لم يكن الغزو الروسي لأوكرانيا مفاجئًا، لكنه مع ذلك تسبب بصدمة دولية على نطاق واسع، واستدعى في ساعاته الأولى قدرًا كبيرًا من الغضب الغربي، وأظهر تضامنًا قويًّا بين الولايات المتحدة وحليفاتها، وسعيًا غير مسبوق لجعل موسكو تدفع ثمن الغزو لسنوات مقبلة، فيما اعتبرت روسيا أن إجراءاتها كانت اضطرارية لمنع تهديد وجودي. ولا تبدو هذه الأزمة متعلقة بغزو تقليدي من قبل دولة كبيرة لجارتها الأصغر، بل صراعًا على طبيعة النظام الدولي، ونتائجه ربما تحدد شكل المستقبل واتجاهات القوى الكبرى فيه. وفيما تحقق القوات الروسية تقدمًا صعبًا على الأرض في أوكرانيا، فإن النتائج النهائية لهذا الغزو تبدو غامضة بشكل كبير، وليس هناك إشارات واضحة للتنبؤ بالطريقة التي يمكن أن ينتهي بها هذا الحدث الخطير.
إفلات الكبار من العقاب
من غير الواقعي اعتبار الغزو الروسي لأوكرانيا نمطًا عبثيًّا من العمليات العسكرية التي تشنها قوة كبرى ضد جارتها الأضعف، لأسباب مرحلية أو شخصية، كما أنه ليس من المقبول الركون إلى مواقف أي من طرفي الحرب أو الأطراف الغربية التي وقفت مع أوكرانيا وأعلنت حزمًا متتالية من العقوبات ضد موسكو.
كان الغزو مخالفًا للقانون الدولي ولميثاق الأمم المتحدة، وهو نفس التوصيف الذي أُطلق على حملات عسكرية شنَّتها قوى مختلفة من قبل، مثل الغزو السوفيتي لأفغانستان والغزو الأميركي لكل من أفغانستان والعراق والغزو العراقي للكويت…إلخ، لكن لم يُعرف أن انتهت مغامرات من هذا النوع لدول كبرى بعقوبات مدمرة أو بتحالف دولي لمساندة الدولة الضحية للغزو كما حصل في حالة تحرير الكويت مثلًا، وشكَّلت مثل هذه المفارقة جزءًا من مظاهر النظام الدولي الراهن؛ حيث غالبًا ما تفلت الدول الكبرى والقوية، لاسيما الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، من التداعيات القانونية الشرعية التي تتيح للمجتمع الدولي مواجهتها كقوة مارقة.
اعتمدت روسيا على هذا النمط السائد من انتقائية النظام الدولي في المقارنات الأخلاقية والقانونية، وفرص إفلات القوى الكبرى من العواقب، في غزوها لأوكرانيا، وهي مثل من سبقها في هذا السياق قدَّمت ذرائع مختلفة، واستخدمت نمطًا دعائيًّا متدرجًا في التعامل مع الأزمة، لتسويقها، وأبدت استعدادها لتحمل العواقب التي جاءت مشددة وربما قاسية وتمركزت على إجراءات اقتصادية غربية عقابية، لكن لم يبد أنها يمكن أن توقف الغزو أو تمنع نتائجه.
تركزت الذرائع الروسية في جملة شكاوى تمثلت خصوصًا في: محاولة انضمام أوكرانيا لحلف الناتو، وإقامة قواعد عسكرية أميركية في أوكرانيا تحت ستار الخبراء والمستشارين العسكريين، ونشر صواريخ أميركية قصيرة ومتوسطة المدى يمكن أن تصيب جميع أراضي الجزء الأوروبي من روسيا حتى جبال الأورال، وإعراب الحكومة الأوكرانية عن نيَّتها في الحصول على أسلحة نووية مستفيدة من الخبرة السابقة حينما كانت جزءًا من الاتحاد السوفيتي، وعداء الحكومة الأوكرانية لروسيا، وحرمان السكان ذوي الأصول الروسية في أوكرانيا من لغتهم وممارسة التمييز ضدهم. وتنفي أوكرانيا معظم الادعاءات الروسية.
وتدرَّج الموقف الروسي من التحشيد العسكري على حدود أوكرانيا وفي القرم تحت غطاء القيام بمناورات، مرورًا بتدريبات للقوات النووية مع بيلاروسيا، ثم الاعتراف بجمهورتي دونتسك ولوغانسك الانفصاليتين، ووصولًا إلى عملية الغزو.
كانت الذرائع الروسية من جانب واحد، ولم تخضع للتدقيق المستقل أو النقاش مع الحكومة الأوكرانية، لكن الرئيس بوتين ومساعديه قاموا بتسويقها كمسلَّمات مهدِّدة لوجود الدولة الروسية، وقد استخدموا سلوك كييف القريب من الغرب والمطالب فعلًا بعضوية حلف الناتو، والابتعاد عن روسيا، كأساس لتقديم حكومة الرئيس الأوكراني زيلينسكي بوصفها عدوًّا مهدِّدً و(دمية) للغرب، يمكن أن يجعل من أوكرانيا درعًا أميركية متقدمة ضد روسيا. ولم تكن مسوغات القادة الروس جديدة أو غير متوقعة، فهي في واقع الأمر جزء من هواجس روسية مستمرة وضاغطة بقوة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في مطلع التسعينات من القرن الماضي.
روسيا وعقدة الجغرافيا والنفوذ
في بدايات سنوات حكمه، وصف الرئيس بوتين انهيار الاتحاد السوفيتي، عام 1991، بأنه “أكبر كارثة جيوسياسية في القرن ومأساة للشعب الروسي”. وإذا ما تجاوزنا رؤيته للأثر الإنساني (المأساوي) المتمثل في تشتيت السكان ذوي العرق الروسي بين عدة دول مستقلة، فإن حديثه عن المشكلة الجيوسياسية لا يبدو بعيدًا عن الدقة.
لطالما اعتمدت الإمبراطورية الروسية عبر تاريخها على الجغرافية لحمايتها من الغزوات، ويدرك الروس جيدًا أن الأراضي السهلية الواسعة وشديدة البرودة غربًا منحتهم فرصًا جيدة للدفاع مكَّنتهم من الصمود والدفاع عن عاصمتهم التي لا يحميها أي حاجز طبيعي ضد حملات نابليون وهتلر، تمامًا كما كانت الأراضي الشاسعة والمتجمدة شرقًا قد منعت غزوات أخرى.
وحينما انتهت الحرب العالمية الثانية، عمد الاتحاد السوفيتي إلى السيطرة على أوروبا الشرقية وضمها إلى منطقة نفوذه ليعزز الجغرافيا كعمق استراتيجي جوهري يماثل المحيطات التي طالما حمت الولايات المتحدة من جانبيها، ووفرت لها فرص استقرار طويل. وفي الجنوب، وفرت السيطرة على القوقاز وجمهوريات آسيا الوسطى، مجالًا حيويًّا سياسيًّا واقتصاديًّا يمتد إلى حدود أفغانستان.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ظلت روسيا الدولة الأكبر مساحة في العالم (أكثر من 17 مليون كم2)، لكن دول أوروبا الشرقية التي طالما كانت منطقة نفوذ لموسكو وأعضاء في حلف وارسو، انضمت بالتوالي إلى حلف الناتو بدءًا من جمهورية التشيك والمجر وبولندا في عام 1999، ثم جمهوريات البلطيق الثلاث: ليتوانيا وأستونيا ولاتفيا، إضافة إلى سلوفينيا وسلوفاكيا وبلغاريا ورومانيا التي انضمت إلى الحلف عام 2004، قبل أن تنضم كل من البوسنة والجبل الأسود وصربيا إلى برنامج “الشراكة من أجل السلام” الذي يديره حلف الناتو، وهي الخطوة الأولى باتجاه العضوية الكاملة. ثم انضمت جمهورية الجبل الأسود عام 2017 ومقدونيا الشمالية عام 2020.
تسبَّب هذا التوسع شرقًا للناتو في استشعار موسكو بتهديد جدي، قال بوتين في خطابه عشية غزو أوكرانيا: إن توسع الناتو هو سبب أزمة الأمن في أوروبا، واتهم الحلف بالتنصل من تعهداته للاتحاد السوفيتي السابق بعدم التوسع شرقًا بعد توحيد ألمانيا، وهو كذلك انتهاك للوثيقة التأسيسية بين روسيا والناتو، في مايو/أيار 1997، وتضمن وضع قيود على انضمام دول البلطيق الثلاث وأوكرانيا للناتو، وقد فشلت موسكو في منع انضمام دول البلطيق للحلف، بسبب قدراتها المحدودة، عام 2004، لكنها قامت في عام 2014 بالتحرك العسكري في مواجهة إرادة ضم أوكرانيا للناتو عندما قامت بالسيطرة على شبه جزيرة القرم وضمها رسميًّا، استباقًا لأي تطورات يمكن أن تجعل هذه المنطقة الاستراتيجية تحت سيطرة قوات الناتو بعدما أطاحت ثورة شعبية بالحكومة القريبة من روسيا. ويعتبر ميناء سيفاستوبول في القرم القاعدة الرئيسية لأسطول البحر الأسود الروسي، كما أن موسكو طالما اعتبرت القرم جزءًا من أراضيها جرى إلحاقه خلال حقبة الاتحاد السوفيتي بالحدود الإدارية لأوكرانيا.
وتعتبر روسيا أن انضمام الجمهوريات السوفيتية السابقة المحاذية لها (جورجيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء) إلى حلف الناتو هو خط أحمر، سيمثِّل تخطيه تهديدًا وجوديًّا لها. وفيما لا تمثل روسيا البيضاء خطرًا محتملًا بسبب نظامها المؤيد بقوة لموسكو، فإن (الخطر) الذي كان محتملًا من جورجيا جرى تحييده بعدما سيطرت روسيا على إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية حينما تحركت قواتها عام 2008 لمواجهة تدخل عسكري حكومي ضد الانفصاليين الروس في الإقليمين، وبقيت أوكرانيا نقطة الضعف الأساسية الداهمة التي تعتبرها روسيا المنطقة الرخوة الأكثر خطرًا في الجدار الخارجي لأمنها القومي، لاسيما منذ عام 2014 حينما نشبت ما سميت (ثورة الميدان الأوروبي)، التي أطاحت بحكومة الرئيس المنتخب، فيكتور ياناكوفيتش، القريب من روسيا، وتشكلت منذ ذلك الحين حكومات مؤيدة للعلاقة مع أوربا وحلف الناتو.
الجدار الأخير
كانت العلاقة بين روسيا وأوكرانيا معقدة منذ استقلال الأخيرة عن الاتحاد السوفيتي في أواسط عام 1990، فهي وإن تواصلت بشكل قوي وتفصيلي، إلا أنها ما لبثت أن بدأت بالتدهور منذ الثورة البرتقالية في أوكرانيا عام 2004، وهو التاريخ الذي بدأت فيه موسكو بمواجهة المتاعب مع شقيقتها السابقة؛ حيث بدأت تزداد مشاعر العداء الشعبية لموسكو والمؤيدة لأوروبا، وهو ما كان يمكن التعامل معه بشكل نسبي مع بقاء قوة الدوائر المؤيدة لروسيا في أجهزة الدولة، لكن الأمر أصبح تقريبًا خارج السيطرة منذ العام 2014.
أوكرانيا بلد كبير، وكان من أهم الجمهوريات السوفيتية السابقة، وخرجت منه نخب سياسية وفكرية وعلمية بارزة في التاريخ السوفيتي، كما أنه كان يضم جزءًا جوهريًّا من مصانع الأسلحة السوفيتية، وما زال يمتلك بنية تحتية وبشرية مهمة في هذه الصناعة، فضلًا عن خبراته في الصناعات النووية؛ حيث كانت أوكرانيا ضمن أربع جمهوريات في الاتحاد السوفيتي السابق تستخدم أراضيها لتخزين الأسلحة النووية، إلى جانب روسيا البيضاء وكازاخستان فضلًا عن روسيا، وقد جرى نزع الأسلحة النووية من الدول الثلاث الأولى بعد استقلالها عن الاتحاد السوفيتي، وكانت أوكرانيا آخرها، وظلت لسنوات تحتفظ بنحو 5000 رأس نووي مع صواريخها الناقلة ومكامنها تحت الأرض حتى تخلصت منها في عام 1994 وفق اتفاق عُقد في بودابست بمشاركة أميركية وبريطانية وروسية وإيرلندية يتعهد باحترام السلامة الإقليمية وحدود أوكرانيا.
ورغم أن الأيديولوجيا الشيوعية كانت السبب المباشر للاندماج تحت سلطة الاتحاد السوفيتي، إلا أن المجتمع الأوكراني ظل يختزن فكرة الوطنية المرتبطة بعراقة هذا الدولة، وإرثها الحضاري الذي يسبق الحضارة الروسية، رغم أن العلاقة بينهما تداخلت خلال مراحل مختلفة من التاريخ. وتعتبر مناطق شمال أوكرانيا وروسيا البيضاء الموطن الأول للحضارة السلافية قبل الانتقال إلى المكان الذي يشكِّل موسكو الحالية. وقد تكونت دولة في كييف خلال القرون الوسطى، وبرزت دولة في أوكرانيا في منتصف القرن الثامن عشر، قبل أن تتوزع أراضي أوكرانيا بين إمبراطوريتي النمسا وروسيا. تسبب انهيار الإمبراطوريات بعد الحرب العالمية الأولى بحروب أهلية، ثم جاءت سيطرة البلاشفة عليها عام 1922 لتكون جمهورية مؤسِّسة للاتحاد السوفيتي.
يعتقد الرئيس بوتين، كما قال في خطابه الطويل عشية الغزو، أن “أوكرانيا لم يكن لديها في الواقع تقليد ثابت للدولة الحقيقية”، وأنها “تُحكم تحت وطأة سيطرة أجنبية”، وأنها محكومة من “القوميين الراديكاليين والنازيين الجدد”، كما تحدث باستفاضة عن أن جزءًا مهمًّا من الأراضي التي تُشكِّل أوكرانيا الحالية أُلحقت بها من قبل الزعماء السوفيت تحت ظروف مختلفة بعدما كانت تابعة تاريخيًّا لروسيا.
ولا يؤثر نمط العلاقة المعقد بين البلدين، وتصاعد موجات الرفض للتقارب مع موسكو، على الإدراك الروسي لأن أوكرانيا هي آخر خطوط الدفاع عن السهل الروسي، بحدود لهذا البلد مع روسيا يبلغ طولها نحو 1200 كيلومتر، ومسافة قصيرة جدًّا عن موسكو تبلغ نحو 300 كيلومتر فقط، هي عبارة عن أراض سهلية ليس فيها موانع طبيعية قاسية، ومثل هذا الوضع يعتبر وضعًا كارثيًّا للأمن القومي الروسي.
ومشكلة روسيا، أنها واجهت في أوكرانيا أوضاعًا سياسية متصلة من التمرد السياسي والنوازع الشعبية المؤيدة للتحالف مع الغرب، والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وقد وصل الأمر حدَّ تضمين هذه الهواجس في تعديلات دستورية أُجريت عام 2019 ونصَّت على اعتبار العضوية الكاملة في الناتو مسارًا استراتيجيًّا للدولة.
ويمثل المواطنون المنحدرون من القومية الأوكرانية أكثر من ثلاثة أرباع عدد السكان البالغ نحو 42 مليون نسمة، فيما يمثل ذوو الأصل الروسي نحو 17 بالمئة منهم، وقد تم إلغاء اللغة الروسية كلغة ثانية في البلاد، وهو ما اعتبرته روسيا جزءًا من المواقف العنصرية. وقد فرض انحياز غالبية السكان الأوكرانيين لأوروبا، ولاسيما منذ عام 2014، تحديات حقيقية أمام موسكو لاحتمال خسارة أوكرانيا تمامًا من منطقة النفوذ الروسي وتحولها من خط دفاع أخير إلى خط هجوم أول للناتو.
خيار الغزو
جرى الغزو العسكري لأوكرانيا صبيحة الرابع والعشرين من فبراير/شباط 2014 بعد أسابيع من تبادل الاتهامات والوساطات الدولية الفاشلة وسط تحشيدات عسكرية روسية كبيرة على حدود أوكرانيا، وفي داخل بيلاروسيا.
لم تكن هذه الحشود مفاجئة أو حتى قريبة العهد، ففي مارس/آذار وأبريل/نيسان 2021، كانت موسكو حشدت عشرات الآلاف من قواتها على الحدود مع أوكرانيا بذريعة القيام بمناورات، قبل أن تسحب جزءًا منها لاحقًا، ثم عادت في أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام لحشد القوات بشكل أكبر هذه المرة، انتهى بغزو أوكرانيا.
منذ بداية الحشد خريف العام الماضي كان واضحًا أن الهدف هو تحقيق أقصى ضغط ممكن من أجل ثني أوكرانيا عن الانضمام لحلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي، وقد تدخلت قوى غربية عديدة منها الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا في محاولة حل الأزمة وإيجاد مخرج دبلوماسي لها.
من غير المعروف طبيعة المناقشات التي دارت خلال هذه الوساطات أو جديتها، لكن موسكو قدمت، في أواسط ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، مسودة مقترحات سميت بالضمانات الأمنية التي تطالب بها حلف الناتو، وكانت بنودها -حسب المسودة التي نشرتها وزارة الخارجية الروسية- تتعلق بتنظيم العلاقات مع الولايات المتحدة وحلف الناتو، وتضمنت فقرات تطالب بتعهد الحلف بمنع “تمدده شرقًا وعدم انضمام دول من الجمهوريات السابقة للاتحاد السوفيتي إلى الحلف، بالإضافة إلى عدم إنشاء قواعد عسكرية في الجمهوريات السوفيتية السابقة غير المنتمية إلى الناتو”. وكذلك الالتزام بعدم نشر الصواريخ الأميركية الجديدة متوسطة وقصيرة المدى في أوروبا، والحد من الأنشطة العسكرية في أوروبا واستبعاد زيادة ما يسمى بمجموعات قوات المرابطة الأمامية.
في 21 يناير/كانون الثاني، قال وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، عقب محادثات في جنيف مع نظيره الروسي، سيرغي لافروف: إن واشنطن ستسلِّم ردَّها على المقترحات الأمنية بشكل خطي قريبًا لكنه شدَّد على رفض بلاده أي مطالب بشأن “سياسة الأبواب المفتوحة للناتو”. وقد تسلَّمت موسكو الرد بعد ذلك بأيام ولم يكن مرضيًا لها.
عادت موسكو، في السابع عشر من فبراير/شباط، لتقدم للولايات المتحدة وثيقة تقول: إن الجانب الأميركي لم يقدم ردًّا بنَّاء على المكونات الأساسية لمشروع الاتفاق مع الولايات المتحدة، الذي أعده الطرف الروسي، بشأن الضمانات الأمنية.
وأوضحت وزارة الخارجية: “يدور الحديث عن التخلي عن استمرار توسع الناتو، وسحب ما يسمى بصيغة بوخارست، التي تقول: إن أوكرانيا وجورجيا ستصبحان عضوين في الناتو، وعدم إنشاء قواعد عسكرية في أراضي الدول التي كانت تدخل سابقًا ضمن الاتحاد السوفيتي… هذه البنود لها أهمية أساسية بالنسبة إلى الاتحاد الروسي”. واعتبرت أن الغرب يتجاهل “الخطوط الحمراء” لروسيا ومصالحها الجذرية في مجال الأمن، وأكدت أنها “في ظروف عدم استعداد الولايات المتحدة وحلفائها للتفاوض من أجل الاتفاق حول ضمانات صارمة وملزمة قانونيًّا لأمننا، مجبرة على الرد، بما في ذلك عن طريق اتخاذ إجراءات ذات طابع عسكري تقني”.
وسط هذا المناخ المضطرب كان حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة يعزِّز من إجراءاته في دوله الأعضاء شرقي أوروبا، ويزيد من تأييده لأوكرانيا بالدعم العسكري والسياسي والاقتصادي، وتأكيد حقها بالانضمام له. كما كان يلوِّح في ذروة الأزمة بعقوبات “غير مسبوقة” على روسيا في حال غزوها أوكرانيا. لم يبد أن الغرب مهتم بالهواجس الأمنية الروسية، أو التعامل معها بجدية، وربما بدا العكس من ذلك تمامًا.
في واقع الأمر، مثَّلت الأسابيع والأيام التي سبقت دخول الدبابات الروسية الأراضي الأوكرانية نمطًا من صراع قوة بين روسيا والولايات المتحدة ودول الناتو، أكثر من كونه صراعًا مع أوكرانيا، وكانت المرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة التي بدا أن أزمة بين هذه الأطراف تخلو من حل وسط، أو مخرج سياسي يستوعب أزمة أعمق. لا يمكن الجزم بأسباب هذا التشدد، واستمرار الأطراف في المضي نحو ذروة الأزمة، لكن كان هذا الفشل السياسي سببًا مباشرًا في الوصول إلى هذا المستوى من الصراع.
سيناريو الغزو وتحدياته
شمل سيناريو الغزو اعتراف الرئيس بوتين بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك الانفصاليين وعقد (اتفاقية صداقة) معهما، ثم الإعلان عن إرسال قوات (حفظ سلام) روسية إلى المنطقتين، قبل أن يتحول الأمر سريعًا إلى مواجهات مع القوات الأوكرانية، وفتح الطريق أمام هجوم شامل من عدة محاور.
حدَّدت موسكو أهدافها من (العملية العسكرية الخاصة) في أوكرانيا بحماية إقليم دونباس الذي يضم الجمهوريتين الانفصاليتين “ونزع السلاح الأوكراني لإزالة التهديدات الصادرة من الأراضي الأوكرانية لأمن روسيا”. لكن الهجمات مضت إلى أبعد من ذلك وشملت هجومًا واسعًا على العاصمة كييف، ومناطق أخرى في منطقة أوديسا على البحر الأسود وماريوبول على بحر آزوف، وفي اليوم الثالث من الحرب قالت وزارة الدفاع الروسية إنها أمرت بتوسيع زحف القوات على مختلف الجبهات.
من خارطة الهجمات تبدو الأهداف الأساسية لروسيا في السيطرة على مدينة ماريبول الساحلية في الجنوب الشرقي وخاركيف في الشمال الشرقي وإنشاء خط عمودي يربط بين المدينتين ويعزل إقليم دونباس بالكامل عن بقية أنحاء أوكرانيا، فضلًا عن الأهمية الاستراتيجية لخاركيف وهي ثاني أكبر مدن أوكرانيا ومركزها الصناعي، وفي غضون ذلك تستمر معارك شديدة في جمهوريتي الإقليم؛ حيث كانت القوات الأوكرانية تسيطر منذ 2014 على نحو ثلثي المساحة الإدارية للجمهوريتين الانفصاليتين ويسعى الانفصاليون للسيطرة على هذه المناطق من القوات الأوكرانية. والهدف الرئيسي الثاني للقوات الروسية هو العاصمة كييف، حيث تدور معارك صعبة لتطويق المدينة التي احتشد الجيش الأوكراني للدفاع عنها. ويبدو أن الهدف الثالث هو المنطقة المحيطة بشبه جزيرة القرم، شمالًا نحو خيرسون، وغربًا نحو مدينة أوديسا وهي الميناء المهم على البحر الأسود، وفي حال السيطرة على أوديسا وقبلها ماريوبول، فسيجري عزل أوكرانيا بالكامل عن أية واجهة بحرية سواء في البحر الأسود أو بحر آزوف. ولا تبدو القوات الروسية مهتمة بمدن أواسط وغرب أوكرانيا.
يمكن تتبع متغيرات سريعة خلال أول يومين من الغزو، حيث بدا أن القيادة الأوكرانية استشعرت تخليًا من الغرب، في غمرة نجاحات سريعة للقوات الروسية، فصدرت تصريحات حادة من الرئيس زيلينسكي، ونقلت وسائل الإعلام مشاعر إحباط من خذلان الغرب في الشارع الأوكراني، وفي هذه النقطة عرض زيلينسكي أن تكون بلاده دولة محايدة، وهو ما يحقق جزءًا أساسيًّا من مطالب موسكو، فعرضت موسكو بالمقابل مباحثات فورية في روسيا البيضاء مع أوكرانيا، وهو ما واجهته واشنطن بتشكيك فوري، قبل أن تتغير نبرة كييف، وتتعزز المقاومة بشكل ملحوظ وتبدأ الولايات المتحدة ودول أوروبا بالإعلان عن إرسال (أسلحة فتاكة) لمساعدة القوات الأوكرانية.
عند هذا الحد انتهت فرصة مباحثات وجدت فيها موسكو فرصة تجنِّبها خوض حرب مكلفة، ونظر إليها الغرب بوصفها مفاوضات استسلام لأوكرانيا، تختلف تمامًا عن الرؤية الغربية تجاه هذه الأزمة بشكل عام. لم تدم هذه الحالة سوى ساعات، ليعود الخيار العسكري هو السبيل الوحيد لتحديد أجندة المفاوضات المحتملة ونتائجها. لكن مع ذلك، ما زالت هناك اتصالات تدور لترتيب مباحثات تضمن وقف المعارك، غير أن أيًّا منها لا يبدو أنها تقوم على أساس واقعي وصلب.
يبدو أن أوكرانيا وداعميها الغربيين يعتمدون على عنصر الوقت وشراسة المقاومة لزيادة تكاليف الغزو من الناحية العسكرية والسياسية والاقتصادية والنفسية، وفيما تُبدي القوات الأوكرانية قدرة جيدة على المقاومة، يقوم الغرب بتصعيد سريع لمواقفه، سواء بفرض عقوبات متتالية على روسيا وعزلها دوليًّا، أو بدعم أوكرانيا بأسلحة نوعية يمكن أن تكبِّد القوات الروسية خسائر جسيمة ومؤثرة على صورة روسيا وسلاحها في العالم وشعبية الرئيس بوتين الداخلية، فضلًا عن شنِّ حملات نفسية تشارك فيها حتى المنظمات غير السياسية، مثل المنظمات الدولية بما فيها الرياضية، والمنصات الاجتماعية الكبيرة، مثل فيس بوك وتويتر، فضلًا عن حملات الإغراق الإعلامي التي لم تنقطع منذ أسابيع، فضلًا عن إظهار وحدة الغرب بشكل غير مسبوق في مواجهة روسيا.
اتجاهات الضغوط الغربية
هذه الحملة العسكرية الروسية هي نتيجة مباشرة لنزاع دولي على النفوذ والسيطرة بين الغرب متمثلًا بالولايات المتحدة وبين الدول الصاعدة بقوة نحو موقع القوة العالمية، وهي كل من روسيا والصين، ولا يمكن تصور النتائج المترتبة على هذا التصعيد في النزاع قبل مراقبة نتائج الحملة العسكرية الحالية، وكيفية استثمار كل من روسيا وخصومها الغربيين للتطورات الحاصلة في الميدان أو على الصعيد الدولي.
على الصعيد السياسي، بذلت الولايات المتحدة جهدًا كبيرًا لتوحيد العالم الغربي ضد روسيا ومحاولة عزلها دوليًّا، وقد هيَّأت هذه الأزمة لواشنطن أن تحقق عودة قوية لقيادة الغرب وحلف الناتو بعد سنوات من عدم اليقين بشأن هذا الحلف ورغبة الولايات المتحدة بالاستمرار في تأدية دورها القيادي فيه. وكان واضحًا أن الوحدة الغربية كان لها دور جوهري في تعميق التحدي المفروض على موسكو، لاسيما مع التشدد الذي أبدته ألمانيا التي بدأت بانتاج سياسات أكثر قربًا من واشنطن وابتعادًا عن موسكو مذ تسلم المستشار الحالي، أولف شولتس، مهامه قبل نهاية العام الماضي.
كما أن تصويت مجلس الأمن، يوم 25 فبراير/شباط، قد شهد تأييد 11 دولة من أصل 15 لقرار يستنكر الغزو الروسي، فيما امتنعت ثلاث عن التصويت، ولم يعارضه غير روسيا التي استخدمت حق الفيتو. وقد ارتبط هذا السعي السياسي لعزل روسيا بحملات دعائية وسياسية ونفسية واسعة ومنظمة، ويبدو أن الغرب نجح حتى الآن في تحشيد الرأي العام في مناطق كثيرة في العالم ضد روسيا، وربما حقق تقدمًا لافتًا ومتوقعًا في معركة الدعاية والعلاقات العامة، وهو يسعى بشكل حثيث لتحويل روسيا إلى (دولة مارقة)، ولن يكون مستغربًا أن تكون المظاهرات التي خرجت في مدن روسية ضد الغزو قد تأثرت بالدعاية الغربية بشكل أو بآخر.
وعلى الصعيد الاقتصادي، صدرت حزم متصلة من العقوبات الاقتصادية شملت تجميد أرصدة البنك المركزي الروسي، وفصل البنوك الروسية أو بعضها عن نظام التحويلات المالية (سويفت)، وعقوبات الرئيس بوتين ووزيريه للخارجية والدفاع، وبذلت الولايات المتحدة ودول أوروبية جهودًا كبيرة لتوفير بدائل عن الغاز الروسي المصدَّر لأوروبا والذي يمثل نحو 40 بالمئة من احتياجات القارة العجوز، وذلك لحرمان روسيا من واردات ضخمة.
وفي هذا السياق، قررت ألمانيا تعليق إجراءات منح الموافقة على أنبوب الغاز، نورد ستريم 2 الروسي، الذي اكتمل مؤخرًا بكلفة نحو 11 مليار دولار ولم يبدأ بضخ الغاز بعد، وظلت الولايات المتحدة تعارض إنشاءه منذ البداية وتعتبره سلاحًا جيوستراتيجيًّا ينبغي حرمان روسيا منه لمنعها من السيطرة على أوروبا من خلال صادرات الطاقة. وتؤكد روسيا أنها استعدت لهذه العقوبات ولن تتأثر بها، لكن الدوائر الدولية المعنية تؤكد أن العقوبات غير مسبوقة وستعزل النظام المالي الروسي، وتسبب خسائر اقتصادية فادحة على المدى المتوسط أو البعيد.
ومنذ أول يوم للغزو هبط الروبل الروسي وسوق الأسهم بشكل كبير، فيما حافظت الدورة الاقتصادية على استقرارها بشكل عام، ولا يعرف المدى الذي يمكن أن تستمر فيه بذلك.
وتعتبر روسيا دولة صاعدة اقتصاديًّا، من بين أكبر 20 اقتصادًا في العالم، بناتج محلي إجمالي بلغ نحو 1.7 تريليون دولار في عام 2021، وتشكِّل صادرات الطاقة الضخمة أبرز عناصر دخلها، فهي أكبر مصدِّر للغاز في العالم، وثاني أكبر منتج للنفط، وأكبر مصدر للقمح بنسبة تتجاوز 17 بالمئة من مجمل التجارة العالمية من هذا المحصول الزراعي الاستراتيجي، فضلًا عن موقعها المهم في إنتاج وصادرات معادن مهمة أخرى، وباحتياطي ضخم من العملات الصعبة والذهب بلغ مع نهاية العام الماضي 630 مليار دولار. كانت روسيا بدأت بتعزيز عمليات توفير الأموال في صندوقها السيادي منذ عام 2014 بعدما تعرضت لعقوبات اقتصادية على خلفية اجتياحها وضمها للقرم، كي تتمكن من مواجهة أية عقوبات أخرى محتملة، ويمكن لروسيا الاستغناء عن التعامل اقتصاديًّا مع الغرب، بسبب اكتفائها النسبي، وذلك يمكن أن يجنِّبها الآثار الفورية للعقوبات، لكنه قد يسبب لها خسائر ملحوظة في موقعها ضمن دورة الاقتصاد العالمي على المديين المتوسط والبعيد.
النهايات المحتملة
ستحدد نتائج المعارك على الأرض في أوكرانيا شكل التسويات المقبلة والنهايات المحتملة لهذه الأزمة الكبيرة. فأجندة المفاوضات المتوقعة التي تلي أية حرب وأوراق القوة للأطراف المتفاوضة تحدده المكاسب أو الخسائر على الأرض، وهكذا فتحقيق روسيا لنصر حاسم وسريع يمكن أن يحقق لها الكثير من أهدافها الاستراتيجية حتى لو رفض الغرب الاعتراف بذلك أو حاول إحباطه، لكن في حال طالت الحرب، ودفعت روسيا تكاليف عالية، فإنها قد تواجه مأزقًا استراتيجيًّا أكثر تعقيدًا مما سعت أصلًا إلى معالجته بعملية الغزو.
وقد تبدَّى من سياق سلوك الولايات المتحدة خلال هذه الأزمة أن هدفها قد يكون حصر روسيا في موقع دولة إقليمية كبيرة لا أكثر، وتقليص قدرتها المستقبلية على الصعود العسكري والاقتصادي الذي تعتقد الأوساط الغربية أن الرئيس بوتين يسعى له، لاستعادة موقع الدولة العظمى. وليس من المعروف قدرة أي من الطرفين على تحقيق هدفه قبل حسم نتائج هذه الأزمة بسياقاتها العسكرية والاقتصادية والسياسية.
ورغم أن روسيا تبدو أكثر ضعفًا اليوم في الحركة السياسية الدولية، وفي تسويق رؤيتها للصراع وشكاواها من الغرب، إلا أنها ما زالت تمسك بزمام المبادرة في ميدان المعركة مستفيدة من فارق القوة الكبير مع القوات الأوكرانية، لكن ذلك قد لا يستمر إلى النهاية، فيمكن للأوكرانيين تنظيم مقاومة نشطة ومؤثِّرة بمساعدة من الغرب، وباستخدام الأراضي البولندية والغرب الأوكراني كنقطة إمداد وتدريب لاستزاف الجيش الروسي أو النظام السياسي الذي يمكن أن ينصِّبه في حال سيطرته على البلاد وإسقاط حكومة زيلينسكي، وقد تعرض الجيش السوفيتي في التسعينات والقوات الأميركية بعد العام 2001 إلى مقاومة شرسة في أفغانستان، تسببت باستنزاف كبير لهما، وكذلك حصل الأمر ذاته للقوات الأميركية في العراق.
ويمكن وضع دعوة السلطات الأوكرانية لمشاركة (متطوعين) من أنحاء العالم ضمن تحقيق هذا الهدف، ليس لأن هذه الدعوة ستشجع رافضين للغزو للقتال ضد الروس، بل لأنها تبدو مجدر غطاء لاستقدام جنود غربيين مدربين على أسلحة نوعية لمساعدة القوات الأوكرانية كمتطوعين أجانب، وربما سيبقون حتى لو استولت روسيا على أوكرانيا، لينظموا فرق للمقاومة.
في كل الأحوال، هذه الأزمة ليست متعلقة بغزو تقليدي من قبل دولة كبيرة لجارتها الأصغر، فهو صراع على طبيعة النظام الدولي، ونتائج الحملة العسكرية الروسية ربما تحدد شكل المستقبل واتجاهات القوى الكبرى فيه.
.
رابط المصدر:
https://studies.aljazeera.net/ar/article/5301