على الرغم من أنه لا حديث الآن حول الأزمة السودانية يعلو فوق الضرورة المُلحة لإيقاف رحى الحرب الدائرة هناك، والتي خلفت ويلات ومآسي إنسانية يصعب على العقل البشري تصورها وإدراكها، فإنه من المُسلّم به أن تلك الحرب ما هي إلا حلقة في سلسلة من الأزمات الطاحنة التي عصفت بالسودان منذ استقلاله، ولعل هذا يدفعنا للتعرض إلى الأسباب الحقيقية لتلك الأزمات العاصفة التي دائمًا ما هددت وحدة وتماسك السودان وسلامته الإقليمية واستقراره الداخلي على مدار العقود الماضية، فالسودان بجانب أنه مثل نموذجًا حيًا لما يُطلق عليه في أدبيات فقه التنمية الأفريقي “لعنة الموارد الطبيعية” بجانب مساحته الجغرافية العملاقة وموقعه الفريد الذي جعل منه نقطة تماس إقليمية شديدة الأهمية خلقت مطامع فيه، وجعلته فريسة لتكالب خارجي بحثًا عن المواد الطبيعية المهولة، بالإضافة إلى التحكم في موقع جغرافي يُعضد نفوذ القوى الإقليمية والعالمية الطامعة في تلك المُقدرات السودانية، فإن كل تلك العوامل مع أهميتها أن تُصبح ثانوية أمام الاختبار الحقيقي الذي فشلت فيه كافة النخب السودانية التي حكمت السودان منذ استقلاله باختلاف توجهاتها، ألا وهو الفشل في صياغة مشروع وطني حاكم يؤسس للدولة السودانية الحديثة؛ مما أوجد خللًا بنيويًا تمثل في غياب نموذج الدولة الوطنية العابرة لكل الاختلافات العرقية والثقافية والمناطقية، وهو ما أدخل السودان في دوامة من الانفجارات والصراعات الداخلية المزمنة منذ استقلاله؛ مما حرم العالمين العربي والأفريقي من السودان كعمق استراتيجي مهم لهما.
منذ استقلال السودان أسهمت عوامل عدة في إخفاق الحكومات والنخب السودانية في صياغة مشروع وطني سوداني يؤسس للدولة الوطنية، ويمكن إيجاز هذه العوامل في ثلاثة عوامل رئيسية على النحو التالي:
أولًا- استئثار المركز النيلي بمُقدرات السلطة والثروة:
منذ نيله الاستقلال تصدرت مُعضلة الهامش والمركز الأدبيات السياسية التي تناولت الوضع السوداني الداخلي، باعتبارها تتحمل النصيب الأكبر من الأزمات العاصفة التي ضربت السودان، فقد عمد المركز الحاكم في الوسط النيلي إلى انتهاج الممارسات الاحتكارية والإقصائية الموروثة من العهد الاستعماري البريطاني، وتزامن هذا مع الغياب التام للإرادة السياسية من النخب السودانية الحاكمة في صياغة أطر عادلة لكيفية تقاسم السلطة والثروة بين المركز والأطراف، وهو ما أدخل السودان في أتون حروب أهلية ناجمة عن تمردات في تلك الأطراف، مثل الحرب بين الشمال والجنوب والتي أسفرت عن انفصال الجنوب، وكذا الأزمة في إقليم دارفور، والأزمات في الشرق، وكلها أزمات تشترك في أنها ناجمة عن تهميش مُمنهج من المركز للأطراف سواء في الحق في الحصول على نصيب عادل من الثروات التي يزخر بها السودان لإحداث تنمية شاملة بتلك الأقاليم، أو المشاركة العادلة في هياكل السلطة؛ مما أفضى إلى تفاقم التشوهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحدوث مفارقات وفجوات تنموية سحيقة داخل الدولة السودانية.
وبدلًا عن قيام المركز بمعالجة جذرية لتلك التشوهات عبر وضع صيغ عادلة ومُستدامة لاقتسام السلطة والثروة، تكفل شيوع التنمية العادلة والشاملة في ربوع السودان من خلال إرساء مبدأ قومية الثروات، قام بمعالجات ظاهرية وشكلية ترتكز على استقطاب عناصر من الأطراف يدينون بالولاء له، وتعيينهم في هياكل السلطة، تحت مُسمى إعادة هيكلة مؤسسات الدولة، في حين أن الأمر لم يتغير على الأرض في تلك الأقاليم، سواء بحدوث تنمية شاملة، أو عبر انخراط عادل في مؤسسات الدولة السودانية، كل هذه المعالجات الخاطئة تسببت في احتقان شديد في تلك الأقاليم أفرز بيئة مواتية لظهور حركات التمرد والجماعات المُسلحة، والتي وضعت على أجندتها تحقيق الاقتسام العادل للسلطة والثروة، مع بروز نزعات انفصالية لتلك الجماعات، فأخطأ المركز مرة أخرى باستخدام العنف ضد هذه الحركات بدلًا عن استيعاب الأزمة الحقيقية، وإمعانًا في الحلول العسكرية والأمنية غير الحاسمة بطبيعة الحال، وقعت بعض الحكومات السودانية في خطيئة أخرى عبر الاستعانة بمليشيات موالية وموازية لمؤسسات الدولة العسكرية والأمنية لخمد هذه التمردات، فكان ذلك هدمًا لآخر لبنة في الدولة السودانية، بتخليها عن مبدأ مهم من المبادئ الحاكمة والمؤسسة للدول الوطنية وهو احتكار السلطة الحاكمة للعنف، وهو ما فاقم الأزمة والتي وصلت إلى ذروتها بتحول تلك المليشيات الحليفة في السابق إلى مواجهة الدولة والقوات المسلحة السودانية حاليًا.
ثانيًا- أزمة تشكيل الهوية الوطنية السودانية الجامعة:
يحظى السودان بتنوع وتعدد عرقي وثقافي ولغوي فريد من نوعه، حيث أشار التعداد السكاني الأول عام استقلال السودان إلى وجود 59 إثنية تنقسم بدورها إلى 597 جماعة فردية، إلا أن هذا التعدد لم يكن موطن قوة وإثراء للهوية الوطنية في السودان كما هو مُفترض، بل فشلت النخب الحاكمة السودانية فشلًا ذريعًا منذ استقلال السودان أمام اختبار إدارة هذا التنوع والتعدد، والذي كان بمثابة قنبلة موقوتة انفجرت في وجه الحكومات السودانية المتعاقبة؛ مما أوجد أزمة هوية داخل المجتمع، والتي أصبحت من أبرز معاول هدم الداخل السوداني، ومصدرًا للعديد من الأزمات الطاحنة التي عصفت باستقرار السودان وأمنه ووحدته، فبالإضافة إلى الفشل في إدارة هذا التنوع، مارس المركز الحاكم في السودان سياسات الاستعلاء العرقي والثقافي ضد الأطراف؛ مما أدى إلى اندلاع صراع هوياتي وثقافي انضم للصراع القائم على تقاسم السلطة والثروة، وهو ما فاقم من أزمات السودان المُلحة، وأصبح حجر زاوية في معضلات السودان التي عانى منها منذ استقلاله حتى يومنا هذا، حيث افتقرت النخبة السودانية إلى الإرادة السياسية والوعي الكافي لإدراك أن أولى خُطوات صياغة وتدشين المشروع الوطني لأي دولة هو التوحد القومي خلف هوية وطنية قائمة على حوكمة إدارة التنوع والتعدد الثقافي والعرقي، بحيث لا تستبعد أي مكون منهم، بل توظف ذلك التنوع والتعدد بأشكاله الثقافية والعرقية ليصب في صالح الأمة بأكملها، فيكون ذلك عاملًا أساسيًا من عوامل قوتها وقدرتها الشاملة.
ثالثًا- التركة الاستعمارية والتكالب الخارجي على السودان:
مثل السودان نموذجًا مُصغرًا، وتجسيدًا حيًا للأزمات التي خلفها الاستعمار في القارة الأفريقية، فمنذ أن ضمه محمد علي، اتجهت أنظار القوى الاستعمارية إلى السودان، طمعًا في مقوماته ومُقدراته؛ الموقع الجغرافي المُميز، الثروات الطبيعية الهائلة. وقد حُسم هذا الصراع الاستعماري على السودان لصالح الامبراطورية البريطانية، والتي فكرت في كيفية الاستفادة من هذا التنوع والتعدد العرقي والثقافي في بسط سيطرتها على كامل الإقليم السوداني، فبدأت تمارس سياسات من شأنها تكريس النزعات الإثنية والعرقية والثقافية في أرجاء السودان، وتغذية مشاعر الاختلاف والانفصال بين كافة أقاليم السودان، فعلى سبيل المثال كانت للسياسات البريطانية الاستعمارية أثر كبير في تعميق الانقسام بين شمال السودان وجنوبه، فعمدت إلى تكريس تخلف الجنوب وتعميق الفجوة الحضارية بينه وبين الشمال، عبر انتهاج سياسة المناطق المقفولة، والتي منعت الاحتكاك والانصهار بين شمال وجنوب السودان، وتعميق الفجوة الثقافية والإثنية بينهما، فكان نتيجة ذلك فيما بعد الحرب الأهلية بين شمال وجنوب السودان، والتي انتهت بانفصال الأخير وانسلاخه من جسد الدولة السودانية، ومنذ استقلال السودان، ظلت تداعيات التركة الاستعمارية تُلقي بظلال سلبية على الداخل السوداني، ودون أدنى محاولة من النخب السودانية الحاكمة لإصلاح هذه الأوضاع المُشوهة، والتي حالت دون إحداث الاندماج القومي السوداني المنشود، حيث حصرت تلك النخب الأمر في تغييرات ظاهرية، كرستها لخدمة أغراضها الحزبية والسياسية فقط.
إجمالًا، ومن خلال التشخيص السابق للجذور والأسباب التي حالت دون صياغة وتدشين مشروع وطني سوداني، يؤسس لدولة سودانية مدنية حديثة، يتضح الأثر الكارثي لغياب مثل ذلك المشروع الوطني، والذي يُعد الصراع الدائر حاليًا هناك أحد أبرز تداعياته ونتائجه، وليس الصراع الحالي فحسب، بل كافة الصراعات التي مزقت السودان وأهدرت مُقدراته، فالسودان الآن أمام مُفترق طرق، يفرض على نخبه السياسية باختلاف توجهاتها أن تجتمع على كلمة سواء، وأن تتخلص من انتماءاتها وتوجهاتها ومصالحها الضيقة لصالح وقف هذه الحرب الكارثية -التي يكفل استمرارها نهاية وشيكة لدولة السودان- وأن تلتقي الإرادة السودانية القومية على وضع أسس راسخة لدستور وطني يكون بمثابة قاعدة أساسية لتشكيل هوية وطنية سودانية عابرة للاختلافات الثقافية والعرقية والجهوية، ويُنظم العلاقة بين مركز السودان وأطرافه، بما يقضي على الفجوات التنموية بينهما، ويُحقق التنمية الشاملة العادلة في كافة ربوع السودان، ويعيد بناء مؤسساته على أسس قومية فقط، فضلًا عن إعلاء قيم المواطنة في إطار قومي شامل يضع السودان في مكانته المُستحقة والمُنتظرة كعنصر دعم وإسناد لمحيطه العربي والأفريقي.
المصدر : https://ecss.com.eg/46959/