ما يحدث في فرنسا عقب الأعمال الإرهابية المدانة بكل المقاييس من ردود أفعال متبادلة يشي بعمق الأزمة التي يعانيها الإسلام و المسلمون في هذا البلد وهي أزمة قديمة/ جديدة. إن وصول أنظمة شعبوية للحكم في القارة العجوز ومن بينها النظام الفرنسي فاقم الأزمة، فآستيقظت تبعا لذلك مشاعر معاداة الإسلام من ترسّبات الماضي، المُتلبّس الحروب الصليبية وما قبلها وطفحت على السطح الصور النمطية عن الإسلام وعن نبيه، هذا الظهور يعبر عما إرتكس في العقل الباطن الغربي من تمثّلات مجانبة للحقيقة والتاريخ حول الآخر المختلف وهي تنبعث في الأزمات والصدام الحضاري لتكشف على أن الغرب المنتشيَ بعقلنيته وتقدمه قد عجز فكره النقدي عن تفكيك تلك التصورات والتخلّص من شحنتها السلبية مما جعله غير قادر على أن يخطو نحو الآخر الذي يقاسمه الملح والخبز خطوة واحدة، ليفهمه و يعترف له بخصوصيته ويرى فيه إثراء لثقافته وإضافة لحضارته، بل العكس هو الذي يحدث، لقد عملت السلطة الفرنسية على توظيف تلك التمثلات في صراعاتها السياسية والإيديولوجية في الداخل والخارج مستحضرة صراعا هوويا، مغذية خوفا متوهما من الإسلام غير عابئة بآرتداداته الكارثية.
المقدمة:
إن الأحداث المتسارعة في فرنسا منذ الجريمة الإرهابية المدانة و المرتكبة ضد أستاذ التاريخ صاموئيل باتي، بسبب تقديمه درسا حول الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، تسارعت الأحداث لا سيما بعد الموقف الرسمي الفرنسي من الحادثة وإجراءات التضييق المسلطة على الجالية المسلمة في فرنسا والمتّصلة بدور العبادة وبالجمعيات الإسلامية الناشطة هناك، إضافة إلى إنفراط مشاعر الكراهية والعنصرية من عقالها ضد كل ما هو إسلامي في تماه مع ما وجهته السلطة الرسمية من إتهامات تجاه “الإسلام السياسي” تحديدا، في عملية خلط متعمدة بين الإسلام كديانة توحيدية وبين ما يأتونه بعض المنتسبين إليها من أفعال يرفضها القانون و تدينها الأخلاق والشرائع وأوّلها الدّين الإسلامي بل إن ما زاد الأمر تعقيدا موقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الداعم لتلك الرسوم والإصرار على إعادة نشرها ضمن قناعة “حرية التعبير” . فعدم التناسب la disproportion ما بين الفعل – على فظاعته – و ردود الفعل عليه حيث إعتبر السلطة الفرنسية ما حدث إعتداءً على مبادىء الجمهورية وقيمها، يطرح أكثر من تساؤل، و هذا ما يجعلنا نبحث في خلفيات المواقف المتخذة و ردود الأفعال ضمن السياقات الحافة بالحادثة وبتداعياتها.
1 – السلطة الفرنسية و مآزقها الداخلية و الخارجية:
يعيش نظام ماكرون أزمات متعددة الأوجه منذ سنتين تقريبا، من أبرز تجلياتها، تراجع شعبية الرئيس الفرنسي في آخر إستطلاعات الرأي الخاصة لزعماء الأحزاب والشخصيات السياسية والذي أنجز في بداية شهر أكتوبر الحالي فقد تحصل على نسبة 59 في المائة في تراجع بست نقاط عن الإستطلاعات السابقة، في حين تحصل فيون Fillon على 43 في المائة مع تراجع طفيف بواحد في المائة، في حين تحصلت مارين لوبان Marine le Pen على 18 في المائة بزيادة ثلاث نقاط عن آخر إستطلاعات الرأي (1 ) و هنا مربط الفرس، فالصعود الواضح لليمين المتطرف أحدث إرباكا داخل حزب الجمهورية إلى الأمام la République en Marche الذي يعمل على توسيع قاعدته الإنتخابية خاصة داخل اليمين التقليدي الذي تشير الإحصائيات الأخيرة إلى توجهه نحو اليمين المتطرف، لاسيما و أن الإنتخابات الرئاسية المقبلة على مرمى حجر- سنة 2022 – فكان لا بد من العمل على الإستثمار في الإسلاموفوبيا وهو المجال الذي يحسن اليمين عادة و اليمين المتطرف خاصة الإشتغال عليه، بإثارة الصراع الهووي و ضرورة التصدي للهويات القادمة التي من شأنها أن تغير طبيعة المجتمع الفرنسي، لم تقف أزمة الحكم في فرنسا عند هذا الحد، فقد عمقت نتائج الإنتخابات البلدية و القروية الأخيرة و التي أجريت في دورتين، الدورة الأولى في 15 مارس، و الدورة الثانية في 28 جوان الماضي و التي إحتل فيها حزب الجمهورية إلى الأمام المرتبة الثانية عشر، ففي الدورة الأولى تحصل على 268 مقعدا بنسبة تقارب 1،65 في المائة، و في الدورة الثانية على 356 مقعدا بنسبة تقارب 0،28 في المائة .(2) و من تداعيات نتائج تلك الإنتخابات إستقالة الوزير الأول إدوارد فيليب Edouard Philippe في جويلية الفارط بعيد صدور نتائج الإنتخابات. إن ما عاشته فرنسا منذ إعتلاء ماكرون سدة الحكم من أزمات إجتماعية و إقتصادية وصحية كان عنوانها الرئيس إحتجاجات أصحاب السترات الصفراء les gilets jaunes وهي تشي بفشل خيارات الرئيس في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وسعيه لخدمة رجال الأعمال والأثرياء ممن وقفوا إلى جانبه ومولوا حملته الانتخابية، مما عمق الفوارق الاجتماعية، فآنتفضت النقابات العمالية في سلسلة من الإضرابات دفاعا عن منظوريها ضد السياسات الحكومية المنتهجة، أضف إلى ذلك أزمة الكوفيد 19 وما خلفته تلك الجائحة من خسائر بشرية، أفضت إلى تقديم شكاية قضائية بوزير الصحة لفشله في إدارة الأزمة الصحية التي عصفت بالبنى التحتية للنظام الصحي الفرنسي.
على الصعيد الإقليمي والدولي يبدو أن وضع فرنسا غير مريح، لا سيما في الملف الليبي حيث راهنت على قوى الثورة المضادة لتطلعات الشعوب في الحرية والإستقلالية الحقة، فدعمت أنظمة عسكرية لضمان مصالحها – مصر والمشير خليفة حفتر- وتناغمت إستراتيجيا مع الإمارات العربية المتحدة والسعودية في محاصرة كل نفس تحرري وإجهاض تجارب الإنتقال الديمقراطي الناجحة في المنطقة عبر عملائها الذين يقاسمونها رؤيتها.
لقد آن لشعوب المنطقة أن تنتفض ضد جلادي الأمس، الناهبين للثروات والراسمين للسياسات. إن ما يحدث في منطقتنا هو حالة وعي بخطورة ما تأتيه فرنسا من ممارسات تجاه مستعمراتها القديمة، فما وقع في مالي مؤشر هام على رغبة الشعوب في تحديد مصيرها بنفسها و التصرف في ثرواتها وفق مصالحها العليا بعيدا عن كل أشكال الوصاية و التدخل السافر في شؤونها الداخلية. لقد إختارت فرنسا دوما الوقوف إلى جانب أنظمة إستبدادية تضمن من خلالها تدفق النفط والغاز وشتى أنواع المعادن النفيسة، لقد كانت الممول الرئيسي لتلك الأنظمة بشتى وسائل القمع و الردع والتنكيل في تناقض صارخ مع الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الشعوب في إمتلاك مصيرها بيدها وآختيار من يحكمها.
2 – تقرير برنار ستازي و إصلاح العلمنة المجهض:
أ – في ضرورة مراجعة المدونة القانونية:
بعيد الجدل الكبير الذي أثارته مسألة إرتداء الحجاب في فرنسا، في الفضاء المدرسي في أكتوبر من سنة 1989 ، وتبعا لذلك طرحت مسألة حمل الرموز الدينية في الفضاء العام، كان ذلك أول تحد تواجهه الدولة الفرنسية العلمانية، فقد أحدثت هذه المسألة حوارا إستمر لسنوات و مازال إلى الآن يثير ردود أفعال متباينة ولكن بوجوه مختلفة مما حدا بالرئيس الفرنسي جاك شيراك إلى تكليف السيد برنار ستازي وهو سياسي متخرج من المدرسة الوطنية للإدارة، بتشكيل لجنة للتفكير في مسألة كيفية تطبيق مبدأ العلمانية/ اللائكية في شتى مجالات الحياة من بينها التعليم و السجون…،تم تشكيل اللجنة في 3 جويلية سنة 2003، و قد قدمت تقريرها و توصياتها إلى الرئيس في 11 ديسمبر من العام نفسه. تركبت اللجنة من عشرين عضوا، من بينهم شخصيات مرموقة في إختصاصها نذكر منهم: رجيس دبري فيلسوف وكاتب وأستاذ جامعي، جيل كيبال أستاذ جامعي بمعهد الدراسات السياسية بباريس، محمد أركون أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة السوربون وآلان توران عالم الإجتماع ومدير الدراسات بالمدرسة العليا للعلوم الإجتماعية،… يستفاد من التقرير ومن توصياته في الجانب المتعلق بالقوانين، أن فرنسا لم تحين مدونتها القانونية في مادة العلمانية/ اللائكية هي مادة مختصرة فمنذ دستور 1946 أصبح مبدأ العلمانية laïcité له قيمة دستورية، يعترف تقرير ستازي أن تلك المدونة متكونة من أحكام مبعثرة في نصوص قانونية مختلفة وليست ضمن مدونة جامعة و منظمة، هي نصوص متفرقة مستمدة جميعها من المبادىء المؤسسة لقانون 1905
إن مهمة لجنة ستازي أن تلعب دور المعدل الإجتماعي للعلمنةun régulateur social de la laïcité وذلك بآستنباط القاعدة القانونية من النصوص الدستورية و من المعاهدات والإتفاقيات الدولية و أيضا من المعايير المطبقة والمبادىء العامة المستخرجة من القانون و من فقه القضاء. إن هذا يستدعي من السلطة الفرنسية مراجعة قوانينها وتحيينها على ضوء المعاهدات الدولية التي أكدت على الحرية الدينية التي تم التنصيص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10 ديسمبر 1948 و كذلك إتفاقية مناهضة التمييز في مجال التعليم المتبناة من المنظمة العامية للتربية والثقافة والعلوم UNESCO وكذلك المعاهدتين الدوليتين للأمم المتحدة الممضاتين في 19 ديسمبر 1968 حول الحقوق المدنية والسياسية من جهة و الحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية من جهة أخرى، كما أن الإتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والحريات الأساسية و في فصلها التاسع تحمي الحرية الدينية، مع أنها تترك لدول الإتحاد الأوروبي إمكانية الحد من تلك الحرية عندما ترى فيها إخلالا بالنظام العام، في الأساس يمكن الفصل التاسع هذا المحكمة الأوروبية من النظر في المسائل المتعلقة بالعلمنة (3) ولاسيما ضرورة إحترام الأديان و عدم المس من مشاعر المنتسبين إليها وهو ما حدا بالمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان إلى إصدار حكم في سنة 2018 قضى بأن الإساءة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم لا تندرج ضمن حرية التعبير، وهي إدانة ضد سيدة نمساوية أطلقت تصريحات مسيئة للرسول عام 2009 وصنفت تصريحاتها كهجوم مسيء على رسول الإسلام، وأنها تعرض السلام الديني للخطر.(4 ) إلا أن ما أتته صحيفة شارلي هيبدو من رسوم كاريكاتورية مسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم سنة 2015 أفظع و أفدح و هو في مضمونه لا يخرج عن مبررات الإدانة التي قضت بها المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. إن الإتحاد الأوروبي وفي علاقة بالتراثات الدينية المنصوص عليها في الإتفاقية السالفة الذكر، فإنه لا يشير إلى مبدإ الفصل بين السلطة السياسية و السلطة الدينية أو الروحية. و داخل الإتحاد الأوروبي يفضلون مصطلح علمنة sécularisation على مصطلح لائكية laïcité .(5 ) إن الأحداث الأخيرة، بقدرما تتطلب من الجالية المسلمة بفرنسا إحترام مبادىء الجمهورية و قيمها والتقيد بمقتضيات العيش المشترك، فإنها تقتضي من السلطة الفرنسية اليوم و أكثر من أي وقت مضى ضبط مدونتها القانونية المتصلة باللائكية على إيقاع الإتفاقيات الدولية و الأوروبية المنفتحة على إعادة الإعتبار لمكانة الدين في الفضاء العمومي، لا سيما بعد التحولات الإجتماعية و الثقافية التي تعيشها فرنسا حيث تتعايش ثقافات متنوعة و ذات ينابيع مختلفة تمثل ثراء لها عليها أن تنفتح عليها و تتفاعل معها بدل العمل على إدماجها قسرا في قوالب موروثة عن فترة العلمانية المناضلة والمتطرفة.
ب – التعليم العام و الحدث الديني le fait religieux :
لم يكن بوسع لجنة ستازي أن تنأى بنفسها عن النظر في التعليم العام، لا سيما وأن دواعي النظر في العلمنة/ اللائكية كان منطلقها مسألة إرتداء الحجاب في المدارس العمومية، كما أن جل أعضاء اللجنة مدرسون بالجامعات الفرنسية. التعليم هو مصنع الأجيال القادمة وبرامجه الدراسية هي الوسائل لتنشئة مواطنين متوازنين يحترمون مبادىء الجمهورية و قيم حقوق الإنسان في كونيتها و يؤمنون بالإختلاف وبحق الآخرين في أن يكونوا كما هم بعيدا عن محاولات تدجينهم وصوغهم في قوالب جاهزة، قبل التطرق إلى ما ورد في التقرير من توصيات متعلقة بالتعليم، نشير إلى اللجنة دعت في القسم المتعلق بحياد الدولة و في الفقرة الأخيرة منه إلى أن مقتضيات الحياد المطلق يجب أن تعدل بتسويات معقولة des accommodements raisonnables تسمح لكل فرد بممارسة حريته الدينية. ثم جاء في التقرير أن الأصل في الأشياء هو الحرية وأن إظهار حرية الضمير ومن ضمنها حرية التدين مسموح بها طالما أنها لا تهدد الأمن العام، فالحرية هي القاعدة و الإجراءات الأمنية هي الإستثناء. (6) فيما يتعلق بالتعليم ذهب التقرير إلى أن وظيفة المدرسة تتمثل في السماح لتحصيل المعارف المخولة للتلاميذ أن تضمن لهم إستقلالية نقدية، و هنا يطالب التقرير المشرفين على التعليم في فرنسا بضرورة ترك المجال للتعبير عن القناعات الروحية والدينية، لذلك يؤكد التقرير على حياد برامج التعليم إزاء الديانات المختلفة وإزاء حرية الضمير وكذلك حياد المدرسين مع إلزامية إحترام حرية الضمير لدى التلاميذ و من هنا تقترح اللجنة على مجلس الدولة إقرار حرية التلاميذ في أن يحملوا الرموز الدينية داخل المدارس.(7) لو أردنا أن نعرف مآلات هذه التوصيات التي حفل بها تقرير ستازي وآثارها على المجتمع الفرنسي لأصبنا بخيبة أمل كبرى فلا صدى لذلك في التعليم وفي المجتمع حيث أن الإسلاموفوبيا إنتشرت كالنار في الهشيم، إن عتاة العلمانية اليعقوبية واصلوا فرض تصوراتهم اللائكية المتشددة في شتى مناحي الحياة، بل إنهم قدموا خدمات جليلة لرجال السياسة ليستثمروا في مسألة المهاجرين في معاركهم الإنتخابية. إن السعي إلى تجريب علمانية متجددة و منفتحة على الثقافات المختلفة، تتوائم و التغيرات الثقافية و الإجتماعية التي عرفها المجتمع الفرنسي في العشريتين الأخيرتين قد باء بالفشل. لقد إعترف جان بيار شوفنمون Jean Pierre Chevènement سنة 2017 وهو رئيس “مؤسسة إسلام فرنسا ” في حوار نشرته جريدة “العربي الجديد” بفشل المشرفين على التعليم العام في الإنفتاح على ثقافات و أديان أخرى، و ذلك حين سئل: ” هل تؤيد تعليم تاريخ الأديان في المدارس الحكومية؟ “أجاب:”هذا إقتراح أحد أصدقائي المقربين رجيس دبري و لقد تم إدراج هذه المادة فعلا في البرامج عام 2000 و لكن لا بد من أن نعترف بأن المدرسين في فرنسا غير مهيئين لتدريسها، بدا و كأن المسألة الدينية بحد ذاتها مستعصية على إدراكهم” ثم يقول:”على المدرسة أن تكون قادرة على شرح أهمية وجود الدين بحد ذاته و كذلك الروابط بين الديانات الثلاث الأساسية اليهودية، المسيحية و الإسلام” (8) لقد سبق لمحمد أركون، منذ سنة 1995 أن دعا إلى ضرورة إدخال مادة آنتروبولوجيا الأديان إلى المدارس الحكومية و ذلك حتى تتجنب فرنسا ما يتهددها من صدام الذهنيات الذي يزداد داخل مجتمع فرنسي محكوم، أكثر من أي وقت مضى، بالتعددية الثقافية والعرقية و الدينية و الفلسفية و السياسية. لقد نتج عما فعلته الجمهوريه الثالثة تعليم “معلمن” للتاريخ وللتنشئة الوطنية وللقانون ولعلم الإجتماع ولعلم الأعراق البشرية في قطيعة مع التاريخ المقارن للثقافات، ويرى أن الثقافة الأنتروبولوجية هي وحدها تسمح لنا بتخطي العوائق الذهنية التي مازالت تشكلها “المعتقدات” المتوارثة أو “العقائد” الإيديولوجية التي تريد إحتكار العلمنة وطريقة إستخدامها، ثم يختم مداخلته بتوجيه نداء إلى أصحاب القرار قائلا :”نأمل من رابطة التعليم التي تشجع التفكير في هذه المسائل أن تنجح في توجيه أصحاب القرار في وزارة التربية الوطنية نحو التغييرات المنشودة”(9).
إن العلمانية المناضلة وريثة الصراع الحاد مع الكنيسة ومع الدين ما زالت تنوء بكلكلها على العقول والمواقف والآراء، إلا أنها أصبحت اليوم تتهم بالسطحية من قبل علماء الإجتماع و الأنتروبولوجيا لأنها همشت الرمز و الدلالة والمعنى، فالبحوث في كلا المجالين و خاصة في مجال الأنتروبولوجيا الدينية كشفت أهمية المعنى، والدين من أهم الينابيع التي تولد المعنى- في حياة الشعوب وهو ما جعل أصحابها يؤكدون على ضرورة إنفتاح الإنسية العلمانية على الإنسية الدينية بحثا عن أرضية مشتركة تتكفل بإرجاع التوازن المفقود للذات الإنسانية التي ظلت لقرون طويلة عرجاء بسبب إستبداد أحد قطبي التوازن بمصير البشرية و إقصائه للطرف الآخر. (10)
3 – الإفراط في العنف الرمزي/ الإفراط في العنف المادي:
يعرّف عالم الإجتماع بيار بورديو العنف الرمزي بأنه إستخدام الرموز و المعاني والدلالات للسيطرة على الآخر و فرض هيمنة عليه و هو يمارس ضمن علاقات إجتماعية يسلطه قوي على ضعيف و تفرضه طبيعة العلاقات المتحكمة بين أطرافه(11) ومصادر هذا الصنف من العنف قد يكون التعليم ،الثقافة، المكانة الإجتماعية،الوضعية الإقتصادية، الإعلام و السياسية،.. وقد تكون الغاية من ممارسته ،إضافة إلى الهيمنة، إستفزاز فئات من المجتمع و التنكيل بها رمزيا وهو ما قامت به صحيفة شارلي هيبدو من خلال نشرها لرسوم كاريكاتورية مسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، إنه العنف الرمزي في أبشع صوره، بحكم المكانة الرفيعة للرسول ولشخصيته الكاريزماتية و لمكانته عند أتباعه، فهو أحد الأعمدة التي تقوم عليها الديانة الإسلامية. إنه رأسمال رمزي ذو قيمة رفيعة و الطعن فيه و تشويهه لا يندرج ضمن حرية التعبير لأن فيه مسّا من مشاعر مئات الملايين من المسلمين وبخاصة أولئك الذين يعيشون في فرنسا، فما أتته الصحيفة يهدد العيش المشترك لأنه إستهداف لجزء من الشعب الفرنسي وإعتداء على السلم الأهلي وإيذان بحرب دينية في قلب أوروبا. إن منسوب العنف الرمزي المسلط على المسلمين يزداد حين تتدخل السلطة السياسية للدفاع عن الرسوم وتمعن في ذلك بدعوى الدفاع عن “حرية التعبير” كرد على الجريمة النكراء والإرهابية التي هي مدانة من المسلمين قبل غيرهم والتي ذهب ضحيتها أستاذ التاريخ صاموئيل باتي وذلك بقطع رأسه بعد أن قدم درسا حول تلك الرسوم الكاريكاتورية. إلا أن ذلك لا يمنع من الإشارة إلى الأخطاء البيداغوجية و الإجرائية التي إرتكبها الأستاذ، فأن تقدم درسا عن الرسوم إلى أطفال صغار حول نبي دين من الأديان أمر مخالف لقيم المدرسة الفرنسية اللائكية المنبنية على عدم التعرض إلى المعتقدات الدينية وعدم إظهار المشاعر العنصرية تجاه الغير و عدم إقصاء أي تلميذ من الدرس، هذه أخطاء لا تبرر الفعل الإجرامي المدان. إن التوظيف السياسي لهذه الجريمة يغذي مشاعر الكراهية ضد المسلمين في فرنسا ويزيد من منسوب الإسلاموفوبيا التي تسيطر على قطاعات واسعة من الفرنسيين بسبب الشحن و القصف الإعلاميين. يتزامن ذلك مع خطاب هووي يستعيد الحديث عن فرنسا المسيحية التي تتعرض إلى تهديد إسلامي يرمي إلى تغيير هويتها ، خطاب يتردد على ألسنة الساسة هناك ولا سيما اليمين المتطرف. إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وبحكم وضعيته الصعبة، ومن وراء توجيه إتهامه للإسلام السياسي تارة، ثم للفاشية الإسلامية تارة أخرى، و أخيرا للإنعزالية الإسلامية يهدف إلى توفير الأرضية المناسبة لتوترات إجتماعية تفضي إلى ردود فعل عنيفة يتم توظيفها في محاربة الإسلام و ذلك بالتضييق على الجمعيات الإسلامية و غلق المساجد لغايات إنتخابية قادمة، خاصة و أن كل ما يحدث يخدم اليمين المتطرف الذي سيأكل من قاعدة ماكرون الإنتخابية التي ستجد في أطروحات مارين لوبان المعادية للمهاجرين مصداقية مغرية. إن حزب ماكرون ” الجمهورية إلى الأمام “تأسس على عجل و هو حزب شعبوي جاء من خارج الأحزاب الكبرى والتقليدية في فرنسا مثل التجمع من أجل الجمهورية RPR والحزب الإشتراكي PS والحزب الشيوعي الفرنسي PCF و غيرها.
إنه حزب هجين خليط من رجال الأعمال ومن سياسيين يئسوا من الأحزاب التقليدية ومن ممارساتها وما تعلق بها من تهم فساد. إن من خصائص الأحزاب ذات المنزع الشعبوي أنها في زمن الأزمات كالتي تعيشها فرنسا اليوم، البحث عن كبش فداء وذلك بآستثارة الغرائز السيئة كالأنانية والكراهية ليوجهوها ضد كبش الفداء هذا الذي يتخذ وجه مهاجر أو مسلم وذلك بتوليد الشعور بالثورة في أنفسهم ضد قسم آخر من المواطنين. فالمتأثر بالخطاب الشعبوي يتجرد من إنسانيته حين يكف عن التفكير و ينخرط دون تحفظ في موجة الإسلاموفوبيا، ها هو عالم الإجتماع الفرنسي فنسون جيسير Vincent Geisser يشرح ذلك جيدا يقول في ندوة تحت عنوانl’Afrique aux sources de la mobilité :”اليوم ، المسلم هو كبش الفداء لإخفاء إخفاقات الديمقراطية الغربية المسلم ليس هو المذنب و إنما هو الأضحية الذي من الممكن التضحية به لتبرير مشاكل أوروبا الإقتصادية والإجتماعية. “
الخاتمة:
إذا كان العنف الرمزي عنفا ناعما ومقنعا يمارس بالتواطىء مع ضحاياه كما يعرّفه علماء الإجتماع، فإن الضحية هذه المرة لم تتواطأ مع جلادها و آنتفضت إنتقاما لرسولها و لنفسها في رد فعل حضاري تمثل في مقاطعة البضائع الفرنسية، بضائع تلك الدولة التي لم تحترم دينهم و هويتهم وعملت على ترذيل رموزهم وتدنيس رأسمالهم الرمزي، آنقلب السحر على الساحر وتحول العنف الرمزي الممارس عليهم إلى عنف إقتصادي مارسته الضحية على جلادها إنتقاما لكبريائها و لكرامتها المهدورة. لقد أبانت هذه المعركة على أن الدينامو الروحي للأمة Ethosمازال يشتغل و هو قوة روحية محركة للواقع والتاريخ لأنه مشكل من مجموعة من التصورات الأخلاقية و القيمية و التي من ضمنها مركزية صورة الرسول صلى الله عليه وسلم في المخيال الجمعي للمسلمين. إن الرد على الإساءة كان عابرا للدولة– الأمة l’État- nation مما يؤكد على أن جسد الأمة الإجتماعي محصن ضد كل ما يتهدده ، و هو قادر على النهوض للرد على الأخطار التي تستهدفه.
المراجع و الهوامش :
1 – Les Échos, Valérie Mazur , Baromètre réalisé par Elabe, publié le 08 octobre 2020.
2 – Élections municipales Françaises de 2020 , WIKIPÉDIA .
3 – Extraits du rapport de la commission STASI ,sur la laïcité, open Edition journals ( deuxième partie, un corpus juridique épars ) 80 / 2004.
4 – جريدة القدس العربي ، بتاريخ 25 أكتوبر 2018 .
5 – حول الفرق بين العلمانية و اللائكية، آنظر رسلان عامر، ” العلمانية عجلة أساسية في مركبة الحل”، قسم الدراسات الدينية، موقع مؤمنون بلا حدود، 13 نوفمبر 2018 ، صص 4 – 5 .
6 – Extraits du rapport de la commission STASI sur la laïcité, la partie concernant la liberté de conscience.
7 – Ibid , القسم الثالث المتعلق بنقاط التوتر.
8 – جريدة العربي الجديد، بتاريخ 26 أكتوبر 2017 .
9 – تمت هذه المداخلة في الندوة الدولية التي إنتظمت في فضاء الأكروبوليوم بقرطاج أيام 2 ،3 ،4 نوفمبر 1995 ، و التي كان عنوانها ” من أجل تاريخ مقارن للأديان ” ، كان محور الندوة ” أديان التوحيد و الحداثات ” Monothéismes et Modernités و قد صدرت أعمالها في كتاب باللغة الفرنسية يحمل عنوان الندوة و تقع مداخلة محمد أركون بين صفحتي 359 – 372 .
10 – آنظر مقالنا “من العلمنة المناضلة إلى العلمنة المنفتحة” موقع الأوان، بتاريخ 30 أكتوبر 2010 .
11 – voir revue des sciences humaines, L’ œuvre de Pierre Bourdieu, numéro spécial, 2002, p 109.
رمضان بن رمضان ( باحث في الفلسفة في جامعة نيس)
مركز الدراسات الإستراتيجية والديبلوماسية
هي مؤسسة بحثية تغطي مجالا إقليميا واسع النطاق ، يشمل دول المغرب العربي والفضاء الإفريقي والمجال المتوسطي، مع الاهتمام بالشأن التونسي، وللمركز مقران رئيسيان بلندن وتونس… ويعمل المركز على تقديم مساهمات جادة في مجال البحوث الإستراتيجية والأمنية والاقتصادية والدبلوماسية.