علي شندب
سيبقى انفجار مرفأ بيروت الخبر ما قبل الأول لفترة غير قصيرة. سيما وأنه الزلزال التفجيري على مقياس 2750 طنا من نيترات الأمونيا الذي استبق زلزال لفظ حكم المحكمة الدولية باغتيال رفيق الحريري فأجله حتى 18 آب الجاري.
إنه زلزال بيروشيما الذي استدعى زيارة الطوارئ العاجلة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، المقتبسة من زيارة سلفه جاك شيراك اثر زلزال اغتيال رفيق الحريري في 14 شباط 2005. وكأن قدر بيروت أن تبقى في قلب الزلازل، إنها الزلازل التي تغير وجه لبنان، وعبره نسق العلاقات الإقليمية والدولية في المنطقة.
غادر ماكرون بيروت بعد ساعات ماراتونية أمضاها بين أشلاء الضحايا الأحياء والأموات، وبات تقريعه الحكم والقوى السياسية المتهالكة بالفساد، وأيضا عن ضمان وصول المساعدات بإشراف الأمم المتحدة لأصحابها بعيدا عن سلطة محاصصة الفساد على كل شفة ولسان، كما أن كلامه عن ضرورة إنتاج ميثاق سياسي جديد بات أشبه بمسمار فولاذي في نعش طبقة سياسية تطبق سيطرتها في حكم جمهورية الأشلاء.
لكن انفراد ماكرون بالنائب محمد رعد ممثلا زعيم حزب الله، الذي طغى على ثرثرات بعض أطراف طاولة قصر الصنوبر، وشى وكأن الزيارة الماكرونية تمت بتأشيرة من حزبلّاهية. التأشيرة التي لم تجد الدوائر الماكرونية وسيلة للتخفف منها سوى إنكارها ولو المتأخر بانفراد ماكرون ووشوشاته لمندوب نصرالله.
مقاربة الرئيس الفرنسي اللبنانية مشتقة من مقاربته الإيرانية، وهي المقاربة التي تقوم على عدم القطع مع إيران ومحاولة إيجاد آلية أوروبية للتعامل معها بعيدا عن العقوبات الأميركية.
وقد أبلغ ماكرون نظيره الأميركي ترمب “بأن العقوبات الأميركية التي تستهدف جماعة حزب الله اللبنانية المدعومة من إيران تكون نتيجتها في صالح أولئك الذين تستهدف إضعافهم.. وأن على الولايات المتحدة أن تستثمر مجددا في لبنان كي تساعد في بنائه”.
ويبدو أن ماكرون نجح في مقاربته بدليل ضمان مشاركة ترامب في مؤتمر مساعدة لبنان، الى جانب رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون والملك الأردني وممثلين عن الصين وروسيا والبنك الدولي وآخرين، وهي المشاركة التي فسرها ميشال عون بفك الحصار عن لبنان فيما الحصار يطبق على عهده استقالات نيابية ووزارية آخرها وزيرة الإعلام منال عبدالصمد، وهي المشاركة التي تفتح الطريق مجددا أمام ماكرون لزيارة طهران والتفاوض معها ممثلا عن ترامب.
وبالتوازي مع النشاط الماكروني لوحظ دخول تركيا على خط زلزال بيروت، حيث أوفد الأردوغان نائبه على رأس وفد سياسي إغاثي، حرص الإعلام التركي على تظهير حفاوة (غير عفوية) به. وهو الدخول المبني على تنافس متوسطي من شواطئ ليبيا الى شواطئ لبنان.
أما حسن نصرالله وخلال خطابه المؤجل بفعل انفجار بيروت، فقد أقسم بالثلاثة بأن محتويات العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت لا تعود لحزبه لا ماضيا ولا حاضرا، واضعا ثقته بتحقيق يجريه الجيش اللبناني طالما أنه يحظى بثقة القوى السياسية كافة، لكنها الثقة التي تقف عند وضع سلاح الحزب بإمرة الجيش اللبناني إياه، ما يعني أنها ثقة عند اللزوم وليس على الدوام.
نصرالله استفاض في إبداء عواطفه التضامنية مع أهل الضحايا المقتولين في الانفجار، كما أسهب في محاولة تسفيه وتتفيه كل من صوّب إليه وإلى حزبه سهام المسؤولية عن التفجير، وهي المسؤولية التي لا يثق المقتولون وذويهم بالحقيقة التي يعمل على كشفها “القتلة”، وهي المسؤولية التي تلف نصرالله قبل حزبه بسبب رعايته الكاملة واندماجه المطلق في منظومة المال والسلطة والسلاح التي لم تنتج غير الفساد والإهمال.
ولهذا تطابق نصرالله مع وكيله في قصر بعبدا برفض التحقيق الدولي كي لا تكشف الحقيقة التي لا قدرة للبنان على كشفها. وقد كان مثيرا للسخرية والاشفاق قول نصرالله انه يعلم بما يحصل في ميناء حيفا، أكثر مما يعلم في مرفأ بيروت، تماما كما كان مثيرا للإشفاق عندما أطلق مقولته الخالدة بعد عدوان تموز 2006 “لو كنت أعلم”.
جدير بالتذكير أنه وقبل اغتيال مرفأ بيروت بأشهر نشرت إسرائيل خريطة مفصّلة، قالت إنها تمثل المراكز التي يخزن فيها حزب الله أسلحته وصواريخه، وأيضا معامل صواريخ الدقيقة، التي تصله من إيران ومن بينها العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت حيث مقر إقامة نيترات الأمونيا، التي عثر وخلال الأعوام الماضية في منازل عناصر تابعين لحزب الله على عدة أطنان منها في كل من قبرص والكويت وألمانيا وغيرهم. أطنان الأمونيا هذه، تندرج تحت عنوان عدم معرفة وعلم نصرالله العالم والجاهل بكل شيء، بحسب مقتضيات الظروف التي لها تزخر جعبته بأسانيدها الفقهية والأخلاقية والسياسية .
وبالتوازي مع كلام نصرالله، جدّدت 17 تشرين انتفاضتها وغضبتها التي أشعلت ليل بيروت وثأرت لرصاص شرطة المجلس النيابي في صدور المتظاهرين، باقتحام مقرات وزارات الخارجية والطاقة والاقتصاد والبيئة دونما إحراقها.
فيما أصاب الحريق مقر جمعية المصارف في خطوة ذات دلالات تشي بمحاولة تحويل مسارات الغضب الشعبي عن حكومة حزب الله الذي قال الاعلام المؤيد له بأنها تهدف لإتلاف ملفات الفساد، وهو الاعلام الذي يريد تحميل الانتفاضة الشعبية مسؤولية عدم مكافحة الفساد. لكن الأكثر من لافت في غضب بيروت الذي انطلق تحت شعار تعليق المشانق، كان بتعليق مجسمات المشانق لنصرالله قبل نبيه بري.
اغتيال بيروت بدون شك، دق جرس الإنذار الكبير ليس لما افتعل فيها فحسب، وانما للتداعيات الخطيرة المترتبة والمتناسلة من هذا الاغتيال الزلزالي، إنه الاغتيال الذي يأتي في سياق تغيير وظيفة بيروت ودور لبنان في المنطقة. إنه الاغتيال الذي يقول أن مرفأ بيروت بات فعل ماض كامل، وأن مجلس الوزراء قرر تحويل البواخر الوافدة اليه الى مرفأ طرابلس الذي يتم التعامل معه ومعها بحساسية مفرطة عبر عنها عطلا أو تعطيلا مفاجئا في “سيستم الجمارك” حال دون استجابة مرفأ طرابلس لساعات طويلة، وقد تزامن ذلك مع خروج أصوات متعددة بتوزيع البواخر على كل المرافئ اللبنانية بعد تقييمها ومحاولة رفع كفاءتها.
مصيبة مرفأ بيروت رفعت شهية منظومة محاصصة الفساد باتجاه تطوير المرافئ ورفع كفاءتها لإجراء حصر ارث لمداخيل مرفأ بيروت دون دوره لسنوات قادمة.
سبق اغتيال مرفأ بيروت، اغتيال السياحة والاقتصاد والنقد والصحة والتعليم والثقافة وفرص العمل وقبلهم كمال جنبلاط ورشيد كرامي وحسن خالد ثم رفيق الحريري ومن بعده، إنه الاغتيال الممنهج للبنان الذي تغير وجهه وتغير دوره وتتغير وظيفته بشكل معاكس ومناقض لما تريده شرائح لبنانية كبيرة.
واذا كنا لسنوات قادمة أمام فيدرالية المرافئ، بعد فيدرالية النفايات، وفيدرالية الكهرباء بعد معمل باسيل في سلعاتا، وغيرها من الفيدراليات الأخرى. فماذا عن فيدرالية المطارات؟.
ما حصل في مرفأ بيروت، معطوفا على الخريطة الإسرائيلية التي سبق وكشفها نتنياهو في الأمم المتحدة حول مخازن صواريخ في ملعب العهد بالضاحية الجنوبية وأيضا قرب مطار رفيق الحريري، يشي بأن المطار هو الهدف المقبل، وعندها علينا ألا نتفاجأ إذا ما تهاطلت العواجل الإخبارية عن زلزال تفجيري دمر مطار بيروت، بل علينا أن نتطلع سريعا باتجاه مطارات رياق، حامات، القليعات في شمال لبنان، لترتسم معنا الصورة الكاملة لفيدرالية المطارات.
إنها الفيدرالية التي لها أصوات تحملها وتعبر عنها بعبارات مختلفة، فتارة تحمل اسم المؤتمر التأسيسي، وطورا المثالثة، وأخيرا “ميثاق سياسي جديد” بحسب الوصفة الماكرونية.
وطالما أنه ولزمن غير منظور لا إمكانية لنزع دبس حزب الله عن طحينة الدولة اللبنانية، تتبدى الفيدرالية العارية من أي مساحيق والمعتمدة كنظام حكم حول العالم إطارا للنقاش الذي له منصاته ومنابره غير الخجولة.
لكن تغيير النظام في لبنان كما تؤكد الوقائع الحزينة، لا يتم إلا على بحر من الدماء والأشلاء والتغييرات الدينوغرافية قبل الديموغرافية لصالح أجندات قوى إقليمية ودولية تتنافس على نهب ثرواتنا بعد تهجيرنا أو دفننا أحياء.
رابط المصدر: