الافتراضات القائمة منذ فترة طويلة حول الكيفية التي ينبغي لإسرائيل أن تتعامل بها مع التحديات التي تفرضها حماس في غزة تتحاشى تمامًا الجانب المقابل في أنه لا يوجد ما يوازيها من الافتراضات في الضفة الغربية، وهو ما يشكل عدم وعي بحساب العبء الأمني والذي من المتوقع أن تفرضه حتمًا حركة الاستيطان وتصرفاتها غير المسؤولة هناك.
وتتعامل دولة الاحتلال وتتحرك في الضفة الغربية منذ السابع من أكتوبر الماضي بمزيج من العنف وممارسة الإرهاب من قبل المستوطنين الإسرائيليين ضد المدنيين الفلسطينيين العزل، في حالة من غياب الوعي بأن العنف الذي قد ينطلق في الضفة الغربية سيكون أمرًا منطقيًا إذا ما استمرت هذه الممارسات. وهو ما يحتاج إلى إعادة تقييم لهذه السياسات العنصرية؛ لأنه لا ضمانات لعدم انطلاق شرارة العنف ولا توقعات تستطيع أن تتنبأ بتوقيت اندلاعه، خصوصًا مع الاعتبار لدروس الماضي القريب في مايو 2021 خلال عملية ” حارس الجدران” عندما استطاعت حركة حماس توحيد الجبهات وأثارت موجة عنيفة في جميع أنحاء الضفة الغربية وامتدت أعمال الشغب الجماعية إلى القدس الشرقية، ولا يوجد ما يمنع أن تنجح حماس في تكرار التجربة.
ويمكن لمس ذلك من خلال العمليات التي تم تنفيذها ضد كيان الاحتلال منذ بدء طوفان الأقصى وفي الأسبوعين التاليين للعملية؛ إذ تزايدت الأعمال من قبل الفلسطينيين ضد جيش الاحتلال، وهو ما نقلته بعض المصادر الإعلامية الإسرائيلية وأشارت إليه بأنه قد وصل لثلاثة أضعاف الرقم مقارنة بالأوضاع قبل السابع من أكتوبر.
ويمكن أن تعزى أعمال المقاومة المؤثرة في الضفة الغربية إلى قائمة طويلة من الجماعات التي أصبحت أكثر كفاءة من الناحية الفنية وأكثر رسوخًا على الأرض، خصوصًا في المناطق التي تحوي مخيمات في المنطقة الشمالية من الضفة لأن سيطرة السلطة الفلسطينية هناك أكثر محدودية إذا ما جاز التعبير.
ولكن ما تقدم لا يعني أن المقاومة السلمية كانت غائبة عن الضفة الغربية منذ انطلاق طوفان الأقصى؛ فقد شهدت الأرض المحتلة ارتفاعًا في أعداد الاحتجاجات الداعمة لغزة، وهي الاحتجاجات التي اعتقلت القوات الإسرائيلية على إثرها ما يزيد على ألف فلسطيني نصفهم تقريبًا تابعون لحركة حماس. وقامت كذلك بمصادرة عشرات الأسلحة، في الوقت الذي أسفرت فيه هذه المواجهات عن مقتل حوالي 105 فلسطينيين، مع الإشارة هنا إلى أن السلطة الفلسطينية سمحت بهذه الاحتجاجات بوصفها المتنفس الوحيد للشعب الفلسطيني، حتى أن بعض أعضاء حركة فتح قاموا بإطلاق تصريحات إيجابية تجاوزت دعم المدنيين في غزة إلى دعم حماس ربما من باب الإدراك أنه لابد من تجاوز ما أقدمت عليه حماس من عنف في 2007 أو على أقل تقدير تنحيته جانبًا. وعمومًا فإنه قبل التوصل إلى استنتاج بشأن مآلات الوضع في الضفة الغربية ينبغي بداية رصد تحركات الاحتلال هناك منذ السابع من أكتوبر وقراءة دلالاتها على النحو التالي:
أولًا) موقف الاستيطان في الضفة الغربية:
1- منذ بدء طوفان الأقصى، اتخذ الاحتلال سياسة العقاب الجماعي منهجًا ضد كل الفلسطينيين وليس فقط سكان قطاع غزة، في انعكاس لمبدأ الانتقام من الجميع وحالة من الانتحار الأخلاقي الذي لا يبذل جهدًا في إخفائه. ومذ ذاك التاريخ، أخلى مستوطنون مسلحون تحت حماية جيش وشرطة الاحتلال 15 مجمعًا زراعيًا داخل الضفة، وأقدموا على تخريب خزانات المياه وكذلك قطع الكهرباء؛ في محاولات لدفع السكان الفلسطينيين للرحيل خصوصًا في منطقة الخليل، وإعادة إنتاج تغريبة فلسطينية جديدة ليس في غزة فقط بل في الضفة أيضًا.
2- تم استهلال التحركات هناك من خلال التفكير في عزل المستوطنات الإسرائيلية داخل الضفة الغربية من خلال تصريحات أطلقها وزير المالية اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش والتي عكست عملية احتيال كبرى يستهدف الاحتلال تنفيذها في الضفة عن طريق إقامة مناطق عازلة حول مستوطنات الضفة الغربية ومنع الفلسطينيين من الدخول حتى لزراعة الزيتون، وهي دعوة تعكس نوايا الاحتلال بقدر ما هو منعكس عنها من عنصرية وتحريض واختلال وتمهيد لضم هذه الأراضي من الناحية القانونية. وهي خطة ليست بجديدة على الكيان الصهيوني، بل هو منهج متبع منذ قديم الأزل ويمكن استشفافه من المراحل الأولى للاستيطان في الضفة الغربية المحتلة.
3- وتعريجًا على مفهوم الاستيطان فهو نوع من أنواع الاستعمار عن طريق عملية إسكان واسعة في أرض محتلة، وذلك بذريعة الإعمار وإرساء سيطرة الدولة المهيمنة على الأرض التي ضمتها، وأصبحت تعتبرها جزءًا منها. ولكنه يختلف عن الاستعمار في كونه يستند في تبريراته إلى مسوغات دينية وفكرية، وقد كانت فكرة “عودة الشعب إلى أرض الميعاد وبناء الهيكل” أحد مرتكزات الاستيطان في فلسطين. وتعد المستوطنات في الضفة الغربية من وجهة نظر القانون الدولي غير شرعية، وانتهاكًا لاتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر على القوة المحتلة نقل سكانها إلى المناطق الخاضعة للاحتلال.
ثانيًا) مراحل الاستيطان في الضفة الغربية:
1- بداية من المهم الإشارة إلى أن الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية لم يتحول إلى أمر مقنن قبل هزيمة يونيو 1967 حيث تم تعديل المنظومات القانونية، عبر اعتماد توليفة من الأوامر العسكرية غير القانونية التي تشرّع مصادرة أراضي الفلسطينيين العامة والخاصة والاستيلاء عليها؛ بغرض استخدامها لبناء المستوطنات والخدمات الخاصة بها. وبحلول عام 2023، وصل عدد المستوطنات في الضفة إلى 176 مستوطنة و186 بؤرة استيطانية تضمم حوالي 730 ألف مستوطن إسرائيلي.
2- وبنظرة على خريطة الضفة الغربية المحتلة فإن المستوطنات الإسرائيلية تشكل الآن ما نسبته 42% من الأرض، وتمت السيطرة على 68% من مساحة المنطقة “ج” لمصلحة المستوطنات، وهي منطقة تضم 87% من موارد الضفة الغربية الطبيعية و90% من غاباتها و49% من طرقها.
3- ومن خلال السيطرة على المنطقة “ج”، رسخت السياسات الاستيطانية مشروع تفتيت الضفة الغربية، وعزل المواطنين الفلسطينيين في مناطق محدودة المساحة مقطعة الأوصال، وعملت على تجزئة الأسواق والمجتمعات المحلية الفلسطينية، ومنعت تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية، إضافة إلى انتهاك حقوق الإنسان الفلسطيني، وإلغاء أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية.
4- وبالعودة إلى فترة حكم الدولة العثمانية، فإنه على الرغم من بعض القوانين التي سنها الباب العالي للحيلولة دون تملك اليهود في فلسطين والتي كان من ضمنها أن الحاج اليهودي يدفع ضريبة عدا أنه لا يسمح له بالبقاء أكثر من 31 يومًا؛ فإن هذا لا ينفي تسرب بعض الأراضي لملكية اليهود عن طريق عمليات بيع وافق عليها الباب العالي، إلا أن عدد اليهود إبان حكم الدولة العثمانية ظل محدودًا وشكل دخول فلسطين تحت الانتداب البريطاني الحاضنة الحقيقية لنمو الاستيطان وزيادة أعداد اليهود، وذلك عن طريق سن تشريعات تخص فتح أبواب هجرة اليهود إلى الأراضي الفلسطينية وتسهيل تملكهم للأراضي.
5- وحتى الانتداب البريطاني، تركزت مستوطنات الاحتلال على الساحل الفلسطيني وهي المنطقة التي شكلت حدود الكيان الصهيوني حتى عام 1948 حينما صدر قرار الأمم المتحدة الذي أسس للكارثة ومنح اليهود 55% من أراضي دولة فلسطين العربية. وكان الصهاينة قد استعدوا لهذا القرار جيدًا عن طريق إقامة مستوطنات ضمن استراتيجية “برج وجدار”، أي أن المستوطنات الجديدة لم تكن سوى جدار خشبي، وبرج أقاموا فيه حارسًا أو أكثر. وتلا ذلك أن لجان الأمم المتحدة راعت أن تكون أماكن وجود المستوطنات ضمن أراضي دولة إسرائيل في مشروع التقسيم، وهو ما يحاول وزير المالية الإسرائيلي المتطرف اليوم إعادة تخليقه من خلال المطالبة بتغيير المفهوم الأمني في يهودا والسامرة (الضفة الغربية) في هذا الوقت، مع التأكيد على ضرورة خلق مساحات أمنية (عازلة) حول المستوطنات والطرق ومنع العرب من دخولها، بما في ذلك لغرض الحصاد . وهو ما تناوله رئيس الوزراء الفلسطيني في خطابه الأخير عندما قال إن الهدف من هذه الدعوة المسمومة هو سرقة المزيد من أراضي المواطنين الفلسطينيين وضمها إلى المستعمرات والبؤر العشوائية القائمة لتعميق وتوسيع الاستعمار في أرض دولة فلسطين، كجزء لا يتجزأ من عمليات الضم التدريجي المعلن وغير المعلن للضفة الغربية المحتلة بما فيها القدس الشرقية.
ثالثُا) اقتطاع إسرائيل من أموال المقاصة:
قررت حكومة الاحتلال في الأيام الأخيرة اقتطاع جزء جديد من أموال المقاصة؛ بحجة أن السلطة الفلسطينية تمول قطاع غزة بحوالي 140 مليون دولار شهريًا، وأن هذه الأموال يذهب أغلبها لحماس وهو ما تفسره السلطة الفلسطينية بأنه قرار سياسي لتكريس المزيد من عزل غزة عن الضفة.
وكان مجلس الوزراء في دولة الاحتلال قد صوت لصالح تحويل أموال الضرائب المجمدة إلى السلطة الفلسطينية لكنه أوقف تلك الأموال المخصصة لغزة، وجاء في بيان صادر عن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي أن مجلس الوزراء الأمني صوت لصالح خصم الأموال التي كانت مخصصة لغزة، بالإضافة إلى الأموال التي يتم خصمها بشكل مستمر لتعويض الأموال التي تدفعها السلطة الفلسطينية للأسرى المدانين إسرائيليًا بالإرهاب وعائلاتهم.
وتشكل التحويلات الشهرية الجارية ما يقارب 65% من الموازنة السنوية الفلسطينية. ونظرًا لافتقار السلطة الفلسطينية إلى وضع الدولة من الناحية القانونية، فإن الاحتلال مسؤول عن تحصيل الرسوم الجمركية وإيرادات الضرائب الأخرى نيابة عنها. وكانت إسرائيل قد أجرت خصومات في الماضي بناء على تشريع عام 2018 الذي يسمح لها بتعويض دفع السلطة الفلسطينية رواتب للمقاتلين في المقاومة وعائلاتهم. لكنها لا تؤيد هذه السياسة إلا جزئيًا، حيث يدرك المسؤولون تمام الإدراك أن السلطة الفلسطينية تقترب بشكل خطير من الانهيار المالي وأن هذا سيمنعها من ممارسة مهامها الأمنية ملقية بالمزيد من العبء الأمني على إسرائيل.
وحسب رؤبة وزير الأمن القومي المتطرف لدولة الاحتلال، فإن السلطة الفلسطينية يجب ألا تحصل على شيكل واحد خصوصًا أنها قد تجنبت إدانة الهجوم الذي شنته حماس في السابع من أكتوبر وبدلًا من ذلك، أصدرت رام الله تصريحات غامضة حول حماية المدنيين من كلا الجانبين، في حين شجبت بشدة الهجوم العسكري الإسرائيلي وهو ما يشير إلى أن السلطة ليست بديلة لحماس وإنما هي حليفة لها.
ولكن على أية حال فإن المتطرفين من الجانب الإسرائيلي والذين يلقون بالمسؤولية على السلطة الفلسطينية يتناسون أن حركة حماس في غزة ومنذ 2007 استطاعت أن تطور خمس قنوات للتمويل وليس سرًا أن أربع قنوات منها تعمل بموجب ترتيبات تمثل إسرائيل طرفًا فيها أو تخضع لإشرافها.
رابعًا) استهداف إسرائيل لمخيم جنين:
ضمن الغارات التي شنتها تل أبيب على الضفة الغربية وخصوصًا في المنطقة الشمالية، استهدفت القضاء على المسلحين في مخيم جنين شمال الضفة. وحسب مراقبين فإن جيش الاحتلال يواصل تدمير البنية التحتية بالضفة خاصة في مخيمي جنين ونور شمس، حيث نفذ سلسلة اقتحامات عمل خلالها على تجريف الشوارع وتدمير شبكات المياه والهواتف والصرف الصحي، والكهرباء، وهدمت الآليات الإسرائيلية ميادين عامة ونصبًا تذكارية.
ونفذ جيش الاحتلال غارات ليلية على المخيم وغارة جوية على مسجد في وسط جنين؛ والذي تقول إسرائيل إنه يستخدم “كمركز قيادة” من قبل حماس والجهاد الإسلامي من أجل “التخطيط لهجمات إرهابية”. وعلى الرغم من أن الغارات الجوية كانت شائعة في غزة قبل فترة طويلة من التصعيد الأخير، فإنها نادرة نسبيًا في الضفة الغربية.
وسلط تحليل نشره معهد أبحاث الإعلام في الشرق الأوسط الضوء على المؤشرات المختلفة التي تشير إلى ظهور بنية تحتية عسكرية جديدة في منطقتي جنين ونابلس –تشبه ما هو موجود بالفعل في قطاع غزة– حيث فسر التقرير ذلك بتضاؤل سيطرة السلطة الفلسطينية التي تتخذ من رام الله مقرًا لها على المنطقة. ووفقًا لما نشرته الوفاق الإيرانية الناطقة بالعربية، قال زعيم الجهاد الإسلامي في فلسطين زياد النخالة إن تسليح الضفة الغربية يتم وفقًا للتعليمات الصادرة في عام 2014 عن المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي.
وسلط تقرير MEMRI الضوء أيضًا على تزايد إطلاق الصواريخ من منطقة جنين ضد المستوطنات الإسرائيلية، وقد تم إطلاق المقذوفات من قبل مجموعة تابعة لحماس تسمى كتيبة العياش. وأشار التقرير لما يعرف بغرفة الحرب المشتركة في غزة، وهي منظمة جامعة يتم تفعيلها بشكل رئيس خلال جولات القتال مع إسرائيل.
وعلاوة على ذلك، هناك جماعات ناشطة أخرى في الضفة، وهو ما يزيد من حالة التعاون العسكري بين الفصائل الفلسطينية المسلحة. ويذكر في هذا الإطار جماعة “عرين الأسود”، وهي جماعة مقاومة ظهرت في البلدة القديمة في نابلس في أغسطس 2022 وتضمنت في البداية حوالي 100 شاب من جيل ما بعد الانتفاضة الثانية، المنتسبين إلى حماس والجهاد الإسلامي. وهناك محاكاة أكبر وأكثر تنظيمًا لغرفة الحرب المشتركة في غزة وهي “لواء جنين”، المعروف أيضًا باسم “كتيبة جنين”، الذي تم إنشاؤه في المخيم عام 2021، وينقسم إلى خلايا مستقلة.
وقد أفرزت هذه الاستراتيجية المنسقة بعناية عددًا من العمليات الناجحة التي قام بها مقاتلو المقاومة في الضفة الغربية المحتلة والقدس، وآخر هذه العمليات في عام 2023 كان هجوم 6 يوليو في منطقة كدوميم شرق محافظة قلقيلية، عندما خرج أحمد ياسين هلال غيدان من سيارته وأطلق النار بشكل مباشر على جندي إسرائيلي، مما أدى إلى مقتله على الفور. وجاء هذا الهجوم مباشرة بعد انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من مخيم جنين، في أعقاب مجزرة 3 يوليو التي أسفرت عن استشهاد 12 فلسطينيًا. وقبل ذلك بيومين، في 4 يوليو، وقعت عملية دهس وطعن في شارع بنحاس روزان، شمال تل أبيب، أصيب فيها 10 إسرائيليين، أربعة منهم في حالة حرجة.
وجاءت العملية المزدوجة التي وقعت بالقرب من مستوطنة إيلي جنوب نابلس في 20 يونيو، والتي قُتل فيها أربعة إسرائيليين –وأثارت موجة واسعة من الغضب الإسرائيلي– بعد يوم واحد من اقتحام قوات الاحتلال مخيم جنين لاعتقال أحد أعضاء حماس. وخلال تلك الغارة، استشهد ستة فلسطينيين، وأصيب حوالي 100 آخرين.
وفي 28 يناير 2023، نفذ خيري علقم عملية إطلاق نار داخل مستوطنة النبي يعقوب بالقدس، أدت إلى مقتل ما لا يقل عن 7 إسرائيليين وإصابة 10 آخرين، بعد يوم واحد فقط من ارتكاب قوات الاحتلال مجزرة في مخيم جنين راح ضحيتها تسعة فلسطينيين.
وعلى ذلك فإن “استراتيجية دفع الثمن” التي يتبناها فصيلا المقاومة الفلسطينية الرئيسان تثبت قدرتهما على إلحاق الألم بقوات الاحتلال وشن عمليات فعالة ضد الجنود والمستوطنين الإسرائيليين. ويعود تاريخ هذه الاستراتيجية إلى 28 أبريل 2022، عندما أعلنت كتائب عز الدين القسام مسؤوليتها عن هجوم على مستوطنة أرييل -شمال الضفة الغربية المحتلة- قُتل فيه حارس أمن إسرائيلي. ويأتي هذا الهجوم الانتقامي ضمن سلسلة ردود الفعل على تدنيس إسرائيل واعتداءاتها على المسجد الأقصى في القدس. ووصفت كتائب القسام حينها الهجوم بأنه “بداية مرحلة جديدة من مقاومة الاحتلال”.
ولا تمكن الإشارة في هذا السياق إلا إلى أن المقاومة في الضفة الغربية غدت واضحة ومؤثرة بشكل متزايد، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى تحالف كتائب القسام، وتبني تكتيكات فريدة وتفعيل سري للخلايا العسكرية. وفي بعض الحالات، تمتنع الحركة عن إعلان مسؤوليتها لأسباب أمنية؛ وذلك لضمان استمرار قدرتها على تنفيذ هذه العمليات وهو ما يعني وجود موجة تسلح في الضفة الغربية لتنفيذ هذه العمليات وهو ما يحلينا إلى النقطة التالية.
خامسًا) صفقة التسلح الإسرائيلية:
ردًا على عملية السابع من أكتوبر، تعهد وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير بتسليح فرق الأمن المدنية، وخاصة حول البلدات القريبة من حدود إسرائيل، وفي المستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية، وفي المدن التي يقطنها سكان فلسطينيون ويهود. وتم حتى الآن توزيع نحو 150 ألف قطعة سلاح ناري على المستوطنين، بحسب لجنة أمنية في البرلمان الإسرائيلي.
وقد أثار طلب الحكومة الإسرائيلية الحصول على 24 ألف بندقية هجومية من الولايات المتحدة، تدقيقًا من المشرعين الأمريكيين وبعض مسؤولي وزارة الخارجية الذين يخشون أن الأسلحة قد تصل في نهاية المطاف إلى أيدي المستوطنين والميليشيات المدنية التي تحاول إجبار الفلسطينيين على مغادرة أراضيهم في الضفة الغربية. وتبلغ قيمة الشرائح الثلاث المقترحة من البنادق نصف الآلية والآلية 34 مليون دولار، ويتم طلبها مباشرة من صانعي الأسلحة الأمريكيين، لكنها تتطلب موافقة وزارة الخارجية وإخطار الكونجرس. وتقول إسرائيل إن البنادق ستستخدم من قبل قوة الشرطة الوطنية، لكنها أشارت أيضًا إلى أنه يمكن إعطاؤها للمدنيين، حسبما قال أشخاص مطلعون على أوامر الأسلحة لصحيفة نيويورك تايمز.
وتسعى الشرطة الإسرائيلية إلى تعزيز ترسانة أسلحتها بعد أن تعهد المسؤولون بتزويد المدنيين الإسرائيليين بآلاف الأسلحة فيما لا يقل عن 1000 بلدة ومدينة، بما في ذلك المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة. ووقعت معظم عمليات القتل في الضفة خلال مواجهات مع الجيش الإسرائيلي، لكن بعضها وقع على أيدي مستوطنين مدنيين مسلحين.
وهذه الإجراءات ستؤدي إلى إنشاء ميليشيات مدنية تستهدف الفلسطينيين في الضفة، وفي السياق، أفاد تقرير نشرته صحيفة هآرتس أن 86 من بين 100 بلدة نسبة حاملي السلاح فيها مرتفعة، هي مستوطنات في الضفة الغربية. وأضافت الصحيفة أن هناك مستوطنات يبلغ عدد قطع السلاح المرخص فيها ثلث عدد السكان، غالبيتها مستوطنات في الضفة الغربية، وبناء على ذلك يكون ربع عدد المستوطنين في الضفة الغربية، أي نحو 100 ألف شخص، يحملون سلاحًا مرخصًا، وهذا رقم كبير للغاية.
بالبناء على كل ما تقدم، ليست هناك مبالغة فيما أشارت إليه تقارير الشاباك حول تحذيرات واشنطن والاتحاد الأوروبي من أن الأمور في الضفة الغربية قد وصلت إلى نقطة الغليان، ويعزى ذلك إلى أن هناك مجموعة من السياقات قد تدفع بالأمور إلى الانفلات وعلى رأسها ارتفاع أعداد الضحايا في الضفة منذ الشهر الماضي، فضلًا عن محاولات التهجير القسري للفلسطينيين وترويعهم من قبل استيطان مختل، خصوصًا أن هناك قسمًا كبيرًا من الفلسطينيين قد فقدوا الأمل في حل سياسي بعد مرور 75 عامًا على قضيتهم الأكثر عدلًا من أية قضية أخرى، وبالنسبة لهم فإن الحياة في ظل احتلال عسكري لا هوادة فيه لا تؤدي إلا إلى تأجيج المزيد من اليأس والتطرف.
وعلى الجانب الإسرائيلي، تبدو واشنطن الأكثر عقلانية وقد أعربت عن استشعارها للمشكلات التي تلوح في الأفق، حيث حثت إدارة بايدن إسرائيل على كبح جماح مستوطنيها المتطرفين. وقال الرئيس بايدن إن تصرفاتهم وتحريضهم “يصب البنزين” في وضع مضطرب بالفعل. وفي أحسن السيناريوهات للكيان المحتل فإنه حتى لو نجح في ترويض غزة من خلال إسكات بنادق وصواريخ حماس وهو أمر مستبعد مفاهيميًا فليس هناك ما يجعلنا نعتقد بأن تل أبيب ستكون قادرة على اللحاق بضبط الأوضاع في الضفة قبل الانفجار.
المصدر : https://marsad.ecss.com.eg/79826/