأهمية الجيوسياسية والاستراتيجية التي تحظى بها هذه المنطقة بالنسبة للقطب الأكبر في عالمنا الحالي. في هذا الإطار يمكن النظر للجولة “القصيرة” التي بدأها اليوم الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى المنطقة، وتشمل إسرائيل والأراضي الفلسطينية، ويختتمها بزيارة للمملكة العربية السعودية، يحضر خلالها قمة دول مجلس التعاون الخليجي، التي يشارك فيها أيضًا قادة كل من مصر والعراق والأردن.
بشكل عام، اتخذت الزيارات الرئاسية الأمريكية للشرق الأوسط أشكالًا وأحجامًا مختلفة خلال العقود الأخيرة، لكنها اجتمعت في سمات أساسية، منها ارتباطها دومًا بتطورات إقليمية ودولية حرجة وعاجلة، تختلط فيها الاعتبارات السياسية مع الدوافع الاقتصادية – التي تختلط بدورها بالدوافع الأمنية والاستراتيجية – لكن تبدو جولة بايدن، الأولى من نوعها في الشرق الأوسط منذ توليه منصبه، متأثرة بشكل أكبر بالعوامل الاقتصادية والسياسية الداخلية في الولايات المتحدة وتلك المتعلقة بالأزمة الأوكرانية، مع وجود تأثيرات أقل زخمًا للقضايا المتعلقة بالشرق الأوسط نفسه على هذه الزيارة.
وعلى الرغم من تعدد الملفات التي تتضمنها هذه الزيارة، بداية من ملف النفط وارتفاع أسعاره، ومحاصرة تأثيرات الحرب الأوكرانية على الداخل الأمريكي اقتصاديًا وسياسيًا، مرورًا بمحاولة تطويق الجهود الصينية للتوغل في منطقة الشرق الأوسط، وتهدئة خواطر حلفاء واشنطن وإرسال رسائل مفادها أن الولايات المتحدة لم تغادر المنطقة أو تتخلى عنها، وأنها بصدد التحاور مع قوى المنطقة بشأن الخطوات المقبلة بشأن الملف النووي الإيراني، وصولًا إلى الملفات المتعلقة بمحاولة واشنطن التمهيد لاختراق ما بشأن ترتيبات “الأمن الإقليمي” بين الدول الرئيسة في المنطقة، وملفات القضية الفلسطينية، والوضع الداخلي في إسرائيل، والطبيعة المستقبلية للعلاقة بين واشنطن والرياض، إلا أن التوقعات العامة من هذه الجولة تبدو في حدها الأدنى، وهو ما يشير إلى أنها ستكون دليلًا آخر على أن منطقة الشرق الأوسط قد تحولت إلى “مخرج” لإعادة ضبط الخطوات الدبلوماسية والسياسية الأمريكية نحو الحلفاء والقضايا الدولية الأساسية.
ملف النفط.. قضية أساسية أولى
نظرًا للتأثيرات السلبية شديدة الوطأة على الاقتصاد الأمريكي خاصة والدولي عامة، جراء الارتفاع المستمر والقياسي في أسعار النفط، والذي يمكن اعتباره نتيجة طبيعية للأوضاع الحالية في أوكرانيا، سيكون من البديهي اعتبار ملف النفط بندًا أساسيًا على رأس قائمة الملفات التي سيناقشها الرئيس الأمريكي خلال جولته الشرق أوسطية، وهنا يكون الحديث بشكل أكبر عن زيارته للمملكة العربية السعودية.
أسباب تصدر هذا الملف مشهد هذه الزيارة لا تقتصر فقط على العوامل الاقتصادية، بل تشمل أيضًا محاولة بايدن التقليل من حدة الانتقادات الداخلية التي تعرض لها بسبب ارتفاع أسعار الوقود في الولايات المتحدة، بجانب ما يراه البعض “قلة حيلة” من جانبه، في التعامل مع الدول المصدرة للنفط، أو المؤسسات التي تجمع هذه الدول، حيث لم تستجب منظمتي “أوبك” و”أوبك بلس”، للمناشدات المتكررة من جانب بايدن منذ نوفمبر الماضي، لضخ المزيد من النفط إلى الأسواق العالمية، للحد من الارتفاع المطرد في أسعاره. يضاف إلى ما سبق ما بد أنه “عدم يقين” من جانب بايدن، في مقاربة إدارته لملف النفط بشكل عام، وهو وضع ظهر بشكل مبكر خلال الحملة الانتخابية لبايدن.
يسافر الرئيس الأمريكي إلى المملكة العربية السعودية، وهو على يقين بأن الظروف القائمة تجبره على طرح ملف النفط ضمن هذه المباحثات، رغم إنه أعلن أواخر الشهر الماضي أنه لن يضغط – بشكل مباشر – على المملكة لزيادة إنتاجها من النفط، ناهيك عن أن الرياض قد أعلنت مرارًا عن عدم وجود رغبة سعودية في زيادة الإنتاج في الوقت الحالي. الموقف الأمريكي في هذا الملف أثار في حد ذاته انتقادات عديدة، بين ما يراه “غير واقعي”، وبين ما يعتبر أن عدم تجاوب الدول المصدرة للنفط مع الولايات المتحدة، يحمل معاني واضحة تشير إلى أن تأثير واشنطن على هذه الدول بات أكثر “تقلصًا” مع مرور الوقت، خاصة في ظل استمرار حالة “الانسحاب” الأمريكية من منطقة الشرق الأوسط على كافة المستويات.
ظلت الولايات المتحدة خلال الفترة السابقة، تضغط بشكل شبه “آلي” على الدول المصدرة للنفط لزيادة إنتاجها، رغم عدم وجود جدوى اقتصادية تذكر من هذه الخطوة، فدول منظمتي “أوبك” و”أوبك بلس”، قد خرجت للتو من فترة تخفيض قياسية في إنتاجها، نتيجة تفشي جائحة “كورونا”، وبدأت منذ مايو الماضي في زيادة حجم إنتاجها الإجمالي على مراحل. وتشير التقديرات المتوفرة إلى أنه حتى لو قامت المملكة العربية السعودية بزيادة إنتاجها من النفط – كما تقترح الولايات المتحدة – بنسبة 10 بالمائة، فإن هذه الخطوة لن يكون لها تأثير يذكر على أسعار النفط، التي لا يرجع ارتفاعها فقط إلى المعوقات الحالية في سلاسل الإمداد، بل أيضًا إلى عوامل جيوسياسية ومالية أخرى، منها العقوبات الأمريكية والأوروبية على قطاع النفط الروسي.
هذه القضية تطرح عدة فرضيات تتعلق بالأهداف الحقيقية وراء إصرار واشنطن على طرح ملف زيادة إنتاج النفط، ومحاولة الإيحاء – للداخل الأمريكي والمجتمع الدولي – أن الأزمة الحالية في أسعار الطاقة نابعة من رفض دول مثل المملكة العربية السعودية رفع إنتاجها النفطي، على رأس هذه الفرضيات أن هذا التوجه يعتبر بمثابة “مناورة سياسية”لامتصاص الغضب الداخلي بشأن ارتفاع أسعار البنزين، وفي نفس الوقت الاحتفاظ بورقة ضاغطة على دول أوبك، لمواجهة تعاونها القائم مع موسكو، العضوة في هذه المنظمة.
بغض النظر عن هذا التناقض، تبقى الخيارات الأمريكية المتاحة لتحقيق أهدافها في هذا الملف محدودة للغاية، بالنظر لما سبق ذكره من عوامل، وكذا حقيقة أن اتفاقية خفض الإنتاج التي وقعتها دول “أوبك بلس” عام 2020، ستظل سارية حتى ديسمبر المقبل، وهذا يعني أن الزيادة التدريجية في الإنتاج التي قامت بها بعض دول المنظمة، لن تصل إلى كميات مؤثرة كما ترغب واشنطن خلال العام الجاري، وستظل أسعار النفط في المدى المنظور، تحلق في فلك سعر مائة دولار للبرميل.
الخيار الوحيد الذي يتوقع أن يكون في جعبة بايدن خلال جولته الحالية، هو مطالبة دول الشرق الأوسط المصدرة للنفط بإعادة توجيه صادراتها النفطية إلى أوروبا، وهو خيار ممكن بالنظر إلى أن العقوبات الغربية مكنت روسيا من تصدر صادرات النفط لدول مثل الهند، بعد أن كان العراق حتى وقت قريب هو الدولة الأكثر تصديرًا للنفط إلى نيودلهي، وهو ما قد يعني عمليًا وجود قدرة عراقية حالية على توجيه جزء من صادراته النفطية إلى أوروبا.
ترتيبات الأمن الإقليمي ومستقبل الملف الإيراني
ربما كان “الأمن الإقليمي” هو الملف الأساسي الذي يجمع كافة الدول التي سيلتقي بايدن مع قادتها خلال جولته الحالية، وهو ملف يضم بين ثناياه ارتباطات مهمة بالقضية الفلسطينية والعلاقات بين الدول العربية وإسرائيل، وكذلك مستقبل العلاقات مع طهران، وديناميات التعاون معها، وهي كلها ملفات متشابكة تبدو الآمال – أيضًا – حول حسمها خلال هذه الجولة شحيحة للغاية، خاصة ملف البرنامج النووي الإيراني.
فهذا الملف تتقاسم فيه واشنطن مع عواصم شرق أوسطية مثل الرياض وتل أبيب، الحد الأدنى من القواسم المشتركة، في حين تشترك المملكة وإسرائيل في رغبتهما بمواجهة الأنشطة الإيرانية في المنطقة بشكل أكبر حسمًا وحزمًا، مع علمهما أن انتظار الإدارة الأمريكية القادمة، ربما يكون خيار معقول للتعامل بشكل مٌرضي لهما أكثر مع هذا الملف، خاصة في ظل تراجع شعبية بايدن، واقتراب انتخابات التجديد النصفي الأمريكية.
المملكة العربية السعودية من جانبها، اتبعت خلال الفترة الماضية وتحديدًا منذ بدء واشنطن سحب معداتها العسكرية من الأراضي السعودية، استراتيجية جديدة تبدو بعيدة عن توجهات واشنطن في هذا الإطار، عبر فتح قنوات تواصل مع طهران، وفي نفس الوقت توسيع هامش تسلحها ليشمل شراء منظومات قتالية ودفاعية من دول كبرى أخرى غير الولايات المتحدة.
هذه الإستراتيجية أفضت إلى نتائج إيجابية، سواء عبر التوصل إلى هدنة في اليمن أو تخفيف حدة التوتر بين طهران والرياض، لكن الأكيد أن الأخيرة ستطرح خلال زيارة بايدن، أسئلة محددة حول ما ستفعله واشنطن حال تجددت هجمات الحوثيين عليها، خاصة في ظل النهج الأمريكي السابق إلى سحب وسائل الدفاع الجوي الأمريكية من الأراضي السعودية، في وقت كانت تتعرض فيه بشكل شبه يومي للصواريخ القادمة من اليمن.
إسرائيل أيضًا اتخذت خلال المرحلة السابقة طريقًا مغايرًا للنهج الأمريكي، حيث صعدت بشكل واضح من عملياتها “المستترة” ضد طهران ووكلائها، سواء عبر غاراتها الجوية في سوريا، أو عملياتها البحرية في البحر المتوسط، وغيرها من العمليات التي شملت حتى الأراضي الإيرانية نفسها. لذا ستواجه تل أبيب بايدن أسئلة صعبة حول كيفية التعامل مع تعاظم القدرات الإيرانية خلال المدى المنظور، وستؤكد كذلك على رؤيتها الخاصة بالاتفاق النووي الإيراني، والتي مفادها أن هذا الاتفاق لابد من أن لا يقتصر على فقط على تجميد البرنامج النووي الإيراني، بل يجب أن يشمل تجميد البرنامج الصاروخي الإيراني والأنشطة الإيرانية المناهضة لأنظمة منطقة الشرق الأوسط، وهي رؤية تقترب إلى حد كبير من الرؤية السعودية.
واشنطن من جانبها ستطرح خلال جولة بايدن رؤيتها للموقف الحالي للمفاوضات النووية مع إيران، وستؤكد على رؤيتها الأساسية في هذا الملف، وملخصها أن التوصل لاتفاق متماسك مع طهران يبقى الخيار الأمثل في ظل الوضع الإقليمي والدولي الحالي. في المقابل، سيطرح بايدن رؤيته بشأن صيغة مقترحة “للأمن الإقليمي”، تبدو مغايرة لما تم طرحه إعلاميًا تحت اسم “الناتو الإقليمي”. هذه الصيغة تحدث عنها مؤخرًا وزير الدفاع الإسرائيلي بيني جانتس، وتتلخص في تأسيس منظومة إقليمية مشتركة للدفاع الجوي متعدد الطبقات، موجهة ضد الأنشطة الصاروخية والجوية الإيرانية، وتنص على إمكانية ربط أنظمة الدفاع الجوي لدول المنطقة، بدرجة معينة، بحيث يتم العمل بشكل منسق لمواجهة أي تهديد آني من جانب الصواريخ والطائرات الإيرانية بدون طيار. واحتمالية مناقشة هذا الموضوع تعززها النظرة التي سيلقيها بايدن عن قرب خلال جولته الحالية، على نظام الدفاع الصاروخي الإسرائيلي المعزز بالليزر “القبة الحديدية”.
الملف الفلسطيني يبدو أيضًا من النقاط الأساسية التي سيتم بحثها في جولة بايدن، وإن كان يشترك مع الملفات السابقة في عدم وجود مؤشرات كبيرة على إمكانية إحراز تقدم كبير فيه. إذ تحاول واشنطن استغلال هذه الزيارة لإرضاء الدول العربية ومحاولة البدء في استعادة دور أمريكي أكثر توازنًا بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهو دور فقدته بشكل شبه كلي خلال حقبة الرئيس السابق ترامب.
هذه المحاولة تأتي متأخرة بطبيعة الحال، فقد أضاعت إدارة بايدن وقتًا ثمينًا دون محاولة القيام بأية خطوات جدية لوقف التدهور التدريجي للأوضاع في الأراضي المحتلة، بل وأبقت على كثير من سياسات إدارة ترامب فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، مثل ملف السفارة الأمريكية في القدس، واستمرار إغلاق القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية، واستمرار إغلاق مكاتب السلطة الفلسطينية في العاصمة واشنطن. واقتصرت الخطوات الأمريكية الإيجابية في هذا الإطار، على إعادة نحو 500 مليون دولار من التمويل الأمريكي المخصص لدعم منظمة “الأونروا”كان قد تم تجميدها في عهد ترامب، بجانب الإعراب بشكل متكرر عن الاستياء من التوسع الاستيطاني الإسرائيلي.
بايدن سيحاول خلال هذه الجولة إعادة التأكيد على “حل الدولتين”، مستغلًا في ذلك حقيقة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي، يائير لابيد، يعتبر من المؤيدين لهذا الحل من حيث المبدأ – على عكس سلفه نفتالي بينيت – وإن كان هذا التأييد لا يعني أن لابيد قد يتخذ خطوات دراماتيكية في هذا الصدد، بالنظر إلى أن موقعه الحالي يعتبر مؤقتًا انتظارًا للانتخابات الإسرائيلية العامة في نوفمبر المقبل.
يضاف إلى ذلك حقيقة أن الفلسطينيين ينظرون إلى النهج الأمريكي حيال ملفهم بشكل عام، بغضب متزايد، لدرجة تجعلهم غير واثقين في إمكانية تحقيق شيء إيجابي خلال المدى المنظور، وهو ما يضعه كلا من الرئيس الفلسطيني محمود عباس والرئيس بايدن خلال اللقاء المقرر بينهم في الضفة الغربية خلال هذه الجولة، خاصة وأن الغضب الفلسطيني تصاعد مؤخرًا، على خلفية التصريحات الأمريكية بشأن ماهية من ارتكب جريمة قتل الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة. لذا تقتصر الآمال الفلسطينية على تقديم واشنطن المزيد من الدعم المالي للسلطة الفلسطينية، وهو ما يتوقع حدوثه، حيث تتضمن جولة بايدن زيارة مستشفى “أوغستا فيكتوريا” في جبل الزيتون في القدس الشرقية، سيعلن خلالها عن حزمة تمويل بقيمة 100 مليون دولار، ستخصص لشبكة مستشفيات القدس الشرقية التي تخدم الفلسطينيين المقيمين في هذا النطاق، الذي تقطنه غالبية فلسطينية.
جدير بالذكر هنا، أن الوضع الداخلي في إسرائيل يبدو من الملفات المهمة التي يضعها بايدن في الاعتبار، فهو لم ينس حقيقة أن زيارته السابقة إلى إسرائيل – إبان توليه منصب نائب الرئيس الأمريكي الأسبق أوباما – شهدت استخفافًا من رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها بنيامين نتنياهو، الذي سيقابله لمدة ربع ساعة خلال الجولة الحالية. وعلى الرغم من أن هذا اللقاء، الذي تمت إضافته خلال اللحظات الأخيرة التي سبقت بدء جولة بايدن في المنطقة، غرضه الرئيس – وربما الوحيد – هو الإيحاء بعدم وقوف واشنطن مع طرف دون آخر، قبيل الانتخابات الإسرائيلية العامة المقبلة، إلا أن واقع الحال يشير إلى رغبة بايدن في فوز رئيس الوزراء الحالي يائير لابيد الذي سيواجه نتنياهو خلال الانتخابات المقبلة، وهذا ربما يكون دافع لتصعيد التعاون بين تل أبيب وواشنطن في الوقت الحالي.
ملف التطبيع والعلاقات مع المملكة العربية السعودية
ربما لا يمكن أن نعتبر وجهات النظر التي تشير إلى زيارة بايدن إلى المملكة العربية السعودية على أنها تراجع حاد في مواقفه من المملكة، خاصة تلك المواقف التي أعلنها خلال حملته الانتخابية وخلال العام الأول من حكمه. هذا التراجع ربما صاغه بايدن نفسه، من خلال مقاله المنشور في صحيفة الواشنطن بوست، وذكر فيه أن الهدف الأسمى يبقى ضمان عدم وقوع المملكة العربية السعودية في فلك قوة معادية، وهو هنا يقصد بالطبع الصين بشكل أساسي وروسيا. ذكر بايدن في مقاله أن رغبته الأساسية كان دومًا “إعادة توجيه” العلاقات بين واشنطن والرياض وليس “قطعها”، لكن انتهى به الحال إلى محاولة “إعادة وصل” هذه العلاقة على الأسس التي كانت متبعة سابقًا، اعترافًا منه بأهمية موقع المملكة على المستوى الجيوسياسي، خاصة في ظل المتغيرات التي طرأت اقتصاديًا وسياسيًا عقب بدء العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا.
بالإضافة إلى مناقشة ملف النفط، تطمح واشنطن في التأسيس لبداية جديدة في العلاقات مع الرياض انطلاقًا من التوافق بينهما في الملف اليمني، الذي خطت فيه الرياض خطوات مهمة تمثلت في الهدنة السارية حاليًا والتي تستهدف واشنطن التأكيد على استمرارها خلال زيارة بايدن للمملكة، وهو ما قد يكون -حال تحققه- أحد أهم إنجازات هذه الزيارة. رغم هذا التوافق، إلا أن الرياض من جانبها تحتفظ برؤى مغايرة فيما يتعلق بترتيبات الأمن الإقليمي – كما سبق ذكره – وهو ما يفرض على واشنطن محاولة التوصل إلى مقاربة مشتركة مع الرياض، التي لم تنس بعد الخطوات الأمريكية السلبية خلال الفترة السابقة حيال التعاون العسكري معها.
تعي الرياض مثلها في ذلك مثل تل أبيب، أن بايدن يواجه مشاكل اقتصادية وسياسية داخلية متفاقمة في ظل ارتفاع نسبة التضخم في الولايات المتحدة إلى 8.6 في المئة وهي الأعلى في الأربعين عامًا الأخيرة، وارتفاع أسعار الوقود والمواد الغذائية بالتبعية، ما يهدد بركود تضخمي قد يدفع الديمقراطيون ثمنه خلال الانتخابات النصفية المقررة في نوفمبر المقبل، لذا يتوقع أن تحاول خلال زيارة بايدن اللعب على الوتر الاقتصادي والحصول على منظومات قتالية نوعية من واشنطن.
ملف التطبيع، وتوسيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية، يبقى من ملفات هذه الزيارة – وهو ملف كان من الملفات النادرة التي امتدح بايدن نهج إدارة ترامب السابقة حيالها – لذا لا يمكن إغفال رمزية اعتزام بايدن التحليق بشكل مباشر من تل أبيب إلى الرياض، ليصبح ثاني رئيس أمريكي يطير مباشرة من إسرائيل إلى المملكة العربية السعودية بعد الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش عام 2008، وبعد دونالد ترامب الذي حلق عام 2017 من الرياض إلى تل أبيب.
خلاصة القول، إن بايدن قد وصل إلى الشرق الأوسط ليجده هو والوضع الدولي برمته، مختلفًا بشكل كامل عن عام 2016 الذي قام فيه بزيارته الأولى إلى المنطقة، لذا فمن الجائز القول إن هذه الزيارة بمثابة نقطة تحول تعترف فيها واشنطن – ضمنيًا – بأخطاء أساسية وقعت فيها على المستوى الإقليمي، وترسم من خلالها حدود وديناميات تحركها على المستوى الخارجي في ظل التغيرات التي طرأت على المشهد الدولي، وظهور توجهات أكثر استقلالية في نهج دول الشرق الأوسط، ولعل زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى طهران المقررة خلال الأيام المقبلة ولقائه المرتقب مع نظيريه التركي والإيراني، خير دليل على رياح التغيير التي وصلت بالفعل إلى الشرق الأوسط.
.
رابط المصدر: