رياض قهوجي
ما أسهل الكلام عن عقد وطني جديد وما أخطره عندما يأتي في وقت تشهد المنطقة تغييرات ديمغرافية وسياسية وصراعات ذات أبعاد مذهبية واثنية وعقائدية. لقد كثرت التصريحات في الآونة الأخيرة من قبل مسؤولين سياسيين وروحيين عن أن النظام السياسي الذي أنتجه اتفاق الطائف لم يعد صالحا بعد تغير الظروف في المنطقة وبالتالي يجب الاتفاق على نظام سياسي جديد يحكم لبنان.
المنادين بهذا الطرح هم شخصيات تدور في فلك ما يعرف اليوم بالثنائي الشيعي، أي “حزب الله” وحركة “أمل”. في حين أن حليفهما التيار الوطني الحر قد دعا بعض قياداته الى ادخال تعديلات على الطائف، وتحديداً فيما يخص صلاحيات رئيس الجمهورية والاتجاه نحو دولة مدنية. لكن هذا يعني تعديل الدستور، وبالتالي فتح الباب لاعادة النظر بالنظام السياسي بأسره، خاصة كيفية تقاسم السلطة بين مكونات البلد المتعددة.
لكن ماذا تغير في المنطقة وفي لبنان من أجل الدعوة اليوم لتغيير النظام؟ تزامن توقيع اتفاق الطائف مع انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة بفوز المعسكر الغربي الذي تقوده أميركا. كما جاء قبل فترة وجيزة من حرب الخليج لتحرير الكويت حيث تعززت العلاقات العسكرية والسياسية بين واشنطن ودول الخليج العربية وتحديدا المملكة العربية السعودية. ولقد مكنت حنكة الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد من تمديد وجود قواته في لبنان بموافقة أميركية-سعودية بعد دعمه ومشاركته بالتحالف الدولي لتحرير الكويت. وكانت ايران حينها في مراحل اعادة النهوض والتعافي من آثار حرب السنوات الثمانية مع العراق والتي تخللتها مواجهة بحرية مع الاسطول الأميركي في الخليج. انعكس التفاهم الأميركي-السعودي-السوري بشكل واضح في النهضة الكبيرة للبنان تحت قيادة رئيس الوزراء “السني القوي” رفيق الحريري. واستمرت تلك الفترة طوال وجود حافظ الأسد، الذي كان وقتها يستخدم ورقة المقاومة في جنوب لبنان لأهداف مرتبطة بتعاطيه مع عملية السلام في المنطقة.
بعد انتقال السلطة الى بشار الأسد في سوريا ودخول جهات عديدة على خط بيروت-دمشق وطهران-دمشق بدأت تتوتر العلاقات مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري، لكن المعادلة بقيت حتى جاءت هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) في أميركا والتي نتجت عنها مجموعة من الخطوات الكارثية في السياسية الخارجية الأميركية مثل احتلال العراق وافغانستان وازالة نظامي صدام حسين وطالبان المعاديين لطهران. ومن دون الدخول في التفاصيل عن من وكيف، اغتيل الرئيس رفيق الحريري في وقت كان يقود حملة دولية لاخراج القوات السورية من لبنان ونزع سلاح الميليشيات. رد الفعل الداخلي والدولي على الاغتيال أجبر القوات السورية على الانسحاب من لبنان تاركة خلفها “حزب الله” الذي كان عليه الحفاظ على مصالح محور طهران-دمشق والمعروف باسم “محور الممانعة”.
أدت مجموعة من التطورات والقرارات الى تغييرات اقليمية كبيرة. فلقد أدى الانسحاب الأميركي من العراق وهو في حالة صراع داخلي وفوضى نتيجة سوء ادارة واشنطن للوضع هناك الى فتح الباب على مصراعيه لايران لتثبيت نفوذها عبر أحزاب وميليشيات محلية. وبعدها جاء ما يعرف “بالربيع العربي” الذي أدى الى انشاء مناطق فراغ في سوريا والعراق سمحت بظهور حركات دينية ارهابية متطرفة مثل القاعدة وداعش، التي أيضا ظهرت في مناطق اخرى في المنطقة. تضاؤل اهتمام أميركا في المنطقة وتحول اهتماماتها الى أماكن أخرى وعودة روسيا الى الشرق الأوسط عبر سوريا واحياءها لحقبة الحرب الباردة مع اميركا بمشاركة صينية فاعلة هذه المرة، جميعها تطورات استغلتها طهران ببراعة لتضاعف من نفوذها رغم العقوبات الأميركية عليها. ويتبجح المسؤولون في ايران بأنهم باتو يسيطرون اليوم على عواصم عربية وهي بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء. استمرار تراجع النفوذ الأميركي في المنطقة وتحول اهتمام القوى الأوروبية نحو شؤون القارة الداخلية والتهديدات الروسية لحدودها الشرقية أثر على مكانة حلفائهم العرب في المنطقة.
وبينما كانت المنطقة تشهد تطورات كبيرة ومتسارعة منذ 2005، كان لبنان يشهد بدوره تطورات تمثلت بضعف وتشتت القيادة “السنية” وبدخول لاعب جديد على الساحة المسيحية وهو التيار الوطني الحر بقيادة العماد ميشال عون. وعندما اعتقدت بعض القوى اللبنانية أنه يمكن حكم لبنان عبر الدستور والنظام الديمقراطي فوجئت بتحرك السابع من أيار (مايو) الذي أدى الى اتفاق الدوحة والذي يمثل أولى خطوات تعديل الطائف. وتوالت بعدها التطورات التي شهدت ممارسات سياسية من قيادات لبنانية غلبت عليها المصالح الشخصية والمذهبية على الوطنية أدت الى تغير في التحالفات وجملة مواقف أوصلت لبنان الى الحال التي هو عليها اليوم من خراب وفوضى وافلاس وفقر وانتشار السلاح والجرائم– أي دولة فاشلة.
فعندما يتحدث البعض اليوم عن تغييرات داخلية واقليمية تحتم تعديل النظام اللبناني، فهم يتحدثون عن صعود ايران كدولة اقليمية مهيمنة وتمكن حليفها الاستراتيجي في لبنان، أي حزب الله، من لعب دور عابر للحدود وبالامساك بمعظم مفاصل الدولة، وخاصة بقرار الحرب والسلم فيه. وعليه ومن وجهة نظر الثنائي الشيعي يجب تغيير النظام اللبناني (دستور الطائف) الذي وضع برعاية سعودية-أميركية-فرنسية بآخر يكون بمشاركة الراعي الايراني يعطي للشيعة دورا أكبر في الحياة السياسية اللبنانية. لكن على حساب من: السنة أم المسيحيين؟ طبعا الحديث اليوم هو عن الغاء الطائفية واعتماد الدولة المدنية. هذا منطق في ظاهره جيد وايجابي، ولكن في المناخ والواقع الذي قد يطبق فيه قد يحمل نتائج كارثية.
التحول من منظومة طائفية-مذهبية-مناطقية الى منظومة مدنية-علمانية لا يحدث بين ليلة وضحاها ولا بكبسة زر، بل يأتي نتيجة نضوج سياسي على مستوى القيادة والشعب تجعل من المواطنة أساسا في انتماء الفرد وهو أمر غير متوفر على الاطلاق اليوم. فلبنان يشهد احتقانا مذهبيا وطائفيا كبيرا يترافق مع تفلت للسلاح غير الشرعي. فقبل الحديث عن الانتقال الى دولة مدنية يجب الاتفاق على آلية نزع السلاح وانهاء منظومة المحاصصة والزبائنية التي تتعارض مع الدستور الحالي. كيف يمكن أن تجري انتخابات ضمن نظام مدني في حين أن مكوناً واحداً عقائدياً دينياً يملك قوة عسكرية كبيرة وما يشبه بدويلة داخل الدولة. فأي انتخابات ضمن هذا الواقع يعتمد الدائرة الواحدة تحت غطاء “الدولة المدنية” سيؤدي الى فوز طرف واحد وهيمنته على السلطة. التحول الى نظام الدولة المدنية لا يتم بمجرد قرار، بل عبر خطوات تؤدي الى تعميم وترسيخ فكر ونهج مساعد.
تقود فرنسا، عرابة الدستور اللبناني الأول، الجهود الحالية لاعادة ترميم الدولة اللبنانية. مقاربة الرئيس ايمانويل ماكرون للبنان والمنطقة هي مقاربة الواقعية السياسية المدركة أن ايران باتت لاعبا اقليميا يملك نفوذا كبيرا في دول عربية مثل لبنان والعراق، ولديها مقاربة مختلفة عن تلك التي تعتمدها واشنطن رغم تلاقيهما الاستراتيجي على الكثير من المواضيع. ففي حين تستخدم الادارة الأميركية الحالية سياسة متشددة مبنية على العقوبات في تعاملها مع ايران، استخدمت فرنسا الدبلوماسية وحاولت مساعدة طهران على تخطي العقوبات الأميركية وحتى أنها جربت جمع الرئيس الأميركي مع الايرانيين. اليوم ومع انشغال واشنطن في الانتخابات القادمة وتراجع حظوظ الجمهوريين تقود فرنسا هذه المغامرة في لبنان (وحتى العراق) بالتفاهم مع ايران ومن دون سوريا لتحقيق هدف مبدئي مشترك وهو وقف انهيار الدولة وتثبيتها على قدميها عبر خطوات اصلاحية مهمة. المرحلة الثانية من الجهد الفرنسي ستكون بعد الانتخابات الأميركية ومعرفة من سيكون سيد البيت الأبيض لتحديد شكل الخطوات التالية مع ايران فيما يخص لبنان وامكانية الاتفاق على عقد سياسي جديد. وعليه فان مطلع العام المقبل سيشكل مرحلة جديدة وتضع لبنان على مفترق طرق مصيري.
رابط المصدر: