إيران بحاجة الى إعادة النظر بنمط تحالفاتها، من خلال تكوين منظومة تحالفات جديدة لا تكون عابرة للدول، وانما تتم من خلالها. منظومة تحالفات تكتسب الموثوقية والتأثير في القرار الإقليمي والدولي، وتكون الفاعل الأول والأخير فيه الحكومات لا الجماعات المسلحة، لاسيما في المرحلة القادمة التي ستكون مرحلة صعبة للغاية…
تُعبر نظرية الردع بحسب المفكر الاستراتيجي الأمريكي (توماس شيلينغ) عن “مهارة عدم استعمال القوة العسكرية لثني الأطراف عن المواجهة المباشرة”، فالردع هو “استغلال القوة المحتملة، وإقناع عدو محتمل أن يتجنب القيام بنشاطات معينة؛ لأن ذلك سيكون في مصلحته”. ويحتاج هذا الاقناع الى توفر عنصر التهديد القابل للتصديق، ومصداقية التهديد تتوقف على قدرة الطرف المهدِد على تنفيذ تهديده. ولذا قيل ان الردع الفعال بحاجة الى وجود “خطاب تهديدي فعال، ومقدرات عسكرية فعلية، ومصداقية الفعل”، ومن أبرز الأمثلة الدولية على استراتيجية الردع الفعال هو الصراع بين الاتحاد السوفيتي السابق والولايات المتحدة اثناء الحرب الباردة في القرن العشرين المنصرم.
استراتيجية الردع وحرب غزة
شكلت الحرب التي اندلعت بعد هجوم حماس على مستوطنات غلاف غزة في السابع من أكتوبر 2023 فيما سمي بـ “عملية طوفان الأقصى” مثلا سيئا على انهيار استراتيجية الردع بين جميع الأطراف الداخلة فيها، فقد فشلت إسرائيل وخصومها في اقناع بعضهم البعض بوجود قدرة حقيقية للردع الفعال المتبادل. ان ما نراه منذ السابع من أكتوبر وحتى اليوم ما هي الا محاولات لاستعادة كل طرف لمصداقية ردعه في نظر الطرف الاخر، حيث تجد أن إسرائيل قد استعملت قدراتها العسكرية بقسوة وعلى مساحة واسعة في الشرق الأوسط لإثبات انها ما زالت تمتلك قدرة الردع الفعال، ولذا ردد زعمائها كثيرا انهم “يستطيعون ضرب أي عدو في الشرق الأوسط”، وان أعمالهم ما هي “الا رسالة ردع واضحة لكل الأطراف في الشرق الأوسط”. وبالنسبة لخصومها فان صبرهم على الرغم من طول الصراع وشدته هو أيضا رسالة لتل ابيب بقدرتهم على إلحاق الأذى بها، بصرف النظر عن الفارق الكبير بين الطرفين في القدرات العسكرية والاقتصادية والسياسية، ولذا تجد كل طرف ينتظر صراخ خصمه أولا، وما استمرار الحرب لأكثر من سنة الا دليل على ان الأهداف لم تتحقق بشكل كامل ومقنع لجلوس الأطراف على طاولة الحوار.
وضع الردع الإيراني في حرب غزة
تظهر فاعلية الردع جلية من خلال منع قيام الأطراف بالفعل غير المرغوب، ويعني خلاف ذلك وجود ثغرات في مصداقية ردعها لبعضها البعض، وفشلها في الاقتناع بالكلفة العالية المترتبة على افعالها غير المرغوبة.
ان تحليل الموقف بين ايران واسرائيل في حرب غزة يعطي الانطباع بان طهران لم تتمكن من إرساء قواعد صارمة لردع تل ابيب، فقد حاولت دفع حلفائها الإقليميين الى إسناد جبهة غزة استنادا الى نظرية “الردع اللا متماثل” ولكنها فشلت في ذلك، كما اطلقت قياداتها السياسية والعسكرية تهديدات عالية السقوف اتجاه اسرائيل في محاولة لتوظيف نظرية “الردع المتماثل” ولكن بدون جدوى، ثم انتقلت من ميدان التهديد الى ميدان الفعل، فقامت بعملية “الوعد الصادق 1″ في 13/نيسان-ابريل من هذه السنة ردا على ضرب اسرائيل قنصليتها في دمشق، ثم اردفتها بعملية ” الوعد الصادق 2″ في ( 1/ تشرين الأول-أكتوبر) ردا على مقتل زعيم حماس السيد إسماعيل هنية في طهران، ومقتل زعيم حزب الله السيد حسن نصر الله في بيروت… ولكن كل ذلك لم يردع إسرائيل، ولم يمنعها من مهاجمة طهران عسكريا، وها هي الأخيرة تُهدد اليوم بعملية ” الوعد الصادق 3″ دون توفر ضمانات كافية بإمكانية ردع تل ابيب وإيقاف افعالها غير المرغوبة.
والسؤال المطروح، لماذا؟
ان بعض قدرات الردع في هذه الحرب تميل لصالح طهران (الجغرافيا، والسكان، والروح العقائدية القتالية، ووجود حلفاء مخلصين)، ولكن مع ذلك هناك ثغرات في قدرة الردع الإيراني، لعل أبرزها:
1- عدم امتلاك السلاح النووي، فإيران غير النووية لا تخيف إسرائيل النووية، والاخيرة بلا مواربة اثبتت مرارا استعدادها في حال التعرض الى تهديد وجودي جدي الى استعمال ما تسميه بـ “سلاح يوم القيامة”، أي استعمال سلاحها النووي ضد اعدائها، ولعل إطلاق رئيس الوزراء الإسرائيلي على الحرب تسمية “حرب القيامة” إشارة ضمنية الى ما يمكن ان تصله حكومته في هذه الحرب.
لقد استعملت طهران ملفها النووي كأداة مساومة في مفاوضاتها مع الغرب وبقية الأطراف الإقليمية، ولكن عدم امتلاكها للسلاح النووي جعلها غير منيعة بوجه الاستهداف، فهناك تفاوت كبير بين سلاحها وسلاح تل ابيب، وهذا الامر تدركه الأخيرة، وتحرص على استمراره، ومنع خرقه مهما كان الثمن.
وعليه ربما يحتاج صانع القرار الإيراني الى إعادة النظر في طبيعة تطلعاته النووية متذكرا ان ما منع موسكو وواشنطن في الحرب الباردة من ضرب بعضهما مباشرة ليس تراجع معدل العداء بينهما، بل ارتفاع كلفة المواجهة المباشرة نتيجة وجود السلاح النووي.
2- البعد الجغرافي، فالمسافة بين اسرائيل وإيران تزيد على 1500كم، وهذا جعل الأخيرة ليست من دول المواجهة مع تل ابيب، وحتى لو ارادت الاستفادة من قدراتها المتوافرة كمعادل لغياب تسلحها النووي، فإنها لن تقوى على ذلك مع بعدها الجغرافي، وعدم استعداد دول المواجهة (سوريا، الأردن، لبنان، مصر) للعب دور مشترك رسمي مباشر معها في هذا الصراع.
3- اعتمادها على حلفاء من غير الدول، أي جماعات مسلحة ترتبط بها عسكريا من خلال التنسيق مع فيلق القدس، وعقائديا من خلال الايمان بنظرية ولاية الفقيه، وحاولت طهران اعداد هؤلاء الحلفاء جيدا؛ لإيجاد حالة من الردع اللا متماثل مع إسرائيل، بخلق بؤر استنزاف عسكري قريبة منها تسمح لها بالتخلص من الملاحقة القانونية الدولية الناجمة عن أفعالهم باتباع سياسة الانكار وعدم المسؤولية من جانب، واشغال إسرائيل بهم ومنعها من التفكير في الذهاب الى مواجهة مباشرة مع إيران من جانب آخر.
ولكن هذه الاستراتيجية الإيرانية على فائدتها في مد نفوذ طهران إقليميا الا إنها ارتدت عليها سلبا في ميدان الردع؛ بإعطاء الذريعة لتل ابيب في ضرب حلفاء إيران غير الدولتيين وهي آمنة بحجة انها لا تعتدي على دول، وانما تضرب “جماعات إرهابية” خارجة عن السلطة، وان غياب الاعتراف الإقليمي والدولي بهذه الجماعات زاد الامر سوء، وسمح لإسرائيل بالاستمرار في اعمالها العدائية ضدهم الى ما لانهاية.
ان إيران بحاجة الى إعادة النظر بنمط تحالفاتها، من خلال تكوين منظومة تحالفات جديدة لا تكون عابرة للدول، وانما تتم من خلالها. منظومة تحالفات تكتسب الموثوقية والتأثير في القرار الإقليمي والدولي، وتكون الفاعل الأول والأخير فيه الحكومات لا الجماعات المسلحة، لاسيما في المرحلة القادمة التي ستكون مرحلة صعبة للغاية على طهران وحلفائها مع وصول إدارة أمريكية جديدة لديها انطباعات عدائية اتجاه طهران، فضلا على ما ستتركه نهاية حرب غزة من انعكاسات كبيرة ستغير قواعد اللعبة في الشرق الأوسط برمته.