قد يكون للأزمة العسكرية المحلية في روسيا عواقب وخيمة على عملياتها في المنطقة، بدءً من تصعيد مخاطر الاشتباكات مع القوات الأمريكية في سوريا إلى توضيح الحقائق عن أنشطتها المزعزعة للاستقرار في ليبيا.
بينما بدأت الأمور تهدأ في أعقاب المواجهة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وزعيم مجموعة “فاغنر” يفغيني بريغوزين، يتساءل العديد من المراقبين عما إذا كانت هذه المواجهة ستؤدي إلى ترتيبات جديدة بين وزارة الدفاع الروسية وقوات الشركة العسكرية الخاصة المنتشرة في جميع أنحاء العالم. وفي الشرق الأوسط، يبدو أن عمليات الانتشار الروسية لم تتأثر إلى حد كبير حتى الآن. ولكن يبدو أن الأزمة قد دفعت السيطرة العملياتية العسكرية باتجاه وزارة الدفاع، مما يعقّد أو يعيق بشكل كبير قدرة روسيا على إنكار أنشطتها على نحو مقنع في مناطق النزاع الإقليمية مثل سوريا وليبيا. وهذا قد يجعل المواجهات بين القوات الأمريكية والروسية أكثر ترجيحاً في الأشهر المقبلة.
دور مجموعة “فاغنر” في الشرق الأوسط
بدءاً من عام 2012، سرّعت موسكو وتيرة نمو الشركات العسكرية والأمنية الخاصة – وهي منظمات مبهمة لها علاقات مباشرة مع الدولة الروسية. وفي ذلك الوقت، صرح بوتين أنه يعتبر هذه الجماعات “أداة لتحقيق المصالح الوطنية” دون مشاركة الدولة. وكانت إحدى هذه المنظمات “الفيلق السلافي”، الذي أنشأته شركة روسية تُدعى “مجموعة موران للأمن”، ويُقال إنه أُرسل إلى سوريا في عام 2013. وفي الوقت نفسه، برزت مجموعة “فاغنر”، بقيادة بريغوزين، وهو مدان سابق وزميل مقرب من بوتين، كأشهر شركة عسكرية خاصة بعد أن ساعدت في تأمين ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014.
ومنذ ذلك الحين، انتشرت هذه المجموعات في جميع أنحاء الشرق الأوسط وأفريقيا، مما منح الكرملين أداة مهمة لاكتساب نفوذ أجنبي. وظهرت قوات “فاغنر” للمرة الأولى في سوريا حوالي عام 2017، بحلها محل “الفيلق السلافي”. كما نشطت في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو ومالي ومدغشقر. ومؤخراً، لعبت دوراً رئيسياً في السودان، حيث عملت البحرية الروسية على تأمين وصول سفنها إلى الموانئ وعقد اتفاق يقضي بإنشاء قاعدة مستقبلية خاصة بها. وفي وقت سابق من هذا العام، دعمت قوات “فاغنر” بشكل ناشط الجنرال محمد حمدان دقلو، الملقب بـ “حميدتي”، في صراعه العنيف على السلطة مع الجنرال عبد الفتاح البرهان – حتى مع قيام بريغوجين بعرض الوساطة لكلا الجانبين في الوقت نفسه.
وعلى الرغم من أن الدولة الروسية هي على ما يبدو مصدر التمويل الرئيسي لـ “فاغنر”، إلّا أن مجموعته استخدمت أيضاً وسائل مختلفة لإنشاء شبكات تمويل خاصة بها في الخارج، مثل إقامة علاقات مع أمراء الحرب المحليين والسيطرة على الموارد الطبيعية. وفي ليبيا، تشير التقارير إلى أن المجموعة كانت تتلقى أموالاً من الإمارات العربية المتحدة حتى عام 2021 تقريباً.
وفي العام الماضي، بدأت التوترات التي تختمر منذ فترة طويلة بين “فاغنر” ووزارة الدفاع تتصاعد وتصبح أكثر علنية مع غزو روسيا لأوكرانيا. وبالإضافة إلى التنازع على الوصول إلى الموارد، سعى كلا الجانبين إلى تبني انتصارات الحرب ولوم الطرف الآخر على الخسائر. ولعل تكتيك بوتين في تشجيع الخصومات الداخلية قد أدى إلى تفاقم الخلاف.
التداعيات على سوريا
بدأت تداعيات الأزمة تظهر في سوريا، مع صدور تقارير متعددة عن حدوث توترات ومواجهات بين مجموعة “فاغنر” وموظفي وزارة الدفاع. فقد اعتقلت القوات الروسية بعض القادة التابعين لـ “فاغنر” وداهمت مكاتب المجموعة في أنحاء متفرقة من سوريا. وفي غضون ذلك، التقى نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي فيرشينين، بالرئيس السوري بشار الأسد في 26 حزيران/يونيو، وحثه وفقاً لبعض التقارير على منع قوات المجموعة من مغادرة البلاد من دون موافقة وزارة الدفاع. وعلى ما يبدو، تم سحب بعض أفراد مجموعة “فاغنر” إلى مركز العمليات الروسي في قاعدة حميميم الجوية في غرب سوريا.
ومع ذلك، لا يزال الوضع العام هادئاً، ولا تزال مجموعة “فاغنر” منتشرة في المناطق الغنية بالموارد حيث تسيطر قوات الأسد ظاهرياً ولكنها تعتمد على المساعدة من وحدات الجيش والشرطة الروسية. وتشمل هذه المناطق أكبر حقول الغاز الطبيعي والنفط في سوريا (الشاعر والمهر وجزال وحيان)، حيث تشير بعض التقارير إلى أن مجموعة “فاغنر” استخدمت شركة وهمية تُدعى “إيفرو بوليس” للحصول على ما يصل إلى ربع أرباح الإنتاج. ويبدو أن نظام الأسد منح “فاغنر” هذه الحصة لأن المجموعة استعادت السيطرة على الحقول من تنظيم “الدولة الإسلامية” واستمرت في حمايتها من غارات المعارضة. ومن شأن أي تغييرات في هذا الترتيب كشف الكثير عن ميزان السيطرة الروسية في سوريا.
وتُطرح أسئلة مهمة أيضاً حول مصير الأسلحة الثقيلة التابعة لـ “فاغنر” في سوريا، والتي تشمل الدبابات والمدرعات الأخرى وقاذفات الصواريخ. ففي عام 2018، استخدمت “فاغنر” هذه الأسلحة في محاولة للاستيلاء على معمل غاز كونوكو بالقرب من دير الزور، وهي منطقة تستخدم كقاعدة عسكرية لـ”قوات سوريا الديمقراطية” وشركائها الأمريكيين. وعلى الرغم من صد الهجوم من خلال الضربات الجوية الأمريكية الشرسة، إلا أنه أثار الدهشة حول قدرات “فاغنر” الهائلة في أنحاء من سوريا يمارس فيها نظام الأسد سيطرة هشة في أحسن الأحوال.
وإذا وجهت أزمة “فاغنر” الوضعية العسكرية المحلية لروسيا بصورة أكثر حسماً لصالح قوات وزارة الدفاع، فقد يزيد ذلك من تعقيد الجهود الأمريكية الأخيرة لإدارة التحليق العدواني والغارات الوهمية من قبل القوات الروسية في جميع أنحاء شرق سوريا، ما قد يزيد من خطر المواجهات المباشرة. ووفقاً للجنرال أليكسوس غرينكويتش، قائد التشكيل الجوي للقوات المشتركة في القيادة المركزية الأمريكية، انتهكت الطائرات الروسية المجال الجوي الأمريكي في سوريا “ثلاث أو أربع مرات” في يوم واحد. وتم الإبلاغ عن 25 حادثة من هذا القبيل في آذار/مارس وحده، بينما لم تسجَل أي واحدة في الشهر السابق. وفي 14 حزيران/يونيو، أعلن المسؤولون الأمريكيون أنه سيتم نشر الطائرات المقاتلة من طراز “إف-22 رابتور” في منطقة عمليات “القيادة المركزية الأمريكية” نظراً لـ “السلوك غير الآمن وغير المهني بشكل متزايد للطائرات الروسية في المنطقة”. لكن هذا الأسبوع، شنت الطائرات الروسية هجوماً آخراً في شمال غرب سوريا – وهو الهجوم الأكثر دموية في عام 2023 – تزامناً مع انتشار تمرد بريغوزين.
مركز “فاغنر” الليبي
إذا تغيرت عمليات “فاغنر” في الخارج، سيكون لذلك تأثير مباشر على أمير الحرب الليبي خليفة حفتر. فالجنرال الذي يتخذ شرق البلاد مقراً له يحظى بحماية شخصية من قوات “فاغنر”، كما تبين عندما أسقطت هذه القوات طائرة أمريكية بدون طيار من طراز “إم كيو-9” في محيطه في آب/أغسطس الماضي (كانت الطائرة المسيّرة تقوم بأعمال المراقبة قبل زيارة مخططة للمبعوث الأمريكي الخاص). كما تساعد المجموعة حفتر في الإبقاء على سيطرته على منطقة النفط الرئيسية في ليبيا، حيث يهدد حلفاؤه السياسيون مجدداً بفرض حصار كوسيلة ضغط على “حكومة الوحدة الوطنية” التي تتخذ من طرابلس مقراً لها. بالإضافة إلى ذلك، تحتل “فاغنر” قاعدة الجفرة الجوية الاستراتيجية في وسط ليبيا، وتستخدمها كمركز لوجستي لعملياتها في أفريقيا (على سبيل المثال، إرسال الأسلحة والوقود إلى حميدتي في السودان).
وبدأ تقرّب روسيا من حفتر حوالي عام 2014، بعد فترة وجيزة من بروزه كلاعب رئيسي في منطقة بنغازي. في عام 2017، تمت دعوته للقاء مسؤولين عسكريين على متن حاملة طائرات روسية قبالة الساحل الليبي، كما زار موسكو عدة مرات. وأسرعت مجموعة “فاغنر” إلى نجدته على وجه التحديد في 2019-2020، عندما حاولت قواته الاستيلاء على طرابلس. وبفضل قناصة المجموعة وأنظمة “بانتسير” المضادة للطائرات الخاصة بها، تفوّق حفتر على خصومه على مستوى الطائرات المسيّرة التي كادت أن تجتاح سماء العاصمة حتى تدخلت تركيا في أوائل عام 2020. وخلال الانسحاب اللاحق لحفتر، زرعت قوات “فاغنر” العديد من العبوات الناسفة المرتجلة في المنطقة، مستهدفةً بذلك المدنيين عمداً، مما تسبب بتشويه عشرات الأطفال وأثر بعمق على نظرة الشعب الليبي إلى المرتزقة.
الخاتمة
طرحت الفترة التي أعقبت تمرد بريغوزين مباشرةً أسئلة أكثر مما قدمت أجوبة. والمثير للدهشة أن بوتين سمح لأفراد “فاغنر” بالإفلات من الملاحقة القضائية ولبريغوزين بالذهاب إلى المنفى في بيلاروسيا. وقد عَرض منذ ذلك الحين على أفراد القوة إما توقيع عقود “مع وزارة الدفاع أو غيرها من أجهزة إنفاذ القانون أو الأجهزة الأمنية أو العودة إلى ديارهم. ولمن يريدون الذهاب إلى بيلاروسيا، يمكنهم القيام بذلك”. ويشير ذلك إلى أنه قد يُسمح لـ “فاغنر” بمواصلة نشاطها خارج روسيا – على الرغم من أن نطاق هذه الحرية غير مؤكد.
وبغض النظر عما قد يحدث لهيكلية “فاغنر” وعملياتها، لا يزال لدى الكرملين مصلحة استراتيجية قوية في الحفاظ على وجود المجموعة في سوريا وليبيا من أجل إظهار قوته في الشرق الأوسط وأفريقيا. فروسيا لا تزال اللاعب الذي لا غنى عنه في سوريا، حيث مكّن دعم الأسد موسكو من الحصول على المعادن وموارد أخرى، وتأليب إيران وإسرائيل على بعضهما البعض، ومواصلة دور الوساطة في إطار الجهود الدولية الرامية إلى التوصل إلى تسوية سياسية. وإذا كانت أزمة هذا الأسبوع ستؤدي إلى دمج قدرات “فاغنر” في سوريا ضمن عمليات وزارة الدفاع الروسية، ينبغي على المسؤولين الأمريكيين أن يراقبوا عن كثب كيف يمكن أن يؤثر ذلك على عمليات الانتشار المحلية ووضعية القوة الخاصة بروسيا.
وفي ليبيا، لا يمكن لروسيا الحفاظ على وجودها ما لم تقم بإدارة الفضاء السياسي بحنكة. ولكن إذا قامت بدمج قوات “فاغنر” ضمن وزارة الدفاع، فلن تكون قادرة على إنكار نشاطها في ليبيا. ولن يكون لنشر قوات وزارة الدفاع الرسمية في ليبيا تداعيات دولية فحسب، بل سيؤدي أيضاً إلى تأجيج المعارضة الشعبية في ليبيا، نظراً لأنه نادراً ما يمكن رؤية عناصر روس هناك اليوم.
وفي كلتا الحالتين، لدى واشنطن فرصة للتصدي للأنشطة الروسية المزعزعة للاستقرار في ليبيا بعدة طرق، وذلك: من خلال تشجيع الأصوات المحلية على معالجة الضرر الذي ألحقته مجموعة “فاغنر” والكيانات الروسية الأخرى ببلادهم؛ ومن خلال دراسة خطوات للحد من وصول روسيا إلى قاعدة الجفرة الجوية، مثل العمل مع الشركاء الإقليميين و”حكومة الوحدة الوطنية” لإغلاق مجالها الجوي؛ ومن خلال إعادة إحياء نهج واقعي للتشجيع على إجراء انتخابات نزيهة. وعلى نطاق أوسع، يمكن أن تؤثر هذه الإجراءات على أنشطة موسكو في أنحاء أخرى من أفريقيا أيضاً.
ولكن، حتى لو أدت أزمة هذا الأسبوع على ما يبدو إلى إضعاف كل من بوتين ووزارة الدفاع الروسية وبريغوزين، إلّا أنه لم يُسجَل تغيير ملحوظ في وضع روسيا ومكانتها في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا حتى الآن، وقد لا يُسجَل أي تغيير وشيك. فموسكو استثمرت بكثافة في “فاغنر” لسنوات، وسيكون من الصعب استبدال وجودها في الخارج ببساطة على المدى القصير. ويتمثل السيناريو الأكثر ترجيحاً بتطور مجموعة “فاغنر” وغيرها من الشركات العسكرية الروسية الخاصة بدلاً من زوالها.
ومع ذلك، لا يزال بإمكان صانعي السياسات الأمريكيين الاستفادة من الفوضى الحالية والبحث عن طرق للحد من نفوذ “فاغنر” الخارجي. ويجب أن تذهب هذه الجهود إلى ما هو أبعد من العقوبات الحالية، التي لم يكن لها سوى تأثير محدود على أنشطة المجموعة الإجرامية والمزعزعة للاستقرار.
آنا بورشيفسكايا هي زميلة أقدم في “برنامج مؤسسة دايين وغيلفورد غليزر” التابع لمعهد واشنطن حول “منافسة القوى العظمى والشرق الأوسط”. بين فيشمان هو زميل أقدم في المعهد ومدير سابق لـ “شؤون شمال إفريقيا” في “مجلس الأمن القومي” الأمريكي. أندرو تابلر هو “زميل مارتن جروس” في المعهد والمدير السابق لشؤون سوريا في “مجلس الأمن القومي” الأمريكي.
.
رابط المصدر: