تعد مسرحية «فاوست» من أبرز الأدبيات الألمانية التي جسد فيها «جوته» تطلع الإنسان إلى بلوغ أقصى المعرفة والسعادة، ثم تبين له بعد ذلك أن اختيار الطريق في سبيل ذلك كان خاطئًا، فقد أبرم فاوست صفقة مع الشيطان فباع له روحه على أن يهب له قدرات فائقة، فما كان من فاوست إلا التمرغ في الملذات وتتبع جشعه وشهواته وغروره وإعلان موت الإله، وها هو اليوم يقف على حافة العدم والخواء، يحاصره القلق والخوف وجيش من الكآبة واليأس والاختناق.
موت الإله، ما زال الإله يتنفس الصعداء
لم يكن إعلان موت الإله الذي حرره نيتشه إلا رغبة في امتلاك عرشه، وتأسيس ملكوت الإنسان في مقابل ملكوت الإله، وأثار ديستوفيسكي توصيفًا لهذه الحالة حين قال على لسان أحد شخصياته: «إذا لم يكن هنالك إله، إذن فالإنسان إله، وعليه أن يثبت ذلك» (ولسون، متاهة الإله)، وأدى التسارع العلمي والتقني وعلمنة المجتمعات إلى تقويض الدين وانحساره.
وعلى هذا النحو استمر تصاعد الفلسفات المادية التي اختزلت الإنسان في بعده المادي، حتى أصبح حاله أشبه بالهامستر يدوّر العجلة بلا غاية إلا غاية إشباع رغباته وحوائجه المادية، وخلال كل هذه المحاولات لبلوغ السعادة كان ثمة قلق رهيب يجتاح كيانه، لقد شكل هذا القلق خيبة للحداثة وخلافًا لوعودها غير الناجزة في تحقيق راحة الإنسان، وهكذا فقد شهد العصر الحديث عودة للدين ولا سيما في الحقلين الفلسفي والإنساني.
ولقد شكلت هذه العودة والانبعاث الروحي احتجاجًا على مادية الحداثة وإغفال النزعة المقدسة في الإنسان، كان انبعاثًا يؤكد أن: «حياة الإنسان تصبح بلا معنى بغير نوع من الدين والأخلاق» (عزت بيجوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب).
الإيمان والحداثة
إن المبدأ الذي تقوم عليه الحداثة هو مبدأ الذاتية؛ الأنا الصلبة الواحدية التي تفكر وتنقد وهي ذات عقل مستقل له قدرة على التمفصل مع مبادئه وأفكاره، إلا أن هذه المرجعية الواحدية وقعت في إسار من الفوضوية، وعلى الرغم من التقدم على المستوى التقني لكنها شهدت تراجعًا في الجانب الرّوحي والأخلاقي، إذ تصاعد تشاؤم المسرح، وحالات الانتحار والأمراضِ النفسية، ووقفِ الإنسانِ الغربيِّ على فوهةِ الفوضى «ولم يعد أمامه إلا خياران لا ثالث لهما: فإما أن ينتظر الله كمنقذ أو مخلص ، وإما أن ينتظر غودو بحسب تعبير صموئيل بيكيت» (صالح، التنوير الأوروبي).
كل ذلك دفع اللاهوتي والفيلسوف الألماني هانز كونغ إلى القول بأن الحداثة وصلت إلى مأزق كبير بتنحيتها للدين بعد ردة الفعل التي قامت بها ضد الأصولية المسيحية، وللخروج من هذا المأزق علينا أن نعيد للدين اعتباره، إلا أن هذا الدين الذي يدعو له الفيلسوف الألماني ليس دين القروسطية، بل دينًا ليبراليًا يتناسب مع عصر التقدم بحيث لا نتنكر للحداثة ومنجزاتها المثيرة لكن لا بد من مرحلة أخرى، مرحلة تجاوز الحداثة إلى ما بعدها لنستطيع النظر إلى الجانب الذي أغفلته وهو الجانب الروحي، سوف يكون القرن الواحد والعشرون روحيًا أو دينيًا أو لن يكون، أو كما قالها أندريه مالرو.
الشرطة الوجودية والجيش الأنطولوجي
لم يكن لفاوست إلا الاحتجاج على الخناق الذي أحاطته به الحداثة، وقد تمثل ذلك بالتحسس الديني الذي يتجلى بالبحث في الروحانيات والتصوف والفلسفات الغنوصية، وبات يتنقل بحثًا عن الخلاص لحالات القلق والاضطراب التي يعتاشها، وقد توسم هذا اللاهوت الجديد بكونه يتناسب مع قيم الحداثة؛ إذ إنه لاهوت ناعم مدمج داخل إطار العولمة، وتتبدى مظاهر هذا اللاهوت بالآتي:
– دين خارج المؤسسة الدينية وبعيد عن الشرطة الوجودية وجيشها الأنطولوجي، بل إن الفرد يقوم باختيار الدين الذي يناسبه إذ «إن الإنسان في الولايات المتحدة وأوروبا يمكنه اتباع مرشد روحي هندوكي أو ممارسة السحر الشاماني للهنود الحمر بغير أي مجازفة في وظيفته أو بقبوله اجتماعيًا، فعادة ما يعد الالتزام الديني شأنًا خاصًا قد يكون طريفًا أو شاذًا لكنه غير مؤذٍ ابتداءً، إذ يعمد الخلق عمومًا لاتباع الاعتقاد الشائع وغير الرسمي لعصر السيولة: كل شيء يجوز» (مراد هوفمان: العالم الإسلامي في أزمة)، كما يمتلك حق التنقل بين الأديان وقدرة تركيبية على الجمع بينها والالتقاء في القاسم المشترك الذي يجمعها، وهذا «تدين خارج المضمار»[1].
– يفهم إدماج هذا اللاهوت بصفته لا يحمل أي أيديولوجيا أو منزع مادي، هو مجرد اعتناق شخصي على مستوى ممارسات للرياضات الصوفية، وأما الجانب الآخر من حياته تحكمه قوانين الدولة ومرجعية السّوق؛ أي أنه «دين دستوري»[2].
– هو التزام غير مشروط كما يسميه هوبرت درايفوس؛ تجربة دينية لا حاجة فيها لإله مُتشخص في دين، وهو تدين يعطي معنى للحياة ويعينه لتجاوز العدمية واغتراب الفرد.
في عباءة جلال الدين الرومي
على الرغم من انبعاث الدين وعن كونه يمثل احتجاجًا للإنسان على اختزاله وتسليعه، إلا أنّ روح فاوست الحقيقية بقيت مرتهنة، إذ يمكن لنا القول بأن اللاهوت الجديد يرد إلى النموذج المادي والعدمي للحداثة، فما يزال فاوست يمكث تحت أرقام البيروقراطية والنماذج الكمية ومتحللاً من أي أعباء وقواعد دينية وأخلاقية، يمكن فهم ذلك بالإشارة إلى قصة الكاتب الأمريكي رالف وولدو إمرسون التي ذكرها المسيري في موسوعته، إذ يقول إنه ينتمي للكنيسة الموحدانية و كان يحب أعمال بوذا وكونفوشيوس وجلال الدين الرومي، في الوقت ذاته هو الفيلسوف الأثير لدى الرأسماليين الماديين، ثم يبين كيف يتداخل المادي والروحي والمقدس وغير المقدس و يصل الأمر إلى تغيير شعائر الصلاة في الكنيسة من يوم إلى يوم، ومرة قامت إحدى راقصات الستريبتيز بالتعبير عن مشاعرها الدينية والروحية واكتفى راعي الكنيسة بوصفها أنها طريقة غير تقليدية للتعبير عن الإيمان الداخلي!.
جلال الدين الرومي والفيلم المنتظر
أفصح فرانزونى مخرج الفيلم المنتظر حول جلال الدين الرومي عن الغايةِ التي دفعته لإخراج عملٍ من هذا النوع؛ كونه تحدّيًا يغير الصورة النمطية للشخصيات الإسلامية، وهذا يذكر بالراحل نصر حامد أبو زيد حين برر أن أحد أسباب استدعائه لابن عربي هو تقديم للقارئ غير المسلم صورة أخرى لروحانية الإسلام.
تصبح هذه الأفعال مبررة ومنطقية في سياقها، إلا «أن التصوف الإسلامي لقي الدعمَ الغربي وانتشر داخل المجتمعات الأوروبية والأمريكية لما استنبطوا فيه من تعظيمٍ للفردانية والمساواة الجندرية، بالإضافة إلى الاحتفاء بالبعد الجمالي الثقافي والتحرر من تجربة التدين مقابل الطقوس الروحانية» (الدريسي، الصوفية الوظيفية).
لقد عمدت الولايات المتحدة الأمريكية إلى استدعاء حليف جديد يُفصل بحسب رؤيتها؛ حيث عملت على خلق مؤتمرات وندوات حول التصوف. و«عكفت مراكز الدراسات ومخازن الأفكار على عقد مؤتمرات وإصدار دراسات والقيام بعمليات تشبيك واسعة مع الطرق الصوفية بالتعاون والتنسيق مع الأنظمة العربيّة الحاكمة» (أبو هنية، الطرق الصوفية)
وقامت بدعم الأدبيات الصوفية؛ إذ ليس من المستغرب صعود «المثنوي» ليتصدر قائمة المبيعات، أو حضور «الخيميائي» و«قواعد العشق الأربعون» في معارض الكتب والإقبال عليها، كما جعلت من الحكومات العربيّة تقوم باستدخال الصوفية في أجهزتها المختلفة، إذ «لـم تعـد بعـض الطـرق الصوفية المتنفذة ذات القاعدة الشعبية الواسعة بمعزل عن المشاركة السياسية وتقلد المناصب» (أبو هنية).
فقد تمتعت الصوفية بعناية من قبل الأنظمة واستدخلت «كأيديولوجية تسامحية في سياق الحرب الثقافيّة الباردة لنزع التطرف والعنف وإسباغ الشرعية على الأنظمة السلطوية» (أبو هنية).
وفي ذلك تغييب لجماعات وتيارات إسلامية أخرى كما صنع مؤتمر الشيشان الأخير الذي برر أجندات سياسية وكان مؤشرًا واضحًا على قصور المتصوفة في فهم السياسة العالمية، كما تشكل الصوفية الجديدة بديلاً عن الجماعات السياسية، و«هنا يظهر بوضـوح تأثيـر الانخـراط العـام للمجتمعــات العربيـة في صيرورات العلمنة التي تُشرعن لأنماط تدين خارج المجال الديني التّقليدي» (الدريسي).
وساهمت علمنة المجتمعات، كما في أطروحة ماكس فيبر، في تقويض الدين في المجال العام، «وقد أصابت عدواها عالم المسلمين هو الآخر واستفحلت وثم خطر حقيقي في أن يصير أغلبية المسلمين مسلمين اسمًا فحسب، تمامًا كما هي حال معظم المسيحيين اليوم» (هوفمان).
أما موقف الوعي الصوفي من الربيع العربي فقد كان موقفها العام لا يخرج من رؤيتها بالخلاص الفردي وبالحاكم الذي ولاه الله أمرنا وهذا خطاب مشهور في مقدماتهم الخطابية، فالحاكم ظل الله وأمره، وهنا توافق (سلفية طاعة ولي الأمر ولو جلد ظهرك) مع صوفية الحاكم، كلاهما كالميت في يد المكفن، وهذا ما دفع القرضاوي إلى أن يقول بأن الصوفية «سفهت الثورات العربية».
لقد بات التصوف أداة وظيفية للتوجهات السياسيّة والثقافية الفاوستية، ثم إن هذا التوظيف لمحبة الرومي وتسامحه الديني في العصر الحديث يمكن فهمه حين رحب السيسي بالحبيب الجفري، وقال: «والله محتاجين السماحة والوسطية، الدنيا كلها تعبت مننا!».
هوامش
[1] تدين خارج المضمار: وصف أطلقه السوسيولوجي ايف لامبير على ظواهر التدين في العصر الحديث.
[2] الدين الدستوري: اسم أطلقه أرنست غيلنر على مشروعه الفكري «المناظر للملكية الدستورية، والذي يذكرنا بتحول مهمة إدارة شؤون المجتمع الحقيقية إلى مجال أكثر تقنية ودنيوية وعلمانية» [سوسيولوجيا الثقافة، عبدالغني عماد -بتصرف-].
رابط المصدر:
http://ida2at-2033742816.eu-central-1.elb.amazonaws.com/faust-in-the-cloak-of-jalaluddin-rumi/