فارس كمال نظمي
أثبت فايروس كورونا (COVID-19) في الأسابيع القليلة الماضية قدرته (أو قدرة أي كائن فيروسي مجهري) على أن يجرّد البشر من شعورهم بالقدرة على مجاراة قوانين الطبيعة، ويعيدهم مباشرة إلى هاجس مواجهة القدر البيولوجي البدائي بمعزل عن أي احتياطات وقائية معقدة أقامتها الحضارة طوال آلاف السنين لمواجهة الموت بأسلوب مؤسساتي نظامي: أي احتياطات الطب والتغذية والسلوك الصحي.
لا تمثل هذه الرؤية الا قشرة تفسيرية فوقية للحدث الكوروني بأبعاده المتداخلة مناعياً وطبياً وتكنولوجياً وحتى سياسياً إذا ما نظرنا إليه بوصفه نتاجاً مختبرياً مشوهاً لعصر سياسي يفتقر إلى الحكمة والرأفة وروح المسؤولية. إلا أن الملاحظة المجهرية للسلوك البشري اليومي المرتبط بانتشار هذا الوباء، قد يستدعي الغوص إلى ما تحت تلك القشرة، لالتقاط مشهدٍ أفرزته سيكولوجيا الكوارث، أكثر إثارة ومدعاة للتأمل والتفكر.
ففي حقلي علم النفس الاجتماعي وعلم النفس التطوري، ظهرت نظرية “السيطرة على الخوف” (أو التحكم بالهلع من الموت) Terror Management Theory، خلال العقدين الأخيرين من القرن السابق، بتأثير كتاب ” إنكار الموت” Denial of Death 1973 لمؤلفه عالم الأنثربولوجيا الثقافية الأمريكي “إرنست بيكر” Ernest Becker (1924- 1974). فقد بنى “بيكر” رؤيته على أفكار “سورين كيركجارد” و”أوتو رانك”، ومستفيداً بشكل خاص من “سيجموند فرويد” الذي سبق أن حدد في كتابه “تأملات في الحرب والموت” Reflections on War and Death 1915 أن البشر يدركون حتمية الموت وعدم إمكانية تفاديه، موتهم وموت الآخرين، لكنهم معتادون على التصرف بطريقة يستشف منها أنهم أنكروه واستبعدوه من حياتهم ووضعوه على الرف، في محاولة للانشغال بأمور أخرى تصرفهم عن التفكير به.
خضعت نظرية “السيطرة على الخوف” إلى تحققات تجريبية كثيرة، فتشعبت مساراتها التنظيرية التي ظلت تتمركز حول فرضية أساسية مفادها أن معظم السلوك البشري يمكن تفسيره بوصفه محاولة لتجاهل أو تجنب حتمية الموت؛ أي أن الدافع الأساسي المحرك لهذا السلوك هو دافع الخوف (الهلع) من الفناء التام، الذي يخلق قلقاً شديداً – شعوري ولا شعوري – لدى الناس يدفعهم أن يقضوا حياتهم محاولين أن يجعلوها ذات قيمة، عبر تعزيز الإحساس بأهميتهم, واحترامهم لذواتهم, وجدارتهم بالبقاء, ليؤمنوا بأنهم يؤدون دوراً مهماً في عالم “ذي معنى”.
فتقدير الذات Self-Esteem هذا الذي يصنعونه بأنفسهم لأنفسهم، يعمل بوصفه واقياً ضد القلق الوجودي المرتبط بالموت. وهذا ما يفسر كيف تشيد المجتمعات أبنيتها الثقافية كأنظمة المعتقدات والنتاج الأدبي والفني والقوانين والأعراف، لتُبرِزَ “أهمية” الحياة وترفع من شأنها بمواجهة حتمية الموت القادم في كل الأحوال. هذه الأبنية الثقافية تمنح الإنسان خلوداً رمزياً من نمط ما. فمثلاً، أنظمة المعنى الديني وأنساق الهويات بأنواعها (الوطنية والفرعية)، ووجهات النظر الثقافية عن سموّ البشر على الحيوانات، وبأن الفرد قادر على الامتداد أبعد من حياته (العائلة والسلالة والوطن وحياة ما بعد الموت)، تزود الإنسان بشعور واعتقاد مُطَمْئنينِ أنه جزء من شيء أعظم سيبقى مادياً أو رمزياً بعد فنائه؛ بمعنى أنه يمتلك معنى وامتداداً عصياً على الزوال، وأبعد بكثير من كونه كتلة بيولوجية فانية من الخلايا فحسب.
والسؤال الآن: هل ميكانزمات التلهية والإنكار والتجنب والمناورة هذه، والتي دأبت البشرية على ممارستها حيال حتمية الموت عبر “تحكمها الشعوري واللاشعوري بالهلع منه”، باتت اليوم – مع كورونا- عرضة للتعطيل ولعدم الفاعلية (ولو لأمدٍ محدود ينتهي بنهاية الوباء)، أي عرضة لانكشاف الذات الآدمية بعريها الأول –دون دفاعات تمويهية- أمام تراجيدية الموت مُجَسَّداً بفيروس بدائي لا تدركه الحواس؟
وهل إن سرّ التأثير النفسي الكاسح لهذا الفيروس يكمن في مجهريته إذ يصنع الفناء بأسلوب غيبي وغير مرئي (المتناهي في الصغر)، على العكس من أساليب أخرى للموت المفاجئ كأسلحة الحرب مثلاً (المتناهي في الكبر) التي تصنع الموت بأسلوب محسوس و”منطقي” فلا تستدعي من الناس أن يتخلوا عن خداعهم المستمر لذواتهم لتفادي حقيقة زوالهم؟
وهل ما يحدث اليوم – لدى فئة مهمة من السكان- في بلدان ومجتمعات تجاوزت الثمانين، من تعطيلٍ –جزئي أو كلي- للتعليم والعمل والفن والرياضة والترفيه، وللعبادات الدينية الجماعية المؤسساتية، هو في جوهره لحظة عميقة – ربما عابرة- تجسّد عجزَ الممارسات السيكولوجية عن ترويض هاجس الموت، والخضوع بدلاً عن ذلك لـ “هلع” مواجهته وجهاً لوجه دونما أقنعة ثقافية أو حيل إنكارية؟
وهل يمكن فتح حوار هادئ بعد كل هذا عن هشاشة “قدسيات” يشيدها الناس لقرون ليملأوا بها قسراً أو طوعاً، فضاءاتهم وفضاءاتِ غيرهم، ليكتشفوا اليوم أن التلاعب المعهود بحتمية الموت بات مستحيلاً، إذ أن أنظمة التقديس الذهني المشيدة في عقولهم تبدو عاجزة أمام شفرات الطبيعة المبرمجة على إماتة كائناتها؟ أهكذا يرتعش “المقدس” الأيقوني وهو يرى انفضاض الناس من حوله، هارعين إلى الكمامات والمعقمات وحجرات العزل، باحثين عن “مقدسهم” البدائي الأوحد، أي وهم “خلودهم” الكامن في أعماقهم؟
هذه التساؤلات لا تتناقض مع حقيقة أن بشراً كثيرين – منذ العصور البدائية وحتى اليوم- اعتادوا على مواجهة واقعية مستمرة مع الموت بأقل درجة من درجات التلهية والتجنب بحسب نظرية “السيطرة على الخوف” المشار إليها. إلا أنهم بموقفهم ذاك اختاروا تلك المواجهة طبقاً لـ”إرادتهم” ولتوجهاتهم الفكرية المستقرة وغير الطارئة بل الناتجة عن مجمل تطورهم بناهم العقلية؛ فيما يضطر ملايين الناس في العصر الكوروني الحالي إلى الانخراط بهذه المواجهة قسراً وعلى نحو مباغت ودون تهيئة مسبقة لأبنيتهم الثقافية، بعد أن تحول هذا الفيروس – الذي لا تدركه الحواس- ليس إلى سالبٍ للحياة فحسب، بل سالبٍ أيضاً لكل الدفاعات النفسية التي أقامتها الحضارة للتمويه على الموت وإبطال سحره المفجع.
ستنحسر الأزمة الحالية بعد أسابيع، وسيعاود الناس الاستعانة “المجدية” من جديد بألعابهم المعهودة للسيطرة نفسياً على هلعهم من الموت. غير أن الذين فقدوا حياتهم بسبب الفيروس لن يعرفوا أبداً أنهم بموتهم ومن خلال سيكولوجيا الأرقام والفديوات التي نقلت مشاهد موتهم ونسب الانتشار الوبائي والجغرافي للمرض، إنما أسهموا – غير قاصدين- بجعل البشرية الناطقة تتموضع في أقرب نقطة ممكنة من الموت، لتحدق بوجهه الصامت دونما “حاجة” إلى إنكاره!.
رابط المصدر: