إن العدالة المالية تدعم الديمقراطية. ففي غياب عائدات ضريبية كافية، لا تستطيع الحكومات ضمان الخدمات الكافية مثل التعليم، والرعاية الصحية، والحماية الاجتماعية، وتعجز عن الاستجابة لمشكلات أكبر كثيرا مثل أزمة المناخ (التي تزعزع استقرار بلدان عديدة في مختلف أنحاء العالم بالفعل). ونظرا للعواقب الوخيمة المترتبة على التقاعس…
بقلم: غابرييل زوكمان
بيركلي- ثلاثة آلاف شخص فقط يكتنزون الآن ثروات تبلغ في مجموعها 14.4 تريليون دولار، أو ما يعادل 13% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. في حين كان أصحاب المليارات على مستوى العالَـم يسيطرون على أقل من 3% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في عام 1993، فقد تسارع نمو ثرواتهم ونفوذهم السياسي منذ ذلك الحين.
بصرف النظر عن جنسياتهم، يشترك أصحاب الثراء الفاحش على مستوى العالَـم في اثنين من أوجه التشابه اللافتة للنظر: الغالبية العظمى منهم من الرجال؛ وهم يدفعون عادة ضرائب أقل كثيرا، كحصة من دخلهم، مقارنة بالموظفين والعاملين المنتمين إلى الطبقة المتوسطة في عموم الأمر. وعلى هذا فإن تَـرَكُّـز الثروة يشكل قضية عالمية، وهي قضية مثيرة للقلق إلى الحد الذي جعل مجموعة العشرين (المجموعة التي تضم أكبر الاقتصادات المتقدمة والناشئة في العالم) تتناولها رسميا في الشهر الماضي.
على حد تعبير وزراء مالية مجموعة العشرين في البيان الختامي الصادر عن مؤتمرهم في ريو دي جانيرو الذي انعقد خلال الفترة من الخامس والعشرين إلى السادس والعشرين من يوليو/تموز:
“من الأهمية بمكان أن يساهم جميع دافعي الضرائب، بما في ذلك الأفراد من أصحاب القيمة الصافية الشديدة الارتفاع (ultra-high-net-worth)، بحصتهم العادلة في الضرائب. الواقع أن التحايل الضريبي العدواني أو التهرب الضريبي من جانب الأفراد من أصحاب القيمة الصافية الشديدة الارتفاع من الممكن أن يقوض عدالة الأنظمة الضريبية. ويظل تعزيز السياسات الضريبية الفعّالة والعادلة والتصاعدية يشكل تحديا كبيرا من الممكن أن يساعد التعاون الضريبي الدولي والإصلاحات المحلية الموجهة في التصدي له”.
إن العدالة المالية تدعم الديمقراطية. ففي غياب عائدات ضريبية كافية، لا تستطيع الحكومات ضمان الخدمات الكافية مثل التعليم، والرعاية الصحية، والحماية الاجتماعية، وتعجز عن الاستجابة لمشكلات أكبر كثيرا مثل أزمة المناخ (التي تزعزع استقرار بلدان عديدة في مختلف أنحاء العالم بالفعل). ونظرا للعواقب الوخيمة المترتبة على التقاعس عن التحرك في هذه المجالات، فمن المحتم أن يدفع الأكثر ثراء حصتهم العادلة من الضرائب.
يمثل إعلان ريو مَـعلَـما مهما. فللمرة الأولى منذ تأسست مجموعة العشرين في عام 1999، اتفق جميع الأعضاء على ضرورة إصلاح الطريقة التي تُـفـرَض بها الضرائب على أصحاب الثراء الفاحش، وتعهدوا بالقيام بذلك. لكن هذا الإجماع لم يأت من فراغ. فقد غطى أنصار العدالة الضريبية قسما كبيرا من الأرض في الأشهر التي سبقت انعقاد القمة.
تشغل البرازيل رئاسة مجموعة العشرين الدورية هذا العام، وفي أواخر فبراير/شباط، دعاني وزير مالية البلاد، فرناندو حداد، للتحدث في اجتماع رفيع المستوى في ساو باولو. وقد كُلِّفت بكتابة تقرير عن العدالة الضريبية وفرض الضرائب على أصحاب الثراء الفاحش (وهو محور عملي بصفتي مؤسس ومدير مرصد الضرائب في الاتحاد الأوروبي الذي يتخذ من باريس مقرا له)، والذي قدمته في أواخر يونيو/حزيران، لإثراء مناقشات قمة يوليو/تموز.
في التقرير الذي حمل عنوان “مخطط أولي لمعيار الحد الأدنى الضريبي الفعّال المنسق الواجب على الأفراد من أصحاب القيمة الصافية الشديدة الارتفاع”، تَـقَـدَّمتُ باقتراح لمعيار ضريبي فعّال جديد يتضمن ضريبة حد أدنى منسقة بنسبة 2% من الثروة تُـفـرَض على هؤلاء الأفراد ــ ثلاثة آلاف ملياردير على مستوى العالَـم. لن يعمل هذا المعيار على توليد عائدات كبيرة فحسب (حوالي 200 إلى 250 مليار دولار أميركي سنويا)؛ بل إنه كفيل أيضا بتصحيح الظلم البنيوي الذي يعيب الأنظمة الضريبية المعاصرة، والتي بموجبها تكون معدلات الضرائب الفعلية المفروضة على أصحاب المليارات أقل من تلك المفروضة على أفراد الطبقة المتوسطة.
يؤيد الجمهور العالمي بأغلبية ساحقة فرض ضرائب عادلة على أصحاب الثراء الفاحش. وفقا لاستطلاع آراء أجرته شركة إيبسوس في بلدان مجموعة العشرين، ونُشر في يونيو/حزيران، يتفق 67% من الناس على وجود قدر أكبر مما ينبغي من التفاوت الاقتصادي، ويؤيد 70% مبدأ إلزام الأثرياء بدفع معدلات ضريبة دخل أعلى.
يشير إعلان ريو إلى تحول كبير: فلم يعد بوسع زعماء العالم أن يدعموا نظاما يسمح لأصحاب الثراء الفاحش بدفع ضرائب أقل من بقيتنا دون خوف من حساب. لقد اتفق وزراء المالية بالفعل على خطوات أولية مهمة لتحسين الشفافية الضريبية، وتعزيز التعاون الضريبي، ومراجعة الممارسات الضريبية الضارة.
صحيح أننا لم نشهد إجماعا سياسيا على إدراج ضريبة الحد الأدنى بنسبة 2% على أصحاب المليارات في النص النهائي. إذ كان من اللازم حصول الإعلان على الموافقة بالإجماع، ولا تزال بعض البلدان تُـبـدي تحفظات إزاء بعض جوانب الاقتراح. على سبيل المثال، في حين تدعم إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن فرض ضريبة حد أدنى على أصحاب المليارات محليا، فإنها كانت عازفة عن طرح القضية على الساحة الدولية.
ولكن لا عودة إلى الوراء. فقد أصبحت ضريبة الحد الأدنى الآن على جدول الأعمال، وبالنظر إلى تاريخ المفاوضات الضريبية الدولية، سنجد أسبابا ملموسة للتفاؤل بشأن مستقبل الاقتراح. في عام 2013، أقَـرَّت مجموعة العشرين بانتشار تهرب الشركات المتعددة الجنسيات من سداد الضرائب على نحو جامح، الأمر الذي أعطى الزخم السياسي اللازم للتصدي لهذه القضية. تضمنت خطة العمل الأولية التي وضعتها تحسين الشفافية الضريبية، وتعزيز التعاون الضريبي، ومراجعة الممارسات الضريبية الضارة ــ وهي ذات الصياغة المستخدمة الآن في ريو. ثم في أكتوبر/تشرين الأول 2021، تبنت 136 دولة ومنطقة (140 الآن) ضريبة حد أدنى على الشركات بنسبة 15%.
ما يدعو إلى التفاؤل أننا لا نحتاج إلى أن تتبنى جميع الدول ضريبة حد أدنى بنسبة 2% على أصحاب المليارات (أو من يملكون عشرات أو مئات الملايين، إذا ارتأى صناع السياسات ذلك). نحن ببساطة في احتياج إلى اتفاق كتلة حرجة من البلدان على مجموعة من القواعد لتحديد وتقييم ثروات أصحاب الثراء الفاحش وتبني أدوات لفرض ضرائب فعّالة بصرف النظر عن محل الإقامة الضريبي لإصحاب المليارات. بهذه الطريقة، يمكننا تجنب السيناريو حيث يفر أصحاب الثراء الفاحش إلى الملاذات المالية، وبالتالي إنهاء السباق إلى القاع بين البلدان التي تتنافس لعرض أدنى معدل ضريبي على أصحاب المليارات.
على مدار السنوات العشر الأخيرة أو نحو ذلك، تحسن التعاون الدولي بشأن الضرائب بدرجة كبيرة. على سبيل المثال، نجح إدخال التبادلات التلقائية للمعلومات المصرفية في الحد بشكل كبير من إمكانية التهرب الضريبي. نحن بالفعل نمتلك الأدوات اللازمة لإجبار أصحاب المليارات في العالم على دفع نصيبهم العادل من الضرائب. والأمر متروك الآن للحكومات للتحرك بسرعة وفعالية.
المصدر : https://annabaa.org/arabic/economicarticles/39715